الجمعة , نوفمبر 22 2024

ما سر شبكات الأنفاق الضخمة تحت الأرض في بريطانيا؟

ما سر شبكات الأنفاق الضخمة تحت الأرض في بريطانيا؟

في سنة 2017 كشفت بيانات نشرتها هيئة سجلات الأراضي أن هناك أربعة ملايين كيلومتر من شبكات الاتصال والمواصلات ممتدة تحت لندن، وأن الكثير منها تدشن سرا بتعليمات من هيئة البريد، وهيئة الاتصالات، ووزارة الدفاع البريطانية.

وتعود تلك الأنفاق والغرف القائمة تحت الأرض إلى حقبة الحرب الباردة. وقد حازت لعقود على ألباب كثيرين.

ورغم ذلك ظلت السلطات لوقت قريب تتكتم على أمر تلك الأنفاق – وكثير منها مملوك لوزارة الدفاع لكن لم يُعترف بذلك جهارا.

كان الكشف الأبرز هو نفق “بوستماستر جنرال” السري تحت مقر الحكومة مباشرة في 57 وايت هول في العاصمة لندن.

وقد بُني النفق لحماية المعدات والاتصالات من تهديد القنابل الذرية إبان الحرب الباردة، فضلا عن المخبأ المتصل بقبو هيئة الشؤون الحربية القديمة. وقد سبق واستخدمه وينستون تشرشل.

وفي عام 2014، اشترت سلسلة فنادق رافلز مبنى الهيئة بمساحة 54 ألف متر مربع، وهو مصنف كبناء أثري من الدرجة الثانية، من المالك -وزارة الدفاع- مقابل 350 مليونا. ومن المتوقع أن يفتتح البناء كأحد أبرز فنادق العالم عام 2022.

ويربط أكثر من 40 من العجلات والتروس وعشرات المصاعد – الممتدة من منطقة إيست إند العمالية شرقي لندن القديمة وحتى قلب وايت هول- نفق بوستماستر جنرال بشبكة سرية كاملة تحت الأرض تتشعب منافذها بشكل شبه خفي لتصل بالأبنية الحكومية وغرف الاتصالات الهاتفية.

وعلى مسافة قصيرة من وايت هول توجد غرفة اتصالات هاتفية قادرة على الصمود أمام قنبلة ذرية لكونها على عمق كبير في الأرض تحت شارع هاي هولبورن.

وقد بُنيت تلك الغرفة في الأصل لتكون مخبأ يحمي الحكومة من الغارات الجوية في مطلع الأربعينيات.

وكانت تلك الغرفة خلية عمل شديد السرية لأكثر من مئتي مهندس في الفترة من الستينيات وحتى الثمانينيات.

وتمت توسعة المخبأ المكون من نفقين، بإضافة أربعة أنفاق أخرى بزوايا قائمة للتصميم الأصلي ليصبح محطة استقبال أول خط هاتف عابر للأطلسي، واتسعت المساحة لتضم مطعما، ومقهى، وصالة ألعاب، وحانة للعاملين بها.

ويقال إن تلك الحانة هي الأعمق تحت الأرض في المملكة المتحدة؛ إذ تقع على مسافة 60 مترا من مستوى الشارع أسفل محطة تشانسري لين لقطار الأنفاق.

وما زال من غير المسموح للعامة زيارة أي من تلك الأنفاق التي أزيح الستار مؤخرا عنها، باستثناء مخبأ تحت الأرض في وايت هول مفتوح للجمهور منذ عام 1984 باسم “الغرف الحربية للحكومة”.

ولكن ما لم يعلمه أحد حتى الآن هو أنه كان في الإمكان المشي مسافة ستة كيلومترات تحت الأرض من المقر لتشرشل وصولا لشارع بيثنل غرين شرقا والخروج لمستوى الشارع عبر فتحة بجزيرة تفصل اتجاهي السير.

وعُهد إلى غاي شربسول بجمع البيانات لهيئة سجلات الأراضي كاشفا عن بعض الأنفاق السرية في مدونته بعنوان “من يملك إنجلترا” وفي كتاب لاحق.

وتمكن شربسول من النزول لأنفاق تحت هاي هولبورن بمعاونة مجموعة من مستكشفي المدينة خلال بحثه.

يقول شربسول: “الأمر أشبه بكبسولة زمنية مدهشة تحت الأرض تحمل على الأرجح ملامح السبعينيات وتشبه محطة فضاء تحت أرضية بأنفاقها المتشعبة بلا نهاية مليئة بمعدات علاها التراب منذ أنْ استُخدمت يوما في اتصالات الحرب الباردة”.

لم يسمح لشربسول إلا بالدخول لجزء واحد من شبكة الأنفاق تلك، وهو يقول قطعا إن الشبكة أضخم بكثير مما رآه.

يقول شربسول: “الأجزاء التي دخلناها قد هُجرت بالتأكيد، وإن كانت مازالت مضاءة حين دخلناها، وبالتالي تتم صيانتها لحد ما. كانت المياه تتقاطر من الجدران والصدأ منتشر، ولكن أشتبه في أن الأنفاق الفعلية الأعمق مازالت تُستخدم، وإلا فما السبب في أنهم سدوا الطريق إليها ببناء جدار واضح؟”

وفي سبتمبر/أيلول صدر كتاب لـمارك أوفندن، الكاتب والإذاعي، بعنوان “مدن تحت الأرض: مسح الأنفاق وشبكات الاتصال تحت الأرض”.

وفيه يقول أوفندن إن لندن: “تضم شبكة من أكثر شبكات العالم تنوعا وتعقيدا من ممرات وأنفاق ومنافذ مستخدمة ومخفية تحت مستوى النظر”.

ويعلل الكاتب ذلك بأن لندن خلال الثورة الصناعية كانت أحدث مدن العالم وأشدها ازدحاما وحركة ووجدت الحاجة ماسة لاستخدام كل المساحات المتاحة تحت هذه المدينة عن أي مدينة أخرى.

ويضيف أوفندن: “كانت المدينة من الضخامة بحيث لا يمكن هدم الأبنية المتراصة في وسطها، فتعين البناء تحتها. كانت جحافل البشر تعيش فيها لأمد طويل في زمن ساعدت تقنياته على مدّ الكثير من الأنفاق”.

وتعدّ بريطانيا من بين أكثر بلدان العالم المُعرّفة بالخرائط، حيث مسحت “هيئة العتاد” – الهيئة الوطنية المسؤولة عن مسح الخرائط ببريطانيا – كل شبر من البلاد طولا وعرضا فوق الأرض.

ورغم ذلك فإن الوضع تحت الأرض في بريطانيا ما زال غامضا في أغلبه.

وللمرة الأولى تسعى الهيئة للخروج بصورة مفصلة بالخرائط للشبكات الأرضية والوقوف على كافة الأصول الكائنة تحت الأرض.

ويهدف مشروع بعنوان “جبل الجليد”، بالتعاون بين “كونكتد بليسز كاتابلت” (“مدن المستقبل” سابقا) وهيئة المسح الجيولوجي البريطانية وهيئة العتاد، إلى تجميع كافة البيانات المتعلقة بالشبكات الأرضية التي تشمل، في لندن وحدها، ما يتعلق بأنفاق المواصلات والسجلات الجيولوجية وخرائط المنشآت تحت الأرض.

وتجدر الإشارة إلى أنه يوجد أكثر من 1,5 مليون كيلومتر من المنشآت تحت الأرض من منشآت مياه وصرف وغاز وكهرباء – في المملكة المتحدة، وما يقدّر بأربعة ملايين كيلومتر أو أكثر من خطوط البيانات.

تقول ستيفاني بريكر، المسؤولة عن فريق جيولوجيا الحضر بهيئة المسح الجيولوجي وتعمل ضمن مشروع جبل الجليد، إن من الصعوبات التي تواجه العمل عدم وجود جهة مركزية تجمع كل البيانات الخاصة بالمنشآت تحت المدينة.

وتضيف بريكر: “تحتفظ جهات عدة ومسؤولون عديدون بمعلومات من هنا وهناك”.

وبينما ينصب تركيز هيئة المسح أولا على المرافق، كالغاز والكهرباء وأنابيب المياه وغيرها، ثمة أبعاد ثقافية وتاريخية لا يتم استكشافها تحت الأرض.

وتقول بريكر: “نسعى للحصول على تمويل للبدء في استكشاف منشآت في نوتنغهام وإدنبرة باعتبارهما مدينتين لهما تاريخ خاص من المنشآت تحت الأرض. ونأمل ليس فقط في استكشاف الجانب المادي بل أيضا البعد الاجتماعي المتعلق بتلك المرافق”.

واليوم ثمة اهتمام متزايد في بريطانيا وخارجها بالكشف عن تلك الأسرار التي تختفي “تحت الأرض” – بالمعنى الحرفي لا المجازي فقط.

وتصف آنا باول-سميث، مؤسِسة مركز البيانات العامة، الأنفاق السرية بأنها “اندرجت فعلا تحت بند أسرار الأمن القومي في حقبة أو أخرى، لكن عفا عليها الزمن ولم تجد بين الجهات العامة من يمسحها باعتبار عدم وجود حاجة لذلك”.

وتشيع أقاويل عن أن محطة قطارات أنفاق ويستمنستر، القريبة من مبنى البرلمان بلندن، لم تحصل على الترخيص إلا بعد أن رفضت الحكومة مسارات عدة دون إبداء أسباب.

ويعتقد أن العلة كانت في وجود شبكة كاملة من الأنفاق السرية تصل أبنية الحكومة في تلك المنطقة بعضها ببعض، كما اكتُشف لاحقا.

وفي مدينة تخضع لرصد ورقابة مركزة مثل لندن، كان النزول تحت الأرض هو السبيل لدفن الأسرار.

يقول أوفندن: “الماضي على الأرض في لندن يمشي دون علم منه على مئات الأميال من الأنفاق والممرات والمنافذ وأنابيب وغرف الصرف والأماكن الخفية التي لا يعي أغلب الناس شيئا عنها”.

ومن ذلك أنفاق تهريب يقال إنها ملحقة سرا بالعديد من خطوط قطار الأنفاق في لندن، كخط جوبيلي، ليتسنى للأسرة المالكة الهرب من قصر باكنغهام حال التعرض لهجوم.

فهل هذا حقيقي فعلا؟ يقول أوفندن إن الغد لناظره قريب. ولكن الآن يبقى الأمر سرا بين طيات الأرض تحت شوارع لندن وأزقتها المزدحمة.

نتاشا كولار رلفبي بي سي