إردوغان بين بايدن وترامب.. أحلاهما مرّ
لا تخفي أنقرة قلقها من احتمالات فوز جو بايدن المعروف بمواقفه السلبية تجاه تركيا، وخصوصاً في خلافاتها مع اليونان وقبرص، على الرغم من تضامنه مع إسلاميي “الربيع العربي” عندما كان نائباً لأوباما.
بعد أن هدّد ترامب وتوعَّد بإعلان الإخوان المسلمين تنظيماً إرهابياً خلال حملته الانتخابية السابقة، وهو ما تراجع عنه لاحقاً بسبب السياسات الأميركية التقليدية، استمرت واشنطن في علاقاتها “المميزة” مع أنقرة، على الرغم من سياسات المد والجزر بين الطرفين، أي ترامب و”الإسلامي” إردوغان.
وعلى الرغم من اتهامات الرئيس إردوغان لواشنطن بتقديم كلّ أنواع الدعم لوحدات حماية الشعب الكردية في سوريا، فقد تهرّبت أنقرة من توتير العلاقة مع حليفتها الاستراتيجية الولايات المتحدة الأميركية، رغم تغريدات الرئيس ترامب على موقع تويتر، والتي هدّد من خلالها إردوغان وتوعّده في حال اعتدى على كرد سوريا، ثم الرسالة التي أرسلها، وفيها الكثير من الإهانات الشَّخصية له.
في المقابل، لم تمنع هذه التهديدات والإهانات إردوغان من الاستمرار في علاقاته مع بوتين، والتي شهدت بدورها الكثير من حالات المد والجزر التي استفاد منها ترامب، إذ عمل على ترسيخ الوجود العسكري الأميركي شرق الفرات، بعد أن أضاء الضوء الأخضر لإردوغان كي تسيطر قواته على المنطقة الممتدة بين تل أبيض ورأس العين بعرض 110 كم من الحدود السورية مع تركيا شرق الفرات، وهو ما تحقَّق للأخير بفضل الضوء الأخضر الروسي، فلولاه منذ البداية (آب/أغسطس 2016)، لما كان الحديث الآن عن خلافات روسية – تركية في إدلب أو ليبيا، وأخيراً القوقاز حيث الحرب الأذربيجانية الأرمينية.
ولم تمنع هذه الخلافات الطرفين من الاستمرار في التعاون الواسع في العديد من المجالات، ومنها الغاز الطبيعي وبناء المفاعل النووي جنوب تركيا، وأخيراً موضوع صواريخ “أس 400″، التي كانت، وما زالت، الموضوع الأهم في الفتور والتوتر بين واشنطن وأنقرة، من دون أن يتحول هذا التوتر إلى مواجهة ساخنة بين الطرفين، على الرغم من تهديدات ترامب والمسؤولين الأميركيين المستمرة لإردوغان، وكأنّ الجميع يمثل، ليس فقط في هذا الموضوع، بل في كل الأمور التي تحولت إلى قاسم مشترك في علاقات تركيا مع كل من روسيا وأميركا.
يأتي ذلك في الوقت الذي يراهن الكثيرون على المواقف المحتملة للرئيس إردوغان خلال المرحلة القريبة القادمة، أي بعد الانتخابات الأميركية التي ستنعكس بنتائجها على سياسات تركيا الداخلية والخارجية، وبشكل خاص تحركات إردوغان الإقليمية،
أي في الساحات التي لها علاقة مباشرة وغير مباشرة بالتنسيق والتعاون أو الخلافات التركية – الروسية، فأنقرة لا تخفي قلقها من احتمالات فوز جو بايدن المعروف بمواقفه السلبية تجاه تركيا، وخصوصاً في خلافاتها مع اليونان وقبرص، على الرغم من تضامنه مع إسلاميي “الربيع العربي” عندما كان نائباً للرئيس أوباما.
ولم تهمل أنقرة حسابات التأقلم سريعاً مع تبعات هذا الاحتمال الذي تتوقعه استطلاعات الرأي الأميركية. في المقابل، تتخذ أنقرة كل التدابير لمواجهة مفاجآت المرحلة القادمة في حال بقاء الرئيس ترامب في البيت الأبيض، لأنه سيستمر في سياساته الحالية التي يريد لها أن تحقق انتصاراً حاسماً ومطلقاً لتل أبيب، وهو ما قد يحرج إردوغان،
بعد المعلومات التي تتوقع لقطر أن تلحق بركب التطبيع، مع الحديث عن احتمالات المصالحة السعودية – القطرية قبل المصالحة السعودية مع “إسرائيل” أو بعدها. وقد تسبقها مصالحة أو استسلام سوداني وعماني ومغربي وجيبوتي لـ”إسرائيل”، إن صحَّ التعبير، في حال فوز ترامب. وسيدفع كل ذلك ترامب إلى الاستعجال في حسم مساوماته السياسية وحربه النفسية مع إردوغان، ليقول له: “اختر لنفسك موقعاً ما في مخطَّطاتي العاجلة، وأثبت لي ولنا جميعاً أنك حليف صادق وموثوق به دائماً”.
وقد يدفع ذلك إردوغان إلى التفكير في تقرير مصير علاقاته مع الرئيس بوتين بعد وعود واضحة من الرئيس ترامب بتقديم كل أنواع الدعم السياسي والمالي والاستراتيجيّ، ليساعده ذلك على تحديد إطار ومضمون الدور التركي في سوريا وليبيا والعراق والقوقاز، بل والعديد من دول البلقان والدول الأفريقية، وأهمها الصومال.
وفي هذه الحالة، هل سيستمرّ إردوغان في تحالفاته التقليديّة مع الإسلاميين في المنطقة، في حال رضوخ حليفه الأكبر الشيخ تميم لمطالب وشروط المصالحة الخليجية التي ستعني في الوقت نفسه المصالحة مع “إسرائيل”، وهي جميعاً ضدّ المزاج الشخصي للرئيس إردوغان، الذي لا يخفي عبر مقولاته في الداخل والخارج الحديث عن مشاريعه العقائدية على طريق إقامة الدولة الإسلامية بنكهتها العثمانية التركية التي تشجَّع لها إسلاميو المنطقة، وبايعوه ضد العدو التقليدي آل سعود وأميرهم الشاب محمد المتهم بجريمة جمال خاشقجي الشنيعة؟! وكيف سيحصل ذلك؟
وتتحدَّث المعلومات هنا، ولو كانت شحيحة، عن احتمالات الانفراج في العلاقات التركية مع مصر، لسدّ الطريق على التحركات السعودية والإماراتية، وهو ما قد يعني تجميداً مرحلياً في الدعم التركي للإخوان المسلمين. ولا يخفي السوريون تخوّفهم من مثل هذا الاحتمال، وخصوصاً بعد الانسحاب من نقاط المراقبة التركية في جوار إدلب، في الوقت الذي تراقب أنقرة، عن كثب، ما كشف عنه الإعلام الأميركي، وبشكل مقصود، عن خفايا زيارة مسؤولين من البيت الأبيض إلى دمشق، وصادف ذلك عودة الرحلات الجوية بين دمشق وكل من قطر والإمارات، فالأولى حليفة إردوغان، والثانية من ألد أعدائه.
وبات واضحاً أن إردوغان سيجد نفسه في وضع لا يحسد عليه، أياً كانت صحة الاحتمالات والتوقعات، أي بفوز ترامب أو هزيمته أمام الديموقراطي جو بايدن، الذي لا شك في أنه سيتحرك وفق توصيات هيلاري كلينتون، صديقة أحمد داوود أوغلو، وهو الآن من ألدّ أعداء إردوغان. كما سيضع بايدن توصيات نائبه كامالا هاريس وزوجها اليهودي بعين الاعتبار خلال تعامله مع كل الملفات ذات العلاقة المباشرة وغير المباشرة بسياسات إردوغان الخارجيّة، وهي لها أيضاً علاقة مباشرة بمجمل الحسابات الإسرائيلية.
وحينها، سيجد الرئيس إردوغان نفسه أمام خيارات صعبة ومعقَّدة جداً، ما سيضطره إلى وضع النقاط على الحروف في مجمل سياساته الخارجية بانعكاساتها المحتملة على سياساته الداخلية، بعد أن اعترف الأسبوع الماضي بفشله في تطبيق مشروعه الفكري العقائدي، أي أسلمة الأمة والدولة التركية.
ولا شكَّ في أنّ كلّ هذه التناقضات ستضعه أمام امتحان صعب جداً، سيدفعه إلى تحديد المسارات الجديدة لسياساته الخارجية التي ستتطلَّب منه تقرير مصير علاقاته مع الرئيس بوتين في سوريا في الدرجة الأولى، لينتقل منها إلى ملفات أبسط بكثير في ليبيا والقوقاز، فالجميع يعرف أن سوريا كانت بوابة الانفتاح والتدخل التركي باتجاه العالم العربي، حيث أصبحت تركيا طرفاً مباشراً وأساسياً في جميع ملفاته، بما في ذلك مساوماته مع الرئيس بوتين حول كل العناوين الرئيسية، ليس في سوريا فقط، بل لاحقاً في ليبيا، والآن في القوقاز، في الوقت الَّذي لم يهمل إردوغان تحدياته للدول الأوروبية بسبب دعمها لقبرص واليونان، وهو بحاجة إلى التوتر معها لتحريك المشاعر القومية والدينية “ضد أعداء الأمة والدولة التركية”!.
هذا بالطبع إن لم تكن كلّ هذه المعطيات الحالية جزءاً من سيناريوهات متفق عليها مسبقاً بين بوتين وإردوغان، وهو احتمال ضعيف، إن لم نقل مستحيلاً، إلا في حالة واحدة، وهي المعجزة، لأنها ستعني في هذه الحالة انتقال تركيا من خانة التحالف الاستراتيجي مع الغرب منذ العام 1946 إلى الخندق المعادي، وهو أيضاً مستحيل بسبب الكثير من المعطيات التاريخية والسياسية التي ستعرقل مثل هذا الاحتمال. وآخر مثال على ذلك حرص أنقرة على التحالف السياسي والعسكري والاستراتيجي مع الرئيس الأوكراني “اليهودي” زالانسكي، العدو الأكبر لموسكو، والمدعوم من واشنطن ومعظم عواصم الاتحاد الأوروبي.
وقد أثبتت معظمها، رغم خلافاتها مع إردوغان، أنها ما زالت في عقلية الحرب الباردة ضد روسيا بعد 30 سنة من تمزق الاتحاد السوفياتي الذي كان العدو الأخطر بالنسبة إلى تركيا بسبب العداءات التاريخية والخطر الشيوعي. وبسقوطه، تنفَّست تركيا الصعداء، ولم تخفِ فرحتها لاستقلال الجمهوريات الإسلامية في القوقاز وآسيا الوسطى، وهي ذات أصل تركي، حالها حال جمهوريات الحكم الذاتي داخل حدود روسيا الحالية، وكانت جميعاً جزءاً من نظرية الحزام الأخضر للثنائي الأميركي اليهودي كيسنجر وبريجنسكي.
وفي جميع الحالات، وأياً كانت حسابات كل الأطراف في ما يتعلق بالمنطقة، فقد بات واضحاً أن الأيام القليلة القادمة، سواء مع ترامب أو بايدن، ستحمل في طياتها الكثير من المفاجآت المثيرة بالنسبة إلى المنطقة عموماً، كما ستضع إردوغان وجهاً لوجه أمام اختباره الأكبر في سياساته الخارجية، وسنرى معاً وقريباً مؤشراتها الجديدة في سوريا، لأنها قفل المرحلة القادمة ومفتاحه بالنسبة إلى الجميع!
فهل دمشق مستعدة وقادرة مع حليفاتها على مواجهة مفاجآت هذه المرحلة بكل معطياتها الصعبة والمعقدة؟ وهل استخلصت الدروس الكافية والضرورية من جميع محنها وأخطائها، حتى يتسنى لها الانتصار على جميع أعدائها أم أنها ستبقى ورقة في مهب الرياح الإقليمية والدولية، كما هي عليه منذ 9 سنوات، والسبب في ذلك هو حسابات إردوغان في سوريا؟
الميادين _حسني محلي
اقرأ ايضاً: الحربي السوري يحيد 75 مسلحا من أبرز التنظيمات المصدرة للمرتزقة نحو ليبيا وأذربيجان