إردوغان وماكرون.. انتظروا المزيد من التّصعيد والمفاجآت
المد والجزر في العلاقة الشخصية بين إردوغان وماكرون قد تكون نتاج معرفة رئيس المخابرات الفرنسية الخارجية DGSE ، برنارد إيميه، بشخصية إردوغان الداخلية والخارجية ونياته ومخططاته.
اكتسب الفتور والتوتر التركي – الفرنسي طابعاً جديداً ومثيراً، بعد قرار باريس سحب سفيرها من أنقرة مع الإشارة إلى أن هذا الأمر يحدث للمرة الأولى في تاريخ العلاقات بين البلدين.
القرار جاء استنكاراً لتصريحات إردوغان الذي ناشد فيها ماكرون “مراجعة طبيب نفسي”، في تعليقه على حملة الأخير التي استهدفت الإسلام والمسلمين، بعد ذبح المعلم الفرنسي صاموئيل باتي على يد شيشاني داعشي. وقد كرّر إردوغان هجومه العنيف على ماكرون الأحد، أي بعد سحب السفير، داعياً الشعب التركي وكل المسلمين في العالم لمقاطعة البضائع الفرنسية.
لم يكن هذا التوتر مفاجئاً، على الرغم من المكالمة الهاتفية “الإيجابية والبنّاءة” التي جرت بين ماكرون وإردوغان في 22 أيلول/سبتمبر الماضي، بعد سلسلة من المواقف السلبية المتبادلة، بسبب موقف باريس المعادي لإردوغان في ليبيا، وخلافاته مع اليونان وقبرص، فقد استضاف ماكرون في 10 أيلول/سبتمبر الماضي في جزيرة كورسيكا قمَّة زعماء الدول الأوروبية المطلّة على الأبيض المتوسط، وهي اليونان وإسبانيا وإيطاليا وقبرص ومالطا والبرتغال، وندَّدوا معاً، وبشدة، بسياسات إردوغان في البحر الأبيض المتوسط وبحر إيجة، بما في ذلك تدخّله في ليبيا.
واستمرَّ ماكرون في موقفه ضد أنقرة، إذ أدى دوراً أساسياً في قرارات القمة الأوروبية الأخيرة التي هدَّدت إردوغان وتوعَّدته ما لم يتراجع “عن مواقفه وتصرفاته الاستفزازية ضد الدولتين العضوين في الاتحاد اليونان وقبرص”. وفي كل مرة، كان إردوغان والمسؤولون الأتراك والإعلام الموالي يردون على مواقف ماكرون بأشد العبارات والتوصيفات، ومنها ما قاله إردوغان عنه: “إنك جاهل حتى في تاريخ بلادك. وقد باتت أيامك معدودة”، في إشارة منه إلى انتهاء فترته الرئاسية في أيار/مايو القادم.
المد والجزر في العلاقة الشخصية بين إردوغان وماكرون قد تكون نتاج معرفة رئيس المخابرات الفرنسية الخارجيةDGSE ، برنارد إيميه، بشخصية إردوغان الداخلية والخارجية ونياته ومخططاته، إذ كان سفيراً لبلاده في أنقرة حتى نهاية العام 2017. وقد جاء به ماكرون إلى هذا المنصب.
وبعد هذا التاريخ، اتّهم الرئيس الفرنسي وإعلامه الرئيس إردوغان وأجهزة الدولة التركية بالتغلغل بين صفوف الإسلاميين في فرنسا وأوروبا عموماً، معتبراً ذلك خطراً على الأمن الوطني الفرنسي، وهو ما يردّده بين الحين والآخر قادة ألمانيا وبلجيكا والنمسا وهولندا، بسبب حجم الجالية التركية والمسلمة في هذه الدول، وهي ليست أقل من 7 ملايين.
ويعيش في فرنسا عدد أكبر من الجزائريين والتونسيين والمغاربة، الذين يدغدغ إردوغان مشاعرهم بين الحين والآخر بأحاديثه عن ذكريات الفترة الاستعمارية الفرنسية لبلادهم، وهو ما يفعله مع شعوب الدول الأفريقية التي يزورها باستمرار، بعد أن وصل عدد السفارات التركية فيها إلى 42 سفارة، يحاول أن يتحدى من خلالها فرنسا في الدرجة الأولى، ثم الدول الاستعمارية الأخرى التي تعاديه في مناطق أخرى، ومنها هولندا وبلجيكا وإيطاليا، وأحياناً بريطانيا وأميركا.
وينسى الطرفان التركي والفرنسي أن العلاقة كانت مميزة بينهما في بدايات “الربيع العربي”، عندما كان وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو على اتصال دائم، إن لم نقل بشكل يومي، مع نظيره الفرنسي آلان جوبيه، ومن بعده لوران فابيوس، للتنسيق والعمل المباشر من أجل دعم المجموعات المسلحة في سوريا، وذلك بالتنسيق مع هيلاري كلينتون وجون كيري والألماني شتاينماير (وهو الآن رئيس ألمانيا)، ومعهم جميعاً القطري حمد بن جاسم والسعودي سعود الفيصل.
كما تنسى أنقرة أنها صوَّتت ضد استقلال الجزائر في الأمم المتحدة للفترة 1958 – 1959، بسبب عضويتها في الحلف الأطلسي، ناسية أنَّ فرنسا كانت قد احتلّت أجزاء من الأناضول بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وهي التي رسمت خارطة المنطقة في سايكس بيكو، وساعدت “إسرائيل” على امتلاك السلاح النووي في أواسط الخمسينيات.
ولم يمنع ذلك باريس من الاتفاق مع أنقرة في موضوع الاستفتاء من أجل ضم لواء الإسكندرون إلى تركيا في العام 1938، عندما كانت سوريا خاضعة للانتداب الفرنسي، كما لم يمنعها من التضامن دائماً مع الأرمن، إذ أقرَّ البرلمان الفرنسي ومجلس الشيوخ في العامين 2001 و2006 قانون “الاعتراف بالإبادة الأرمنية”. وأدى ذلك آنذاك إلى ردود فعل عنيفة في أنقرة، ومقاطعة الأتراك للمنتجات والبضائع الفرنسية، وهو ما لم يستمرّ طويلاً، إذ رافق رئيس الوزراء حينها إردوغان الرئيس ساركوزي في زيارته، ومعهما الأمير القطري حمد آل ثاني، إلى دمشق في 4 أيلول/سبتمبر 2008، لإقناع الرئيس الأسد بمد أنابيب الغاز من قطر إلى سوريا عبر الأردن، ومنها إلى تركيا، ثم أوروبا، لينافس الغاز الخليجي غاز روسيا وإيران.
كما يؤدي الموقف الفرنسي الحالي المؤيد لأرمينيا، باعتبار أنّ فرنسا، ومعها روسيا وأميركا، تترأس منذ كانون الأول/ديسمبر 1994 مجموعة “مينسك” التابعة لمنظَّمة الأمن والتعاون في أوروبا، إلى ردود فعل عنيفة في أنقرة التي ترى في باريس عدوتها اللدودة، ليس في القوقاز فحسب، بل في ليبيا وأوروبا والشرق الأوسط أيضاً، بما في ذلك زيارات ماكرون المتتالية إلى لبنان، وأخيراً التحالف العسكري مع اليونان وقبرص ومصر.
وفي جميع الحالات، وأياً كان مستقبل العلاقة بين الطرفين، يبدو واضحاً أن إردوغان وماكرون مستفيدان من التوتر بينهما، حتى على المستوى الشخصي، ما داما يسعيان إلى المزيد من استفزاز المشاعر القومية والدينية وشحنها، بسبب وضعهما وحساباتهما الداخلية والخارجية، فالرئيس ماكرون الذي يستعدّ لانتخابات الرئاسة في أيار/مايو القادم يريد أن يثبت للشعب الفرنسي “أنه الوحيد الذي يدافع عن أمنه واستقراره ضد خطر الإسلام السياسي والإرهابي المدعوم من إردوغان”، وفق رؤيته التي ترى في سياسات الأخير خطراً على مجمل المصالح الفرنسية في الخارج.
وسيدفع ذلك ماكرون إلى البحث عن حلفاء جدد له لمواجهة هذا الخطر المشترك بعد الانتخابات الأميركية التي ستحدّد مسار السياسة الأميركية في سوريا أيضاً، بما في ذلك مصير كرد سوريا ومستقبلهم، فقد حرصت باريس دائماً على تبني الاتحاد الديموقراطي الكردستاني السوري ووحدات حماية الشعب الموالية له ودعمهما، اعتباراً من أحداث عين العرب/كوباني 2014، إذ استقبل الرئيس هولاند في شباط/فبراير 2015 الرئيسة المشتركة للاتحاد، آسيا عبد الله، ومعها قائدة وحدات حماية المرأة الكردية نسرين عبد الله.
واستمرّ الرئيس الفرنسي في هذه السياسة التقليدية لفرنسا في موضوع الكرد، مع التذكير بأنّ باريس أدت الدور الأساسي في اتفاقية سيفر للعام 1920، والتي كانت تهدف إلى إقامة دولة كردية وأخرى أرمينية في جنوب تركيا الحالية وشمال شرقها.
أما بالنسبة إلى الرئيس إردوغان، فيبدو واضحاً أنه استغلّ وسيستغلّ أزمته مع ماكرون وفرنسا لكسب المزيد من الشعبية لمقولاته العقائدية، “بصفته وريث الدولة والإمبراطورية والسلطنة والخلافة العثمانية، وهو الآن يحمل رايتها للدفاع عن الإسلام والمسلمين أياً كانوا”، وهو ما نجح به نسبياً بعد ما يُسمى بـ”الربيع العربي”،
إذ يسوّق لتجربة العدالة والتنمية، كما يسوّق لفكرة “التضامن مع الشعوب المظلومة ضد الدول الإمبريالية والاستعمارية”، وفي مقدّمتها فرنسا، متجاهلاً في كثير من الأوقات سياسات بريطانيا، وغالباً الحليف الاستراتيجي أميركا، على الرغم من انتقاده لها بسبب دعمها وحدات حماية الشعب الكردية شرق الفرات.
لقد بات واضحاً أنَّ كلّ هذه المعطيات سترشّح العلاقة بين باريس وأنقرة، وبشكل خاص الرئيس إردوغان وماكرون، إلى مزيد من التوتر خلال الأسابيع والأشهر القليلة القادمة، مع احتمالات التصعيد، بل المواجهة، في ساحات مختلفة، ومنها ليبيا ودول أفريقية يسعى إردوغان لكسبها إلى جانبه، ومنها الصومال وتونس ومالي والسنغال وموريتانيا وغيرها.
ولم يهمل إردوغان الجانب الثقافي في حربه ضد الدول الاستعمارية، بعد أن غزت الأفلام والمسلسلات التركية، وخصوصاً تلك التي تتحدَّث عن التاريخ العثماني، معظم دول العالم، وأهمها الدول العربية والأفريقية ودول البلقان، التي يريد لها أن تكون حديقته الخلفية في تحدياته المستقبلية لفرنسا ومن معها. ويتهم الإعلام الموالي له فرنسا بالعمل على إحياء ذكريات الحروب الصليبية، وهو ما أثبته ماكرون بموقفه الأخير المعادي للإسلام والنبي محمد (صلى الله عليه وسلم).
وقد استغلّ إردوغان هذا الموقف، ليس ضد ماكرون فحسب، بل ضد كلّ من يعاديه شخصياً أيضاً، ما دام “الزعيم السياسي والروحي لجميع مسلمي العالم، وما دامت تركيا اليوم ليست تركيا الماضي”، وهو ما يسوّق له إعلامه وإعلام كل من بايعه من الإسلاميين في المنطقة العربية أولاً، وفي كل مكان يتواجد فيه المسلمون الذين يساعدهم ليتضامنوا معه دائماً، كما هو الحال الآن في حربه ضد ماكرون،
إذ أطلق الإسلاميون حملة لمقاطعة المنتجات الفرنسية، في الوقت الذي تقاطع السعودية ومصر والإمارات المنتجات التركية، بعد استسلام الأنظمة العربية “المسلمة” لـ”إسرائيل”، التي أصبحت المستفيد الوحيد من كل ما نراه وسنراه في المستقبل القريب من تطورات مثيرة، أياً كانت أطراف الفتور والتوتر والتصعيد والمواجهات المحتملة، ليس فقط بين إردوغان وماكرون، بل بين العديد من الأطراف، وهو ما أثبتته تجارب السنوات العشر الماضية مما يُسمى بـ”الربيع العربي”، وكان الجميع فيه من الإسلاميين والصليبيين يداً بيد ضد كلّ من تصدى لـ”إسرائيل” وقاومها وما زال!
الميادين _ حسني محلي
اقرأ ايضاً: تركيا تتجاهل الضربة الروسية على معسكر “فيلق الشام” في إدلب