لماذا يخفون أعداد العسكريين الأميركيين في المنطقة؟
شارل ابي نادر
قد يكون المبعوث الأميركي إلى سوريا جيمس جيفري، هو الديبلوماسي الأميركي الوحيد الذي كان صادقًا في تصريحه الأخير حول عدد الجنود الأميركيين في سوريا، إذ قال في حديث مطول لموقع “ديفانس وان” المتخصص في التحليلات الدفاعية: “لم نعلن العدد الحقيقي لجنودنا في سوريا بشكل دقيق في أي وقت”، مبررًا ذلك بالضرورات الأمنية العملياتية.
ما يستدعي التركيز حاليًا في عدد الجنود الأميركيين في كل من سوريا والعراق، هو أن هذا الملف دائما كان مثار جدال ونقاشات داخل أروقة الادارة الاميركية، بالاضافة الى أنه تحرك اليوم على خلفية تصريحات وزير الحرب الجديد كريستوفر ميلر حول عزمه تسريع سحب القوات الأميركية من أفغانستان والشرق الأوسط قائلا “حان وقت العودة إلى الوطن”.
في الواقع، ومن خلال متابعة هذا الملف بشكل دقيق، كان واضحًا اعتماد الأميركيين دائمًا “خدعة العدد” لجنودهم في كل من سوريا والعراق، بداية في العراق بعد غزوه عام 2003، ولاحقًا خلال مفاوضات الاتفاق الأمني مع حكومة بغداد قبل انسحابهم عام 2010، ولاحقًا بعد مناورتهم بـ “داعش” وعودتهم عبرها، الى احتلال بعض المناطق في العراق وسوريا. ويعود ذلك الخداع أو الغموض الى عدة أسباب، منها:
أمنيًا وعسكريًا
من الطبيعي أن أي دولة محتلة لدولة أخرى أو موجودة في بعض مناطق أو قواعد داخل دولة أخرى، تعمد ولأسباب أمنية، الى عدم النشر أو الاعلان عن حقيقة جنودها، اذا استطاعت اخفاء ذلك عن الدولة المضيفة أو المحتلة حبيًا، وخاصة فيما يتعلق بالأميركيين في كل من العراق وسوريا، وذلك على خلفية اخفاء أية معطيات ممكن أن تستعمل من قبل معارضيهم أو مقاوميهم، كون العدد اذا عرف بشكل صحيح، يمكن أن يستخدم في التحضير لعمليات المقاومة ضدهم عند أي قرار بذلك، أو ممكن أن يستغل في استنتاج أهدافهم الأمنية في الانتشار أو في الانتقال أو في دعم المجموعات الحليفة لهم، كما أن معرفة عددهم بشكل تقريبي، يمكن أن يستنتج منه فهم واسع لمناورتهم ولاستراتيجيتهم وحتى لسياساتهم، في كل من العراق وسوريا.
من جهة أخرى، يستخدم الأميركيون وفي جميع أنحاء العالم، مناورة خاصة، تقوم على التعاقد مع شركات أمنية خاصة، وتكليفها بمهمات في الدول التي يوجدون فيها، وهذه المهمات تكون خاصة أو تكون أحيانًا ذات طابع عسكري أو أمني، وذلك إمّا بشكل منفرد، أو بشكل مشترك مع وحداتهم العسكرية، وحسب الوضعية السياسية أو العسكرية لوجودهم، يعتبرون عناصر تلك الشركات من ضمن عديد أو من خارج عديد عسكرييهم. واللافت، أن تلك العناصر المدنية تكون مجهزة أحيانا بشكل أكبر من الوحدات العسكرية النظامية.
الغموض الآخر الذي يتبعه الأميركيون بشكل عام، وخاصة في سوريا والعراق حاليًا، يتعلق بالتجهيزات العسكرية وبالأسلحة، حيث يعتري تجهيزات وحداتهم غموض كبير، في نوعية تلك الأسلحة وقدراتها، وخاصة في القدرات الالكترونية الخاصة بالحرب السيبرانية أو بالرصد والتنصت والمراقبة الدقيقة.
سياسياً
يتم اخفاء العدد الحقيقي، للمناورة والخداع عند أي نقاش سياسي مع أطراف خارجية حول عدد جنودهم في العراق أو في سوريا، مع الروس مثلًا أو مع الاتحاد الاوروبي، أو حتى مع الأمم المتحدة، إذا حاولت الأخيرة في احدى المرات مقاربة الموضوع مع الأميركيين، أو عند أي نقاش مع أطراف داخلية، كما يحدث حاليا مع العراق، حيث يحرص الأميركيون حاليًا – كما يبدو – على عدم اغضاب حكومة بغداد، بسبب تخطيطهم لمشاريع مستقبلية سياسية وأمنية، يعتقدون أنها سوف تنجح مع حكومة الكاظمي، بدعم خليجي وسعودي بالتحديد، وتحقيق هدف إبعاد بغداد عن طهران غير بعيد عن هذه المخططات، بالاضافة الى وجود ضغوط قوية حاليًا في العراق عليهم، من قبل أطراف مقاوٍمة، مدعومة من أغلبية برلمانية عراقية، لتحقيق أو فرض انسحاب أميركي جدّي.
أما لناحية وجودهم وعدد جنودهم في سوريا، فالأميركيون يعتبرون أنهم غير معنيين بتاتًا بإعلام أحد عن حقيقة هذا العدد، وهم يناورون في ذلك كما يشاؤون، تبعًا لاستراتيجيتهم المتعلقة بدعم قسد أو بمحاربة ما تبقى من “داعش” كما يدعون، والأهم في هذه الاستراتيجية، ما يتعلق بمناورتهم الخاصة بإبعاد الجيش العربي السوري عن جغرافية وثروات شرق الفرات قدر الامكان.
صحيح أن عدد الجنود الأميركيين في سوريا أخذ الحيز الأكبر من النقاشات، خاصة تصريحات الرئيس ترامب وقراره المشهور الذي تراجع عنه بعد عدة ساعات، بسحب وحداته من سوريا في نهاية عام 2019، ولكن عمليًا، عدد العسكريين الاميركيين في سوريا وفي العراق لا يغيّر في الواقع شيئًا اذا تناقص أو ازداد، فكل العسكريين الأميركيين المتمركزين في المنطقة، لديهم القدرة على التواجد في أي مكان ترتئيه قيادتهم، في المنطقة طبعًا، خلال ساعات، وتلك القواعد المنتشرة في كل من أفغانستان أو جورجيا أو قطر أو الكويت وسلطنة عمان وانجرليك في تركيا، كقواعد برية، أو المتواجدة في شرق المتوسط أو الخليج أو بحر العرب أو خليج عمان كبوارج وحاملات طائرات، وكقواعد بحرية، مجهزة بوسائل نقل جوية فعالة وعملية، قادرة على أن تنقل العدد الذي تريده مع كامل التجهيزات واللوجستية المطلوبة، وبشكل شبه سري، ليلًا وفي أصعب ظروف الطقس أو الرؤية، فقط المهم أن تكون هناك قواعد أو نقاط ارتكاز لاستقبال وتلقي طائرات وحوامات النقل، وهذه النقاط والقواعد مبدئيًا موجودة، ومع العدد الرمزي الذي يكون متمركزًا فيها، قادرة على أن تستقبل وتنشر وتُمَركِز العدد المطلوب مهما كان.
أما لناحية كلام وزير الحرب الاميركي الجديد، فليس بالضرورة أن يكون صادقًا في قوله “الوقت حان لعودة الجنود الى الوطن”، لأننا أولًا، سمعنا سابقًا كلامًا أكثر وضوحًا حول انسحابهم ومن مرجع أساسي هو الرئيس، وبقي حبرًا على ورق، لا بل ازداد العدد وتضاعف أكثر، كما إن عبارة “حان الوقت للعودة إلى الوطن” قد تعني عمليًا، تبديل الجنود، فالموجودون حاليًا في المنطقة يعودون إلى الوطن، وغيرهم يأتي من اميركا تنفيذًا لمهمة “مقدسة” تتعلق بما يدعون انه “حماية الأمن القومي الاميركي” والذي لا يكون محميًا الا من خلال التواجد في دير الزور وحقل العمر وحقل رميلان أو في القيارة وعين الأسد والأنبار وسنجار وغيرها من مواقع محتلة.
العهد