ديبلوماسي سابق: فيصل المقداد وزيرا للخارجية السورية.. هكذا عرفته!
لم نعُد نناديه بالسيد “نائب الوزير” وإنما بالسيد الوزير.. هذا ما كنتُ أتوقّعهُ منذ سنوات.. بل طالما تمنيتهُ لهُ في إطار أي تغيير وزاري..
تعيين د. فيصل المقداد وزيرا للخارجية ليس مُفاجئا، بل جاء وفق الإطار الطبيعي لِسيرِ الأمور، كونهِ كان يشغلُ منصب نائب الوزير منذ بداية العام 2006 وكان لهُ حضورهُ السياسي دوما، والإعلامي، وطبيعي أن يرتقي للكُرسي الأوّل بالوزارة، بعد شغورهِ..
مع أنني أعرفُ عن قُرب، أنهُ لم يطمح في أي وقتٍ بهذا المنصب، ولم يعمل لأجلهِ.. وحينما كنتُ، ومن باب المُزاح، أثيرُ أمامهُ هذا الأمر كان يُجيبني، لا أبحثُ عن المناصب..
لقد كان زاهدا بذلك، كما زُهدِهِ بالمال وجَمعِ الثروات، وراضيا جدّا بحياته المتواضِعة والبسيطة، والهاجس الوحيد الذي كان دوما يحتلُّ كل اهتمامهِ وتفكيرهِ هو حب الوطن والعملُ لأجلهِ، وذلك مُذْ كان طالبا في الجامعة وناشطا في النضال الطُلَابي والحزبي..
**
الدكتور فيصل كان مُسيّسا قبل أن يلتحق بالخارجية، وجاء إليها من خلفية غنية جدا بالنشاط السياسي على مدى عقدين من الزمن تقريبا..
كان بارزا جِدّا في النشاط الطُلّابي والحزبي في جامعة دمشق، وتعرّفنا على بعضٍ من خلال نشاطنا المشترك أيام الجامعة بدءا من قسم اللغة الإنكليزية، وكلية الآداب، وحتى بعد أن تخرّجنا في الجامعة وأصبحنا نُدرِّس لاحقا بكلية الآداب..
فالأحزاب والمنظمات والاتحادات هي مدارسٌ سياسيةٌ كبيرة تُغني جدا شخصية الإنسان وتصقِلهُ سياسيا.. وكنا نرى الفرق في الوعي السياسي بين الناشط في المجال الطُلّابي والحزبي، وغير الناشط..
كُنا سوية في قيادة الفرقة الحزبية، وشُركاء في المؤتمرات الحزبية والطُلّابية، وصعَدَ في العمل الطُلّابي إلى أن أصبحَ عضو مكتب إداري لاتحاد الطلبة في جامعة دمشق، كُنا جميعا في الفرقة الحزبية داعمين لهُ لِما تمتّعَ بهِ من خبرة ونشاط حزبي وطُلّابي وأداء ممتاز.. وأصبح لاحقا عضو مكتب تنفيذي.. وكنا مجموعة من الرفاق المتحمِّسين جدا، منهم د. قاسم، ابن عم د. فيصل، المثقَف وصاحب الكلمة الجريئة أيضا..
وكونهِ يُتقِن الإنكليزية ويتمتع بشخصية مُفوّهةٍ ولها حضورها الجيد، فقد تمَّ اختيارُهُ ليكون مُمثِّلا للاتحاد الوطني لطلبة سورية في اتحاد الطلاب العالمي في براغ.. واستمرّ كذلك إلى ما بعد تفكُّك الاتحاد السوفييتي وتفكُّكْ كل المنظومات التي كانت تتبع لهُ..
**
على مدى أكثر من عشر سنوات في اتحاد الطلاب العالمي، جابَ العالم مراتٍ عديدة، لحضور المؤتمرات الطلابية أو الحزبية أو المهرجانات الدولية أو تلبية لدعوات منظمات أممية..وكان خلالها أكبر مُدافعٍ عن بلادهِ وعن فلسطين، وفاضحٍ لإسرائيل وعنصريتها وجرائمها واحتلالها للجولان.. كل ذلك أكسَبهُ خبرة سياسية كبيرة، وانصقلت شخصيتهُ جدا في الممارسة السياسية والخبرة السياسية وفنون النقاش والحِوار والإصغاء والتواصُل..
وكان آخرُ تمثيلٍ له لاتحاد الطلاب العالمي هي الكلمة التي ألقاها باسم الاتحاد في المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان المُنعقِد في فيينا في حزيران 1993 .. وحينها كنتُ عضوا في الوفد السوري للأمم المتحدة في جنيف، وشاركتُ في كافة الأعمال التحضيرية للبيان الذي صدرَ عن مؤتمر فيينا..
ومن ثمَّ التحقَ بوزارة الخارجية عام 1994 نتيجة مسابقةٍ رسميةٍ أيضا.. وبعدها اكتسبَ خبرة إضافية واسعة من خلال عملهِ في نيويورك، كعضو في الوفد الدائم، ومن ثمّ سفيرا.. ولذلك تراكمت لديهِ خبرة سياسية ودبلوماسية واسعة جدا حتى قبل أن يُصبِح نائب وزير..
**
بعدما التحقتُ شخصيا بوزارة الخارجية في أواخر 1981، نتيجة مُسابقةٍ رسميةٍ، كانت أوّلُ بِعثةٍ لي هي نيويورك، ومن ثمَّ بودابست، ومن هنا كانت أوّلُ رِحلةٍ لي إلى براغ، بِرُفقةٍ صديقين آخرين، لزيارة الصديق فيصل وأصدقاء آخرين بالسفارة، حيث أمضيتُ ثلاثة أيام لم يُفارِقنا خلالها، وقامَ بالواجب على أكمل وجه، وبِكَرمِ أهل حوران المعهود..
**
الدكتور فيصل من الرفاق والأصدقاء الأوفياء للصداقة، وللبعث ومبادئ البعث، لم ينفصل في أي يومٍ عن بيئةِ الكادحين التي نبتَ منها( وياليت الجميع كذلك لكانت بلدُنا بألف خير) ولم تُغيِّره الأزمان ولا الشُهرة.. وطبيعي أن يكون كذلك، وهو من ينحدر من منبتٍ كريمٍ واصلٍ طيِّبٍ.. ومن بيئةٍ ريفيةٍ تتلاقى جدا مع بيئتي الريفية.. ولا أعرفُ عنهُ إلا عِزّةُ النفس والإباء والتعفُّف..
زرتهُ في قريتهِ ” غُصمْ” في ريف درعا للتعزية بوفاة السيدة الفاضلة المرحومة والدته، وزارني في قريتي للتعزية بوفاة المرحوم والدي، ثم للتعزية بوفاة المرحوم أخي.. لم أشعر وأنا في ” غُصم” وفي سهل حوران الخيِّر والخصبْ، إلا وكأنني في قريتنا في سهل الغاب.. حيث البيئة الريفية الطيبة والبسيطة والناس الطيبون العفويون الكرماء الذين يشبهون في طيبتهم جمال تلك السهول، ونقاء هوائها، وأصالة ترابها، وعطاء أراضيها..
**
في الوزارة كانت هناك سلبيات كثيرة، وليس ” د.فيصل” من كان المسؤول عنها، فالقرار الأخير لم يكُن لهُ ( وأنا عارفٌ جيدا بالأمور) منها:
ــ انعدام المعايير الواضحة والمُبيّنة في تعيين مدراء أو سفراء، وعدم احترام التراتبية والأقدمية بذلك..
ــ الاستغناء عن أكفأ كوادر الوزارة، المعروفون بوطنيتهم وغيرتهم ونظافةِ يدِهم، وتاريخهم النضالي ومؤهلاتهم العلمية واللغوية وانتمائهم لعائلات شهداء، وذلك من مُنطَلق حساسيات شخصية صرفة..وهذا كان موضوع مقالٍ لي منذُ عام 2014 ، بعنوان: ما الفرق بين المجرم الذي يغتالُ كفاءات الوطن والمسؤول الذي يقصي كفاءات الوطن؟.
ــ المجيء بسفراء من خارج السلك بالمحسوبيات والالتماسات، وهناك من هُم أكفأ منهم بأضعافِ المرات من أبناء السلك، وأحقُّ منهم، وهذا تسبّب بحساسيات كبيرة..
ــ تغييب مبدأ تكافؤ الفُرص، والإبقاء على سفراء بِلا حدودٍ زمنيةٍ، من 20 سنة متواصلة، أو 17 أو 16 أو 15 .. الخ.. وكأنّ أرحام الأمهات عقمت..
وهذه ظاهرة غير موجودة بمكان آخر.. ففي الولايات المتحدة، الدولة الأقوى بالعالم، مدة السفير ثلاث سنوات لا تزيدُ يوما واحدا.. وفي مِصر، الدولة العربية الأكبر سُكّانا، مدّتهُ أيضا ثلاث سنوات لا تزيدُ يوما واحدا..
وحتى في الخارجية السورية كانت طيلة الزمن خمس سنوات فقط، ولم تكُن في أي وقتٍ مفتوحةٍ وبلا حدودٍ زمنيةٍ..
ــ تعيين أبناء السفراء السابقين، سُفراء أيضا، دون مراعاةٍ للتراتبية والأقدمية والأحقية..
ــ المجيء بأبناء العديد من السفراء، والمتنفذين بالوزارة (طبعا تحت غطاء مُسابَقَة) وتعيينهم دبلوماسيين كي يحلُّوا مكان آبائهم في المستقبل..بينما الأكفأ منهم ويحمل مؤهلات ممتازة، ولغةً انكليزية ممتازة، لا يجِدُ فرصةَ عملٍ بِعقدٍ سنوي..
ــ احتكار البعثات الدبلوماسية في العواصم الأوروبية والخليجية والبُلدان القريبة، للمدعومين، وغيرِهم للبُلدان الأفريقية السوداء، أو النائية في شرق آسيا، وأمريكا الجنوبية..
ــ انعدام العدالة في بدلات الاغتراب، ففي الدول المُريحة جدا، بدلات الاغتراب عالية، وفي البُلدان الصعبة والنائية، بدلات الاغتراب أقل بكثير، مع أن العكس هو ما يجب أن يكون كي تتشجّع الناس للخدمة في تلك الدول..
ــ ومنها السكوتُ عن أحدِهم مِمّن انحدرُ مستواهُ إلى مستوى العمَالةِ، بإفشاء فحوى تقرير سري جدا، والملف موجود بكل تفاصيلهِ.. فقد كان مدعوما من السائق الشهير جدا..
ــ ومنها السكوتُ عن أحدهم مِمّن ثبت بالدليل القاطع تزويره للفواتير، وطائفيتهِ، وقولهِ للمستخدمين المحليين: رئيس البعثة هذا واحِد (…) إنهُ ليس مُسلِما..والملف موجود بكل التفاصيل..
ــ وأبرز السلبيات، هي المادّتين 41 و 49 في المرسوم 20 للعام 2016، حيث تمَّ فرزُ الناس بموجبهما، إلى مدعوم وغير مدعوم، الأول يُمنح لقب سفير ويُصبحُ مداهُ للتقاعُد سبعون عاما( بل يستمرُّ بعد السبعين بِعقدٍ خاصٍّ ومن مهمّةٍ خارجيةٍ إلى أخرى ليتقاضى بالعملة الصعبة والناس تموت الجوع)، وغير المدعوم يُصرَفُ قبلهُ بعشر سنوات، أو تسعة أو ثمانية( وهو الأكفأ والأقدر) وهذا لا يتطابق مع قانون العاملين الموحّد بالدولة، ولا مع بيانات قيادة الحزب في تحقيق العدالَة وتكافؤ الفرص والمساواة بين الجميع..
**
أمران أساسيان يجب تصحيحهما بالوزارة:
ــ إلغاء المادتين 41 و 49 لما تسبّبتا به من حساسيات وتمييز بين الكوادر، وانعدامٍ لمبدأ التساوي بتكافؤ الفُرص، الذي تؤكِّد عليه دوما قيادة الحزب والسيد الرئيس، والعودة لِما كان ساريا في الماضي، وهو التمديد للجميع حتى عُمر 65 ، سفيرْ أم غير سفيرْ، وهكذا لا أحدا ينزعج أو يتحسّس.. ولا أحدا يشعر أنهُ في الدولة أبناء سِتّات وأبناء خادمات، ومزارِع وإقطاعيات..
ــ تحديد مدّة السفير بخمس سنوات لا تزيدُ يوما واحدا.. وهذا كان معمولٌ بهِ في كل زمن الوزارة.. وحتى لا يشعُر أحدٌ أن السفارات تحوّلت إلى إقطاعيات..
فمن غير المعقول أن يُولَد الولَد وأبيهِ سفيرا، ويتخرّجُ من الجامعة وأبيهِ سفيرا، ثُمّ يؤتى بهِ للوزارة ويصبحُ دبلوماسيا وأبيهِ سفيرا.. حتى في عهد الإقطاع هذا لم يكُن قائما..
**
في الوزارة كوادرٌ جيدة وفيها أسماءٌ قد يصلحون وزراء في المستقبل، أعرفهم عن قُرب، وأتمنى لهُم حظوظا جيدة..
وبالمقابل هناك نفوسٌ مريضة، حملتْ ألقاب سفراء، وهي اصغر بكثير من هذا اللّقب (ومنهم من اقتحموا الوزارة بالواسِطات والمحسوبيات) وتسعى دوما للتعويض عن ذلك بالتعالي على زملائهم والتنكُّر لهُم، وحتى على أساتذتهم بالدبلوماسية، فلا تحصدُ سوى قلّة الاحترام..
ولكن يبقى هؤلاء يسيئون لأنفسهم، أما الخطيرُ هو من يضمُّكَ إلى صدرهِ ويطعنك من الخلف، ويخونُ كل معاني الوفاء للخبز والمِلح والعِشرَة، وينحازُ ضدَّك إلى جانب مُزوِّري المُصدّقات والإقامات والمُهرِّبين، ولا يتركُ وسيلة للإساءة إليك حينما تترشّح لنيلِ مرتبة مُدير عام أول دبلوماسي، أو لِمُديرِ إدارة، ولا يترك وسيلة لتظبيطٍ قريبٍ له، بكافة السبُل..
“إن المنافقين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربِّه كفورا” ..
**
ما ذكرتُهُ آنفا عن د. فيصل هو وصفٌ للحقيقة التي خبِرتها عن قُرب، وليس مُجاملات أو ادِّعاءات أو عواطِف..
أتمنى للدكتور فيصل، الهادئ والمُتّزِن والودود وطويل البال، كل النجاح في مهمتهِ الجديدة..
( وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) الأعراف 85 ..
**
وأخيرا أتمنى من كل غيور على هذا الوطن أن يضعَ مقالي هذا على طاولة السيد الرئيس، إن كان قادرٌا على ذلك، كمَا حصلَ معَ غيرهِ، حسبما كتبَ لي أحدِهم على فيسبوك..
السيد الرئيس كان دوما يوجِّه باحترام مبدأ تكافؤ الفُرص والمؤهلات والكفاءات والعدالة ووضع الرجُل المناسب في المكان المناسب، والابتعاد عن الشخصنات والمُحاباة والمحسوبيات، ولكن كمْ مسؤول بهذه الدولة يُنفِّذُ هذه التوجيهات؟. في مكان عملي السابق هذه كلها كانت من المنسيات..
لا يُمكِن للسيد الرئيس أن يقِف فوق رأس كل مسؤول بهذه الدولة، هذه مسؤولية الكوادِر في المؤسسات، أن يرفعوا الصوت حينما لا يحترم المسؤول أصول العمل المؤسساتي.. لأنَّ عدم احترام هذه الأصول هو شكلٌ من أشكال الفساد والتخريب..
**
هناك من لن يُعجِبُهم كلامي، ولكنني لستُ مِمّن يختبئ خلف الأصابع، لأنني كنتُ دوما بعثيا وطنيا صادقا وجريئا ونظيف اليد، وخاصّة بعد أن مضى على انتسابي للبعث 52 عاما، أعطيتهُ كل ما أستطيع، ولم ينالني من الدُخلاء عليهِ، والمنافقين بهِ، إلى الأذى والضّررْ..
مبروك دكتور فيصل.. تستحقْ .. ومبروك لكل بعثي شريف وصادق وما زال مُلتِصقا بمبادئ البعث وفكر البعث وبِطبقاتهِ الكادحة ويشعرُ بمشاعِرها ويعمل لأجلها، ولم يبتعد عنها، فالدكتور فيصل خرجَ من هذه الصفوف.. في وقتٍ امتلأ فيه البعث بالحزبيين المُتبعِّثين المنافقين الانتهازيين والوصوليين الدُخلاء على البعث..
ومبروك للدكتور بشار جعفري، ابن دورتي الدبلوماسية، والذي ربطتني بهِ آراء ومفاهيم عديدة مشتركة.. وأتمنى لهُ استمرار النجاح..
د. عبد الحميد فجر سلوم-كاتب سوري ووزير مفوض دبلوماسي سابق
رأي اليوم