بعد 4 أشهر على انفجار مرفأ بيروت.. من القاتل؟
أليف صباغ
كي لا تغيب الحقيقة والمسؤوليّة كما غابت في ما يخصّ مقتل الرئيس رفيق الحريري، لا بدَّ من بذل الجهد اللبناني أولاً قبل كلّ جهد دولي، لطرح الحقائق المعلومة على الطّاولة، والرّبط بينها، وعدم تغييب الأسئلة ذات الصّلة، لأنّ تغييب السّؤال يعني تغييباً مسبقاً للجواب الّذي قد يؤدي إلى الكشف عن الحقيقة.
قد تختلف توصيفات الحدث: هل هو انفجار أو تفجير؟ والفارق بينهما كبير جداً، فإما أن يكون الفاعل معلوماً وإما يبقى مجهولاً. ربما يلتفّ بعضنا على ذلك بتوصيف الحدث على أنه كارثة “من عند الرب”، علماً أن الكارثة أيضاً تحصل بفعل فاعل أحياناً، لكن حين لا نجد الفاعل بالدليل القاطع، لعدم توفّر الدلائل والبراهين الملموسة، لا بدَّ من أن نبحث بالتحليل عن المستفيد. رغم ذلك، يحتاج التحليل أيضاً إلى إشارات وقرائن، وإلى ربط موضوعي بين مجمل الحقائق والإشارات المعلومة، مع الأخذ بالاعتبار تجربة التاريخ والطرف أو الأطراف المستفيدة.
لا يملك لبنان الدلائل والبراهين الملموسة على ما حصل في مرفأ بيروت، ولكن لا خلاف على وجود الإهمال والفساد، وهذا أيضاً قد يسهّل على أصحاب المصلحة دحرجة المسؤولية من كاهل مسؤول إلى كاهل الآخرين، وبالتالي تضيع الحقيقة في ظلام غيمة الفساد والإهمال، وكان الله بالسرّ عليماً.
على الرغم من تصريح الرئيس دونالد ترامب بعد ساعات من تفجير مرفأ بيروت بأنَّ الحدث كان بفعل فاعل، معتمداً بذلك على “رأي مهني من كبار الضباط الأميركيين”، كما قال، فإنَّ تقرير الـ”FBI” أنكر وجود الفاعل، وعزَّز بذلك فرضية “الصدفة” الحاصلة نتيجة الإهمال والفساد.
وكان عناصر المخابرات الأميركيّة قد تجوَّلوا في المرفأ بعد الانفجار، وجمعوا ما يحتاجون إليه من معطيات بهدف التحليل والاستنتاج، وكذلك عناصر أمنية فرنسية وألمانية وإسبانية. وربما شارك في هذه الطواقم أيضاً عناصر من دول أخرى تحمل جوازات سفر مزدوجة، أليس غريباً! وينتظر لبنان تقارير تلك الأجهزة أيضاً، فهل يتوقع أحد أنها ستكون مختلفة عن التقرير الأميركي؟ وهل تجرؤ أصلاً؟
إذاً، من المستفيد؟ وهل لدينا إشارات على وجود فاعل؟
أما الإجابة عن السؤال وتحديد الطرف أو الأطراف المستفيدة، وتحميلهم بحكم الاستفادة مسؤولية الجريمة، فهو غير كافٍ وغير مُقنع، وربما يساهم في ضياع الحقيقة. من هنا، لا بدّ من أن نبحث عن إشارات أو قرائن، ولو لم تكن كافية، لتدعم نهج التحقيق من منطق البحث عن المستفيد من المأساة، فهل لدينا ذلك؟
شهود أحياء وآراء وتصريحات (مثل تصريح ترامب المذكور) وتقارير مخابراتية أخرى، لا بدَّ من أن توضع جميعها على طاولة البحث والتحقيق اللبناني، ومنها تقرير إسرائيلي نُشِر في 13/8/2020 باللغتين العبرية والإنجليزية في مجلة “Israel defense”، تحت عنوان “سبق الانفجار الكبير في بيروت 6 انفجارات بفارق زمني مشابه”.
لخّص التقرير الصحافي عمير رفافورط، المتخصّص في الشؤون العسكرية، ولكن مُعدّيه هم مجموعة من خبراء الجيوفيزياء، قاموا بإعداده بالتعاون مع مجموعة الهندسة الإسرائيلية “تمار” التي أقامها ضابط وحدة الهندسة في الجيش الإسرائيلي، بوعز حيون، وهي تعمل منذ عشرات السنين في مجال التفجيرات المراقَبة في “إسرائيل”، كما تعمل في الكشف عن المواد المتفجّرة في المطارات المختلفة في العالم، علماً أن هذا التقرير أُعد اعتماداً على ما جمعه هؤلاء الخبراء من معلومات عن شاشات أجهزة الرادار أو المجسات السيسمولوجية الموجودة في البحر المتوسط وأماكن أخرى. وقد مُرّرت هذه المعلومات والتحليل إلى المستويات السياسية والأمنية الإسرائيلية قبل نشرها.
يقول التقرير: “إنّ المنعطف الدراماتيكيّ لفهم المأساة بدأ بتحقيق سيسمولوجي، وبالمعلومات السيسمولوجية التي جمعها خبراء هذه المجموعة عن شاشات الرادارات المنتشرة في أرجاء الشرق الأوسط. وتبيَّن أنَّ المعاهد السيسمولوجية الإسرائيلية البعيدة من مكان الحادث التقطت الارتدادات الأرضية التي خلقها الانفجار الكبير لمخزن الأمونيا في بيروت، وكان ذلك يوازي هزة أرضية صغيرة، ولكن هذه المعاهد لم تستطع الوصول إلى معلومة ظهرت على جهاز سيموغراف موجود في أعماق البحر بين قبرص ولبنان، على بعد 70 كم من بيروت وبعمق 2.2 كم، والتي تقول إنّ 6 انفجارات حصلت بفارق 11 ثانية بالضبط قبل الانفجار الكبير الذي تقدر قوته بـ3.3 على مقياس رختر، وما تفسير ذلك؟”.
يوضح التقرير أنَّ الجهاز الموجود في أعماق البحر المتوسط هو عبارة عن منظومة من 6 مجسّات سيسمولوجية تسمى “CY603″، وُضعت في مكانها في أطر مشروع جيولوجيّ دوليّ لحاجات البحث العلميّ وقياس الهزات الأرضيّة في البحر المتوسط.
وعادةً ما تكون شاشة هذه المنظومة مفتوحة لإطلاع الجمهور عبر الإنترنت على موقع “IRIS” الذي يجمع المعلومات للبحث السيسمولوجي، ولكن، وبشكل غير متوقع، بعد أقل من 24 ساعة من الانفجار، مُسحت هذه المعلومات عن شاشة الموقع! أما خبراء الجيوفيزياء الإسرائيليون، فكانوا قد نسخوا هذه المعلومات عن الشاشة قبل منع الوصول إليها.
“إذاً، تظهر الصور بوضوح أن 5 انفجارات متساوية في القوة حصلت بفارق 11 ثانية بالضبط قبل الانفجار السادس، وهو أكبر من الانفجارات الخمسة السابقة، ولكن بفارق 11 ثانية أيضاً، ومن ثم جاء الانفجار الأكبر بفارق 43 ثانية، وهو الذي هزّ بيروت وتمَّ التقاطه في كلّ أجهزة الرادار في الشرق الأوسط”.
وهنا، لا بد من طرح السؤال، يقول أصحاب التقرير: “ماذا حدث بالضبط؟ وكيف يمكن تفسير تلك التفجيرات الستة بفارق 11 ثانية بالضبط؟”. يجيب أريك غورن، وهو الذي بحث وحقَّق في انفجار مخزن المفرقعات في منطقة الساحل في العام 2017، أنَّ مفرقعات “دينور” حساسة تجاه الحرارة، وقد يكون انفجارٌ حصل تحت الأرض أدى إلى انفجار المفرقعات التي أدت لاحقاً إلى الانفجار الأكبر، ولكن ذلك غير مقنع بشكل كافٍ، يقول عورن، لأنه لا يجيب عن ظاهرة الانفجارات الستّة بفارق 11 ثانية بالضبط. وإذا علمنا أنَّ هناك منظومات حربيّة يتم تشغيلها على شكل “سلسلة”، فيمكن أن تكون قد “وُضعت عمداً تحت مخازن الأمونيا، وتم تفعيلها في التوقيت المعدّ سلفاً”.
ويضيف غورن: “بما أنَّ هذه المعلومات والاستنتاجات تشير بإصبع الاتهام إلى قيام عناصر إسرائيلية بذلك، فقد أرسلتُها إلى الجهات الإسرائيلية ذات الصلة، ولكنَّها أنكرت أيّ صلة لإسرائيل بالحادث، وقالت إنَّها سمعت عنه من وسائل الإعلام فقط”. وبناءً على هذا الإنكار، يحيل التقرير مسؤولية التفجير إلى حزب الله، كالعادة!
تكمن أهميّة هذا التقرير في 3 أمور، أولاً مصدره، وثانياً ما تضمّنه من معلومات تمَّ مسحها عن موقع مهمّ جداً خلال أقل من 24 ساعة، وثالثاً في ما يبقيه من أسئلة مفتوحة لا بدّ من الإجابة عنها: من هو المسؤول عن هذه المنظومة الموجودة في البحر المتوسط؟ ومن هو صاحب موقع “IRIS”؟ ومن هو المسؤول عن حجب هذه المعلومات المهمة والخطيرة؟
وإذا كان التّحليل يؤكّد أنَّ ما حصل كان تفجيراً وليس انفجاراً، فمن هو الفاعل؟ وإذا كانت هذه الأجوبة غائبة في تقرير الـ”FBI” الأميركيّ، فهل غابت هذه المعلومات عنهم؟ ولماذا غابت الأسئلة والأجوبة على السواء، رغم وجود المعطيات التي تفرض هذه الأسئلة؟ وهل يشير غيابها إلى إهمال أو تقصير أو تغييب مقصود؟
في التّلخيص، يؤكّد التقرير أنَّ الحدث عبارة عن تفجير، وليس انفجاراً بالصّدفة. الأدوات معروفة للخبراء، ولكنَّ الفاعل ما يزال مجهولاً. لا ينكر أحد الفساد والإهمال الذي يشكّل أرضاً خصبة لكلّ المآسي التي يعيشها لبنان. إنها قضية لبنانية أولاً، ولا يجوز إيداعها في أيدي الدول الكبرى، ومسؤولية الطرف اللبناني، صاحب المصلحة، هي الكشف عن الحقيقة والبحث عن الفاعل.
لا شكَّ في أنَّ المهمل في وظيفته أو الفاسد والمرتشي يتحمَّل جزءاً من المسؤولية عن الجريمة، وتتوجّب محاكمته أيضاً، ولكنَّ الفاعل الذي عمل في ظلّ غيمة الفساد هو القاتل الحقيقيّ، ولا بدّ من الوصول إليه، وهو ما يتطلّب أن تكشف الدول صاحبة العلاقة بهذه الأجهزة المثبتة في البحر: لماذا مُسِحت هذه المعلومات عن الشاشة قبل مرور 24 ساعة على الحدث؟ من مسحها؟ ولماذا؟ ومن أمره بذلك؟ ولمصلحة من؟ من هنا تبدأ مسيرة التحقيق.
الميادين