صعود مبهر ثم انهيار مأساوي.. قصة ولي العهد السابق محمد بن نايف
ديفيد إغناطيوس
بدأ فصل قاتم جديد في معركة “الصراع من أجل العرش” في السعودية للسيطرة على الحكم في المملكة، وها هو وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان يُعد اتهامات بالفساد وعدم الولاء ضد سلفه في ولاية العهد ومنافسه في وقت ما، وليّ العهد السعودي السابق محمد بن نايف، الرجل الذي كان في وقت من الأوقات بطل الولايات المتحدة ورأس حربتها في الحرب على الحركات الإسلامية المتطرفة.
كانت هذه المواجهة داخل العائلة المالكة تتصاعد منذ خلع محمد بن سلمان سلفه في ولاية العهد في يونيو/حزيران 2017. غير أن جذور المواجهة أقدم من ذلك، إذ تكمن في التنافس المرير بين أنصار الملك الراحل عبدالله، الذي كان مؤيداً لمحمد بن نايف، من جانب، والحاشية المقربة التي أحاطت بالملك سلمان وابنه المندفع محمد بن سلمان على الجانب الآخر، لا سيما بعد تولي الملك الجديد السلطة عقب وفاة الملك عبد الله في يناير/كانون الثاني 2015.
تقول مصادر سعودية وأمريكية إن لجنة مكافحة الفساد التابعة لمحمد بن سلمان على وشك الانتهاء من تحقيق مفصّل في مزاعم مفادها أن محمد بن نايف حوّل بطرقٍ غير قانونية مليارات الريالات السعودية بواسطة شبكة من الشركات الوهمية والحسابات الخاصة، عندما كان يدير برامج سعودية لمكافحة الإرهاب في وزارة الداخلية. وكان محمد بن نايف قد عمل هناك مساعداً رئيسياً لوالده الأمير نايف، ثم خلفه في رئاسة وزارة الداخلية من 2012 إلى 2017. وقال أحد مساعدي محمد بن نايف إن المحققين السعوديين طلبوا من ولي العهد السابق سداد 15 مليار دولار يزعمون أنه سرقها، وإن لم يعرف على وجه التحديد كيف وصلوا إلى هذا الرقم. وقد طلب المصدر المقرب من محمد بن نايف، مثل بعض الأشخاص الآخرين الذين جرى التواصل معهم خلال الإعداد لهذه المقالة، عدم الكشف عن هويته بسبب حساسية المسألة.
ويقول أنصار محمد بن نايف إن هذه الاتهامات كاذبة وتتناقض مع مرسوم ملكي صدر في عام 2007 عن الملك السابق عبد الله، والذين يصدق فيه على جميع أنشطة محمد بن نايف ضمن برامج مكافحة الإرهاب وينصّ على اعتمادات لتقرير سنوي تفصيلي للإنفاق على هذه البرامج. كما أن وثائق سعودية داخلية قدمها أحد مساعدي محمد بن نايف واطلعت عليها صحيفة The Washington Post تدعم ادعاء محمد بن نايف بأن أنشطته المالية السرية تمت الموافقة عليها، على الأقل في خطوطها العريضة، من الملك الراحل عبدالله.
وتتضمن الوثائق مرسوماً سرياً صدر في 27 ديسمبر/كانون الأول 2007، ويحمل التوقيع الخاص بالملك عبدالله، الإشارة إلى أن “مساعد وزير الداخلية [محمد بن نايف] سيستمر في إدارة هذا الصندوق ونفقاته بطرق تدعم جهود مكافحة الإرهاب”. كما يمنح المرسوم صلاحيات لمحمد بن نايف بإنشاء “كيانات مناسبة في القطاع الخاص” لإخفاء الأنشطة الحساسة التي يراد القيام بها. وينص المرسوم على أن محمد بن نايف “سيُطلعنا في نهاية كل سنة مالية” على تفاصيل الإنفاقات من المخصصات السرية الممنوحة.
وفي تقرير آخر رفعه محمد بن نايف إلى الملك الراحل عبدالله، واطلعت عليه صحيفة The Washington Post، يلخص بن نايف الإنفاق السري على برامج محاربة الإرهاب عن السنة المالية ذاتها، وتطلب الوثيقة المؤرخة في 20 مايو/أيار 2013 الموافقة على مخصصات مالية بقيمة 5 مليارات ريال سعودي (نحو 1.3 مليار دولار) لتمويل الإنفاق على ثمانية مشروعات، وتشمل المخصصات مبلغ 378 مليون ريال لإنشاء “مطارات سرية” ومبلغ 1.6 مليار ريال لـ”خدمات نقل جوي” ومبلغ 1.5 مليار ريال لشراء “معدات” أمنية، منها أسلحة. (وقد يكون بند “المطارات السرية” الوارد في الوثيقة يشير إلى مشروع كشفت عنه BBC في فبراير/شباط 2013 بخصوص بناء قاعدة طائرات دون طيار في المملكة قبلها بعامين).
وتفيد الوثائق بأن التقرير الذي أرسله محمد بن نايف أُعيد إليه بعدها بثلاثة أيام، مرفقاً برسالة مختومة من خالد التويجري، رئيس الديوان الملكي، وبجانب طلب الموافقة على مبلغ المخصصات البالغ 5 مليارات ريال، أُرفقت تأشيرة مكتوبة بخط اليد، من الواضح أنها واردة من الملك عبدالله، وتنص باللغة العربية على أنه “لا مشكلة”، بحسب وثيقة اطلعت عليها صحيفة The Washington Post.
وقال مساعد محمد بن نايف إن هذه الوثائق الخاصة بالحكومة السعودية يحتفظ بها محامو محمد بن نايف في بريطانيا وسويسرا، وستكون متاحة للكشف عنها في أي إجراء أو تنازع دولي قد يطرأ مستقبلاً.
ولم يردّ مسؤول سعودي عمل بدرجة وثيقة مع محمد بن سلمان في التحقيقات مع محمد بن نايف، على رسالتين نصيتين تطلبان التعليق. كما لم يرد متحدث باسم السفارة السعودية في واشنطن على طلب للتعليق.
من جهة أخرى، يقول مسؤولون سابقون في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية إنهم كانوا على علم بإدارة محمد بن نايف لحسابات سرية كهذه ضمن برامج مكافحة الإرهاب في ذلك الوقت، وأنها استُخدمت للمساعدة في تمويل مشروعات أمريكية سعودية مشتركة.
وقد أوضح جون برينان، مدير وكالة الاستخبارات المركزية السابق الذي عمل بدرجة وثيقة مع محمد بن نايف لأكثر من عقد، في مقابلة معه، أن “وزارة الداخلية السعودية كانت مدعومة بميزانية كبيرة لكي تتمكن من الاضطلاع بمهام بناء القدرات وتجنيد الأفراد والتواصل مع عناصر استخباراتية لاختراق تنظيم القاعدة.. وكان رأي الملك عبد الله أن عليه الاستثمار في الأنشطة التي يقودها محمد بن نايف، فقد كان بن نايف أحد الأشخاص المفضلين لديه”.
وبشأن الادعاءات التي وردت عن أشخاص مقربين من محمد بن سلمان بأن بن نايف كان يختلس أموالاً من حسابات ومخصصات تابعة للاستخبارات السعودية، قال برينان: “على مدار عملي مع محمد بن نايف لم يكن شخصاً قد أعتقد أنه متورط في نشاط فاسد أو في اختلاس أموال”.
وعلى النحو نفسه، فإن جورج تينيت، الذي كان مديراً لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية عندما تولى بن نايف إدارة ملف مكافحة الإرهاب في وزارة الداخلية السعودية في عام 2003، يمدح محمد بن نايف ويتحدث عنه بإكبار في مذكراته “في قلب العاصفة. سنواتي في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية” At the Center of the Storm: My Years at the CIA التي نشرها في عام 2007، والتي يقول فيها عن محمد بن نايف: “إنه شخص تطورت بيننا وبينه علاقة يسودها قدر كبير من الثقة والاحترام. وكثير من النجاحات التي تحققت فيما يخص تفكيك تنظيم القاعدة في المملكة يرجع الفضل فيها إلى جهوده الشجاعة”.
وتسرد قصة حياة محمد بن نايف، بحسب ما يرويه أصدقاؤه وشركاؤه، رحلة التحول البطيئة للملكة نحو التحديث، حتى عندما كانت تمزقها الغيرة والضغائن العائلية. فقد نشأ الأمير، الذي يبلغ من العمر الآن 60 عاماً، في أروقة السياسة والحكم في المملكة. كان لديه وجه لطيف ويرتدي نظارة، ابناً تحركه مشاعر المسؤولية والإحساس بالواجب. وكان والده نايف، نجل المؤسس التاريخي للمملكة عبدالعزيز بن سعود، وزيراً للداخلية لمدة 37 عاماً من 1975 إلى 2012.
ويعد نايف تجسيداً للحرس السعودي القديم، فهو الشخص المحافظ المنغلق شديد العناية بآراء المؤسسة الدينية الوهابية في المملكة. وتحت قيادته، كانت وزارة الداخلية بيروقراطية بطيئة، تفتقر إلى أدوات الخدمة الأمنية الحديثة. وقد برزت نقاط الضعف هذه وتفاقم خطرها عندما بدأ المقاتلون السعوديون الذين شاركوا في الجهاد الأفغاني ضد السوفييت في العودة إلى الوطن خلال التسعينيات وانجرفوا نحو تنظيم القاعدة.
احتاجت وزارة الداخلية إلى تغييرات جذرية، وقد شجّع عبد الله، الذي كان ولياً للعهد آنذاك لكنه كان يدير المملكة على الحقيقة نيابةً عن الملك فهد المريض، الأمير محمد بن نايف على الانضمام إلى الوزارة في عام 1999 كمساعد لوالده. أما الأمير الشاب حينها، فقد كان يعيش الحياة النموذجية لأفراد العائلة المالكة، حيث يبيع العقارات العائلية في جدة وينفق وقته في الانتقال من مشروع مشترك إلى آخر مع شركائه من السعوديين الأثرياء. ويتذكر أصدقاؤه تلك الأوقات بالقول إنه كان يحب جني الأموال وإنفاقها. ومع ذلك، فقد كان لديه بعض أوراق الاعتماد التي أعجبت الملك: إذ كان قد درس في مرحلته الجامعية في الولايات المتحدة، وكان يتحدث الإنجليزية جيداً وخاض بعض دورات مكافحة الإرهاب مع مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي وشرطة سكوتلاند يارد البريطانية.
كان أول مشروع لمحمد بن نايف بعد تعيينه مساعداً لوزير الداخلية في عام 1999 هو إصلاح أكاديمية الشرطة السعودية، التي كانت مركز تدريب يفتقر إلى التطوير وتسود ترشيحات مجنديه المحسوبية والمحاباة. عمل بن نايف على تجديد الأكاديمية، بمساعدة خريج موهوب يدعى سعد الجابري، وهو ضابط سابق في الشرطة السعودية كان قد حصل على شهادة الدكتوراه في علوم الذكاء الاصطناعي من جامعة إدنبرة بالمملكة المتحدة، لتبدأ شراكة بين الاثنين استمرت حتى خلع محمد بن نايف من ولاية العهد.
بعد تحديث الأكاديمية، كلف محمد بن نايف مساعدَه الجابري بإعادة تنظيم مكتب الشؤون العسكرية بالوزارة، والذي كان بؤرة أخرى للمحسوبية وترهل الأداء. واجه محمد بن نايف أول اختبار حقيقي له في التعامل مع ما يعرف بأحداث نجران عام 2000، وهي مدينة على طول الحدود الجنوبية للمملكة مع اليمن وكان يسكنها عدد كبير من أتباع الفرقة الإسماعيلية الشيعية. وكانت الأحداث اشتعلت بعد اعتقال السلطات لرجل دين إسماعيلي بتهمة ممارسة السحر، لينشق إثر ذلك عشرات من الضباط العسكريين، ويتعرض مقر حاكم المنطقة للهجوم. أراد الحرس القديم في الوزارة حملة قمعية صارمة، لكن بن نايف اختار التفاوض على تسوية سلمية، وهو النمط التصالحي الذي أصبح علامة عليه بعد ذلك.
تكلفت عمليات الإصلاح كثيراً من الأموال، وكانت ميزانية وزارة الداخلية مستنزفة إلى حد كبير في دفع أجور موظفيها. ومن ثم، بحلول عام 2003، منحه ولي العهد آنذاك عبدالله بن عبدالعزيز الصلاحيات لاستخدام 30% من عائدات الوزارة من الغرامات ورسوم الإقامة واستخراج جوازات السفر وغيرها من الإيرادات لتمويل أنشطة أمنية خاصة. وبحسب المصدر المقرب إلى محمد بن نايف، فإن تلك الفترة شهدت بداية الترتيبات المالية الخاصة التي يقود تتبعها إلى التحقيق محل البحث حالياً.
سارت المؤسسة الأمنية السعودية في غفلة عن الإعداد الذي أفضى إلى هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 في الولايات المتحدة. وكان بن نايف مقتنعاً بأن الهجمات مؤامرة تهدف إلى تشويه سُمعة المملكة. واستمر موقف الإنكار السعودي هذا حتى مايو/أيار 2003، عندما هاجم منتمون إلى تنظيم القاعدة مجمعاً سكنياً للأجانب في العاصمة الرياض، ليقتلوا 35 شخصاً، بينهم 10 أمريكيين. ليهرع جورج تينيت، الذي كان مديراً لوكالة الاستخبارات الأمريكية آنذاك، إلى الرياض لعقد اجتماع عاجل لتحذير الأمير عبدالله من أن العائلة المالكة تواجه تهديداً خطيراً.
استذكر تينيت المشهد في إحدى المقابلات، حيث حضر الاجتماع نائب الملك وولي العهد، عبدالله بن عبدالعزيز، إلى جانب وزير الداخلية، الأمير نايف، ونجله محمد بن نايف، والأمير بندر بن سلطان والسفير السعودي في واشنطن، الذي تولى الترجمة. وكتب تينيت في مذكراته أنه حذّر ولي عهد البلاد الأمير عبدالله من أن مؤامرات القاعدة “موجهةٌ ضد عائلتك وقيادتك الدينية للبلاد” وحثه على “إعلان الحرب” على التنظيم.
اختار الحاكم الفعلي للبلاد الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، مساعدَ وزير الداخلية آنذاك، محمد بن نايف، قائداً للمهمة على الفور. وبحسب ما ذكر تينيت في مقابلته، “نظر الملك إلى محمد بن نايف وقال له أمام الآخرين: ستتولى ملف مكافحة الإرهاب”.
وخلال السنوات التالية عكف محمد بن نايف على تحديث جهاز الأمن التابع لوزارة الداخلية، المعروف باسم المباحث، وحوّله إلى قوة مُعاصرة لمكافحة الإرهاب. وموّل العمليات من باستخدام صندوقه المُخصّص بنسبة 30% (من دخل الوزارة)، لكن زيادة النفقات دفعت الملك عبدالله في عام 2006 إلى منح المزيد من المال لمحمد بن نايف من أجل العمليات الاستخباراتية السرية، خاصةً ضد تنظيم القاعدة في جزيرة العرب أو التنظيم التابع له في اليمن.
وجاءت هبة الملك عبدالله الجديدة مدفوعةً جزئياً بعمليةٍ جريئة ضد تنظيم القاعدة في فبراير/شباط عام 2006، شهدت بناء نفق بطول 140 متراً لتحرير 23 من المحتجزين في اليمن، وبينهم قائد هجوم عام 2000 على المدمرة الأمريكية يو إس إس كول. وتلقّى محمد بن نايف منحةً طارئة بقيمة 200 مليون ريال (53 مليون دولار) عام 2006 لزيادة عملياته ضد تنظيم القاعدة بحسب أحد شركاء محمد بن نايف.
وكان بانتظار المزيد من الأموال بعد فترةٍ وجيزة.
وبدأ المرسوم الملكي السري للملك عبدالله في ديسمبر/كانون الأول عام 2007 بتأكيد موافقته على كافة النفقات السابقة المُتعلّقة بمكافحة الإرهاب، ومن بينها مخصصات عملية اليمن وفقاً لوثيقة راجعتها صحيفة Washington Post. ونص المرسوم على ثلاث نقاط أساسية أخرى: يُمكن لمحمد بن نايف (مساعد الوزير آنذاك) مواصلة إنفاق ما يلزم لمكافحة الإرهاب مع رفع تقريرٍ سنوي للملك، وإمكانية تنظيم الشركات الخاصة “وفقاً لما يراه مناسباً”، إلى جانب الحصول على حصةٍ أكبر من دخل رسوم الوزارة يصل إلى 45% بدلاً من 30%.
وأرسل الملك عبدالله مرسوم عام 2007 إلى نايف، الذي كان لا يزال الوزير اسمياً. وألحقها نايف بمذكرةٍ خطية إلى ابنه. ونصت المذكرة، التي اطّلعت عليها الصحيفة الأمريكية وترجمتها، على التالي: “في الواقع، هذا دعمٌ كبير من سيدي خادم الحرمين الشريفين”. إذ مُنِحَ محمد بن نايف ما يُعادل ترخيصاً بكتابة شيكات تُصرف من الخزانة السعودية.
ولإدارة العمليات بسرية قرّر محمد بن نايف تشكيل شبكةٍ مما تصفه وكالة الاستخبارات المركزية بـ”المالكين”، وهي شركاتٌ خاصة صورية تُستخدم لتنفيذ العمليات السرية. وقال لشركائه في الوزارة ضمن وثيقةٍ راجعتها الصحيفة الأمريكية إنّ تأسيس هذه الشركات السرية يُمثّل محاولةً منه لـ”محاكاة المعيار الذي تتبعه وكالات الأمن الدولية”، وإنّه يرغب في تأسيس شركات تستطيع توفير تقنيةٍ آمنة وتسهيل نقل الأفراد المسلحين دون “إحراج” الخطوط السعودية.
وأمر محمد بن نايف اثنين من كبار شركائه -رئيس موظفيه الجبري والمسؤول المالي الكبير بالوزارة عبدالله الحماد- بالإشراف على الشبكة. ووعدهم بنسبة 5% من الأرباح السنوية لشركات المالكين مقابل إدارتهم للمنظومة، بحسب الوثيقة التي راجعتها صحيفة Washington Post. وهذا ترتيبٌ تحظره أجهزة الاستخبارات الغربية، لكن المملكة تعمل وفقاً لقواعد مختلفة حين يتعلّق الأمر بمكافأة الولاء.
وجرت إدارة شبكة شركات الواجهة من خلال مجموعة شركات سكاب القابضة في الرياض. وسكاب في اللغة العربية تعني حصاناً شديد الرشاقة لدرجة أنّه يتحرّك مثل الماء الجارية، مع تصميم شعار الشركة في صورة حصان مُنمّق مرسوم باللون الذهبي. ونصّب عقد تأسيس سكاب، بتاريخ التاسع من مايو/أيار عام 2008، اثنين من المسؤولين التنفيذيين السعوديين مديرين اسميين للشركة -مع وعدٍ بنسبة 1% من الأرباح السنوية.
وأدارت سكاب أربع عمليات أساسية من مقرها في الرياض، هي: نقل شركة ألفا ستار أفراد مخابرات بأسلحتهم على طائراتها، وتشييد شركة إنشاءات للبنية التحتية الخاصة بالمباحث وعملياتها -ومنها بناء المقر الجديد- بشراكةٍ مع شركة تركية معروفة، وتوفير شركة التحكم الأمني المحدودة سيارات مصفحة وغيرها من الخدمات الأمنية، وتعاون شركة تحكم التقنية مع الشركات الأمريكية والسعودية لتوفير خدمات التشفير وفكّ التشفير واستخراج البيانات وغيرها من الخدمات الرقمية.
وأكد محمد بن نايف للملك أثناء تقديم سجلاته الحسابية لعام 2013: “أريد إبلاغ جلالتك بأن كافة المعلومات محفوظةٌ في أضيق الدوائر، وأن كل خطوة يجري توثيقها وتداول بأعلى قدرٍ من السرية”.
***
كانت تعبئة محمد بن نايف المُموّلة جيداً ضد المُتشدّدين بمثابة هبة من الله بالنسبة لحكومة الولايات المتحدة، التي كانت تخشى قبل بضع سنوات سيطرة القاعدة على المملكة.
إذ وصفت برقيةٌ بتاريخ 30 مارس/آذار عام 2009، من السفارة الأمريكية في الرياض إلى وكالات الاستخبارات والأمن القومي في واشنطن، وزارة الداخلية بأنها “فرس الرهان وأكبر الوزارات السعودية وأكثرها نفوذاً على الصعيد المحلي”. وأردفت البرقية أن محمد بن نايف “يحظى بمكانةٍ كبيرة لدى الملك عبدالله، واحترامٍ كبير من جانب الشعب السعودي بفضل جهده الفعال في هزيمة القاعدة داخل المملكة وإدارة برنامج فعّال للقضاء على الراديكالية بدعمٍ محلي وقبلي كبير، ما أسفر عن تسهيل تنفيذ عمليات في صالح حكومة الولايات المتحدة داخل المملكة بأكبر قدر من الفاعلية والتعاون”.
وأوضح أحد كبار المسؤولين الأمريكيين السابقين في الرياض: “أدرك الجميع في حكومة الولايات المتحدة أن محمد بن نايف يحظى بأوسع سلطة إنفاق من الملك”. وعبر هذه القناة موّل السعوديون الكثير من عمليات مكافحة الإرهاب السعودية-الأمريكية المشتركة، على حد قوله.
ويقع الإنفاق عبر خدمات الاتصال الأجنبية هذه خارج نطاق إشراف الكونغرس أو الفرع التنفيذي للسلطة. لكن مسؤولين سابقين أصرّوا على أن المال لم تجر إساءة استخدامه. إذ قال أحدهم إنّ القاعدة الإرشادية كانت بسيطة: “لا يُمكنك أن تطلب من جهة الاتصال تنفيذ شيءٍ لا تستطيع فعله بنفسك”. وبخلاف ذلك، كان الأمر أشبه بمنجم ذهبٍ استخباراتي يذخر بالأموال المجانية.
واتضحت ثمار هذه الشراكة السعودية-الأمريكية في عام 2010، حين كشف السعوديون مؤامرةً بواسطة القاعدة لنقل متفجرات بلاستيكية مخبأة داخل خراطيش الطباعة الحاسوبية التي كانت ستُشحن على متن طائرات شحن دولية. إذ أنقذت تلك العملية حياة العديد من الناس، وتضمّنت عملاء مُجنّدين بواسطة تمويل العمليات الخاصة لمحمد بن نايف في اليمن، بحسب مسؤولين سعوديين وأمريكيين سابقين.
***
امتلك محمد بن نايف سلطة إصدار شيكات من البنك المركزي السعودي. وكان أول شيك في الوثائق التي راجعتها الصحيفة الأمريكية بقيمة 300 مليون ريال، بتاريخ الـ16 من نوفمبر/تشرين الثاني عام 2008. وقال شريكه إنّ المبلغ أُودِع في حساب سري لصالح محمد بن نايف، مع الملاحظة التالية: “مساعد وزير الداخلية للإشراف على الشؤون الأمنية للعمليات الأمنية العاجلة الخاصة”. وكانت سكاب تُدير الأموال في الحساب لتوفير واجهةٍ تُجارية.
وحظي محمد بن نايف بسلطةٍ كبيرة بفضل المال. إذ أوضح شريكه: “إنّ امتلاك صندوقٍ باسمك هو بمثابة الكأس المقدس في السعودية”.
وبهذا الصندوق السري، كُلِّف محمد بن نايف بالمهمة الحساسة التي تتمثّل في توزيع الأموال على غيره من الأمراء وعلية القوم. إذ لطالما كانت هذه المدفوعات جزءاً من ممارسة شائعة في السعودية، باعتبارها وسيلةً لتعزيز الأمن بفاعلية عن طريق مشاركة بعض سخاء العائلة الملكية. وكان كبار الأمراء، مثل سلمان حين كان أمير الرياض ونايف حين كان وزير الداخلية، يتقاضون رواتب شهرية بملايين الريالات وفقاً لشريك محمد بن نايف.
ومنح الملك عبدالله ثقته الاستثنائية لمحمد بن نايف. وتعمّق هذا الالتزام بعد محاولة اغتيال كادت أن تُطيح بمحمد بن نايف في 27 أغسطس/آب عام 2009. حيث زار عميلٌ للقاعدة، يُدعى عبدالله العسيري، قصر محمد بن نايف في جدة بدعوى تسليم نفسه شخصياً لبرنامج إعادة تأهيل الإرهابيين التابع للوزارة. ثم فجّر قنبلةً مخبأة في المستقيم، فأصيب محمد بن نايف في الانفجار. وسارع الملك عبدالله لرؤيته في المستشفى.
ويبدو أنّ دعم الملك عبدالله لرئيس مكافحة الإرهاب لم يتزعزع قط. إذ خلف محمد بن نايف والده في منصب وزير الداخلية عام 2012، وبعد وفاة الملك عبدالله وتولّي الملك سلمان المسؤولية نُصِّب محمد بن نايف ولياً للعهد في أبريل/نيسان عام 2015 -ما يُشير إلى أنه كان في طريقه لكرسي العرش بنهاية المطاف. لكن محمد بن سلمان نُصِّب نائباً لولي العهد في الوقت ذاته، وهي علامة شؤمٍ بالنسبة لبن نايف.
وأدرك محمد بن نايف أن مكانته المميزة في عهد الملك عبدالله قد انتهت، بحسب شركائه السعوديين والأمريكيين، لذا بدأ في تصفية شبكة شركاته السرية منتصف عام 2015 بنقل ملكيتها إلى صندوق الاستثمارات العامة السعودي -الصندوق السيادي للمملكة.
وأشارت رسالةٌ خطية من محمد بن نايف بتاريخ الأول من أغسطس/آب عام 2015 إلى التقييمات الحالية صندوق الاستثمارات العامة، والزيادة في القيمة منذ التمويل الأولي لمحمد بن نايف: إذ بلغ صافي الربح لألفا ستار بعد اقتطاع القروض ومكافآت مجلس الإدارة والمصروفات 4.5 مليار ريال، بينما ربحت شركة تحكم التقنية نحو 462 مليون ريال، وأدرّت شركة التحكم الأمني نحو مليار ريال سعودي. ووصل إجمالي مكاسب رأس المال للشركات الثلاث إلى نحو 5.9 مليار ريال (1.6 مليار دولار)، بحسب شريك محمد بن نايف.
لكن كان بالإمكان سماع صوت خطوات محمد بن سلمان تقترب في الديوان الملكي. إذ أقال الملك سلمان أكبر شركاء محمد بن نايف، الجبري، يوم 10 سبتمبر/أيلول عام 2015 بعد لقائه خارج البلاد بمدير وكالة الاستخبارات المركزية آنذاك برينان. وفي رسالةٍ بتاريخ 13 أكتوبر/تشرين الأول عام 2015، أمر محمد بن نايف الجابري -الذي صار مستشاره الخاص- بالتحرّك من أجل “إعادة هيكلة الشركات القائمة وتصفية الفائدة”.
ورغم أنّ محمد بن نايف وعد الجابري والحماد بنسبة 5% من أيّ أرباح تعويضاً عن دورهم الإداري، لكنّه خفضها إلى 5% من نصف الأرباح، ودُفِعَت تلك المبالغ أواخر عام 2015. ورفض الجبري التعليق، ويعيش منفياً في تورنتو حالياً. ويقول شريك محمد بن نايف إن الحماد يقبع داخل السجن في السعودية، وتعذّر الحصول على تعليقه أيضاً.
ولم يكُن محمد بن نايف مبذراً في إنفاقه مقارنةً ببعض كبار الأمراء، وفقاً لأمريكيين يعرفونه جيداً. لكن ثروته الخاصة زادت بشكلٍ كبير خلال خدمته في الحكومة رئيساً لمكافحة الإرهاب. وربما فعل كل شيء بمباركة الملك وفقاً لما تُشير إليه الوثائق. لكن مشكلة الفساد الأكبر تُمثّل قضيةً كبرى داخل المملكة. ورغم كون محمد بن سلمان منفقاً بذخاً، لكن حملته القمعية ضد الأمراء ورجال الأعمال الأثرياء هي أحد أسباب احتفاظه بشعبيته داخل المملكة حتى الآن رغم حكمه الاستبدادي القاسي. والمقلق بشأن اعتقاله ومحاكمته المحتملة لمحمد بن نايف هو أنّه قد يستغل قضية الفساد لتدمير خصمه.
***
الفصول الأخيرة من قصة محمد بن نايف لها نهايةٌ حتمية حزينة: إذ لم يكُن قادراً ببساطة على مجاراة محمد بن سلمان في قدرته على حماية أصدقائه والتنكيل بأعدائه. ويقول أصدقاء محمد بن نايف الأمريكيين والسعوديين إنّ قدرته ربما صارت مقيّدة بسبب مشكلة تعاطي المخدرات، التي بدأت مع مسكنات الألم التي تعاطاها في أعقاب إصابته خلال محاولة الاغتيال عام 2009.
وعثر المجازف الطموح محمد بن سلمان على حليفٍ قوي جديد حين صار دونالد ترامب رئيساً عام 2017. بينما فرّ الجبري من المملكة في مايو/أيار عام 2017. وبعد شهرٍ واحد استُدعِيَ محمد بن نايف إلى القصر بواسطة نائبه محمد بن سلمان، وأُمِر بالاستقالة. وقال شريكه إنّه طلب الاتصال باثنين من كبار الأمراء، هما محمد بن فهد وخالد بن سلطان. فقالوا له إنّ اللعبة انتهت، وإنّهم عقدوا صفقاتهم مع منافسه، وإنّ محمد بن نايف لا خيار أمامه سوى الاستقالة من منصب ولي العهد.
واستسلم محمد بن نايف وأقسم بالولاء لبن سلمان. وصدر مرسومٌ ملكي في الـ21 من يونيو/حزيران عام 2017، أعلن إقالته من منصب ولي العهد ليحل نائبه محله. وغيّر بعض أصدقائه وحلفائه السابقين، وبينهم كبار ضباط المباحث، ولاءهم وصاروا من مؤيّدي بن سلمان. بينما أُلقِيَ القبض على الآخرين وتعرّضوا للتعذيب بحسب التقارير. في حين أدّت اعتقالات كبار رجال الأعمال والأمراء داخل فندق ريتز-كارلتون في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2017 إلى ترهيب بقية المعارضين.
وضاق الخناق على محمد بن نايف. وأُدرجت أسماء زوجة وبنات ولي العهد السابق على قائمة الممنوعين من السفر. وصادرت السلطات 21 مليار ريال (5.6 مليار دولار) من أصول محمد بن نايف العائلية السائلة، وبينها 17.8 مليار ريال (4.7 مليار دولار) من الممتلكات الشخصية و3.1 مليار ريال (826 مليون دولار) من أموال سكاب.
وفي السادس من مارس/آذار عام 2020، أُلقِيَ القبض على محمد بن نايف وعمه الأمير أحمد. وقال مسؤولٌ في الديوان الملكي لكبار الأمراء إنّ الاثنين كانا يُخطّطان لانقلاب وسيُحاكمان بتهمة الخيانة.
كتب ويليام شكسبير في مسرحية “هنري الرابع، الجزء الثاني”: “لن يرتاح رأسٌ يحمل التاج أبداً”. وتنطبق هذه القاعدة على أولياء العهد الحاليين والسابقين.
ولا شكّ أنّ الصعود المبهر والانهيار المأساوي لمحمد بن نايف يُمثّل مأساةً شكسبيرية مُعاصرة داخل مملكةٍ صحراوية. وبغض النظر عن إخفاقات بن نايف، لكن ضباط الاستخبارات الأمريكيين الذين تعاونوا معه يعتبرونه بطلاً ساعد في إنقاذ بلاده عند تعرضها لتهديدٍ قاتل. ويتذكّرون جيداً شعار المباحث، جهاز الأمن المعاصر الذي بذل بن نايف جهداً كبيراً لإنشائه: “وطنٌ لا نحميه، لا نستحق العيش فيه”.
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Washington Post الأمريكية.
عربي بوست