الجمعة , نوفمبر 22 2024

سوريا وصراع الهويات

سوريا وصراع الهويات

أحمد الدرزي

أدّى الموقع الجغرافي لبلاد الشام، التي تختزل الحيّز الجغرافي لسوريا الطبيعيّة، دوراً أساسياً في تشكيل بنيتها التاريخيّة والثقافيّة والسياسيّة، فموقعها في قلب العالم القديم جعل منها أخطر بقعة جغرافية فيه، وخصوصاً أنها محاطة بهضبة الأناضول التي تمتد إلى الشواطئ الشمالية للبحر الأبيض المتوسط، إضافة إلى الهضبة الإيرانية مع الامتداد العراقي، ووادي النيل الباحث عن تأمين أمنه في البوابة الشّمالية المفتوحة عليه، وهي مناطق مولّدة لدول مركزيّة قويّة ذات بعد إمبراطوريّ واسع تنظر كلّ منها إلى بلاد الشام كنقطة حاسمة في تقرير دورها الإمبراطوري الحاكم على مستوى العالم القديم، ما ترك آثاره في طبيعة البنية السياسيّة الهشّة لقواها التي تشكّلت مع إنتاجها أسس الحضارة الإنسانية، فغابت الدّولة المركزيّة عن الحضور بفعلها الإمبراطوري، وحلَّت محلّها تعدديّة سياسيّة لممالك صغيرة لا قدرة لديها على الاستمرار إلا بتحالفات هشة، ما مكّن القوى الإمبراطورية الكبرى من اجتياحها والسيطرة عليها والتناوب عليها، بدءاً من الإمبراطورية الفارسية في العام 572 ق.م، مروراً بالإغريق والرومان والبيزنطيين والترك، وانتهاءً بالعثمانيين الذين ذوت قوتهم بفعل الانهيار الداخلي والعامل الغربي.

تركت الاجتياحات الإمبراطورية المتتالية التي استمرَّت أكثر من 2500 عام آثارها في البنية الديموغرافية للبلاد، فترافقت مع انزياحات سكانية متنوعة المشارب، تم استيعابها ضمن الإطار الحضاري الثقافي للبلاد، إلى أن سيطر عليها الطابع العربي الأخير بفعل الإسلام.

استيقظ السوريون مع بدء ملامح الانهيار العثماني، والدخول الغربي لكل من بريطانيا وفرنسا ومزاحمة ألمانيا، على واقع جديد لم يألفوه بفعل 400 عام من الغزو العثماني لبلادهم، ليكتشفوا من جديد هشاشة جغرافيتهم السورية، ويبدأوا البحث عن إطار جديد لهويتهم يحمي كياناتهم السياسية التي كانت في طور البزوغ، فاندفعوا إلى إيجاد هويات أوسع منهم تستطيع أن تؤمن الحماية لهم، فخرجت المدرسة الأساسية للقومية العربية قبل أية منطقة عربية، وانتشر مفهوم الأمة السورية كذلك الهوية الأممية التي تتخذ من موسكو مركزاً للاستقطاب والحماية، إضافةً إلى استمرار الإسلاميين في البحث عن الهوية والخلافة الإسلامية والعودة إلى بناء دولة الخلافة، ما قاد إلى صراع سياسي كبير بين المدارس الأربع في أواسط القرن الماضي، والذي استمرَّ لثلاثة عقود.

رغم حسم تيار الهوية القومية العربية المسار العام لسوريا الجديدة منذ العام 1963، فإن واقع الحال لم يكن بهذه السهولة التي يمكن أن نتصوَّرها، فقد انفجر الصراع بين الإسلاميين والقوميين بشكل أساسي في العام 1964 من القرن الماضي، وفِي العام 1979 بعد المجزرة التي قادها إبراهيم اليوسف وعدنان عقلة من تنظيم الطليعة المقاتلة في حركة الإخوان المسلمين في مدرسة المدفعية في حلب، والتي استمرت بتداعياتها حتى العام 1985، ثم ليعود الانفجار مرة ثالثة في آذار/مارس 2011، والذي ما زال مستمراً حتى الآن، وأيقظ معه كل الهويات القومية والدينية والطائفية.

وفي كل حالات الصراع، كان وما زال للدول الإقليمية المحيطة بما تبقى من سوريا الطبيعية دور أساسي في إشعال صدام الهويات، بتوجيه من القوى الغربية، وخصوصاً الولايات المتحدة، التي استطاعت استثمار واقع الانقسام الهوياتي غير المعلن منذ أكثر من 50 عاماً.

أثارت مؤخراً خطبة الجمعة التي ألقاها وزير الأوقاف السوري محمد عبد الستار السيد في طرطوس عاصفة من الانتقادات في وسائل التواصل الاجتماعي، وتصدت مجموعة كبيرة من النخب السورية لما تكلّم به، ليظهر من جديد أنّ السوريين بعد الحرب التي شُنَّت عليهم استعادوا الخلاف حول مسألة الهوية الجامعة لهم، بعد أن ظنّت الأغلبية الكبيرة منهم أنّ الأمر حسم بلا رجعة.

وعلى الرغم من أنّ الصراع في سوريا وعليها لم يرسم بعد آفاقاً للخروج مما تتعرَّض له، فإن هذه الظاهرة المتجددة تنبئ بأن المخاطر المترتّبة على بقاء هذا الانقسام سيتسبّب بالمزيد من الصراعات في ما بعد، وخصوصاً أنّ سوريا عادت إلى ساحة صراع دولي وإقليمي كبير بفعل الاستدارة التركية نحو الشرق، بعد إغلاق أبواب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، واستثمارها الهوية الإسلامية في تمددها القومي، بما يتشارك مع المصالح الغربية في تهديد الصين وروسيا ومحاصرة إيران، وانفلات الدور الإسرائيلي الباحث عن ريادته وأمنه للمنطقة، بفعل تسليم مصر دورها الإقليمي لـ”إسرائيل” بعد اتفاقية “كامب ديفيد” في العام 1979، والاندفاعة الإيرانية بعد احتلال العراق للوصول إلى البحر الأبيض المتوسط، وتبنّيها لكلّ الحركات المقاومة للمشروع الغربي ولـ”إسرائيل” في فلسطين ولبنان والعراق واليمن، إضافة إلى تحالفها الوجودي مع سوريا المهددة بما تبقى من حيّزها الجغرافي الطبيعي.

كل ذلك دفع الدولة العميقة في الولايات المتحدة إلى تفجير الداخل السوري باستخدام القوى المحلية التي ترتبط بالقوى الإقليمية المتعددة، وباستثمار كبير للهويات ما دون الوطنية، ما أعاد سوريا إلى سياقها التاريخي كساحة صراع أساسية لتحديد الأدوار الإقليمية والدولية.

ما تحتاجه دمشق الآن هو توليد مشروع سياسي جديد ينطلق مما كشفه عمق الأزمة السورية، ومنع عودة صدام الهويات واستثمارها من الخارج في العقود القادمة بعد الانتهاء من الأزمة، والتوجه نحو حقائق التاريخ والجغرافيا التي طرحها الرئيس الراحل حافظ الأسد بشفافية في المؤتمر القطري السادس في العام 1975، مكتشفاً انسداد الأفق الجيوسياسي لسوريا، وضرورة الانطلاق كمواطن عربي من الحيّز الجغرافي التاريخي للهلال الخصيب، وضرورة توحده تحت أية تسمية كانت، ولو باسم “الهلال المجدب”، وتجاوز الأمر بفعل التهديدات التي تعرضت لها سوريا بعد انسحاب مصر من دورها الإقليمي، والتوجه إلى التحالف الأعمق والأكثر استمراراً مع إيران، رغم الاختلاف في الهويتين القومية والمذهبية واختلاف تركيبة بنى الدولتين.

لم ولن تعرف سوريا خاصةً، ومنطقة الهلال الخصيب عامةً، الاستقرار في ظلّ صراع القوى الدولية والإقليمية، إلا إذا استوعب الجميع أن استمرار الصراعات ذات البعد الهوياتي هو استمرار لاستنزاف الجميع دماً واقتصاداً وحجراً، ولا بدَّ من صيغة للشراكة والتعاون بين الهضبة الإيرانية وهضبة الأناضول ووادي النيل، بحيث تؤمن التفاعل الإيجابي والاستقرار لبلاد الشام والرافدين، وهو أمر لن يحصل بغياب مصر وبقاء “إسرائيل” واستمرار تركيا كأهم عنصر في سياسات الولايات المتحدة في صراعها مع الصين وروسيا وإيران.

تستمر سوريا في خوض الصراع دفاعاً عن بقائها ووجودها ودورها مع حلفائها الذين يشاركونها الرؤية ويتعرضون للتهديدات نفسها، وهذا يفرض عليها إعادة النظر لبناء الداخل السوري وفق رؤية سياسية جديدة مانعة لعودة صراع الهويات، مع الإدراك الكامل لتداخل الهويات وامتداداتها، فهل سنرى ذلك في قادم الأيام؟
الميادين