الإثنين , نوفمبر 25 2024

البلدة البريطانية التي أصبحت معقلا “لنشاط ديني غير معهود”

البلدة البريطانية التي أصبحت معقلا “لنشاط ديني غير معهود”

لطالما وصفت إيست غرينستيد، الموجودة في مقاطعة ساسكس، بأنها أغرب بلدة في بريطانيا.

فظاهريا، يبدو كل شيء فيها معتادا، إذ تزخر بالمباني المصممة على طراز القرن الرابع عشر، والمكتبات ومتاجر الجواهر، وتباع في الأسواق شطائر البرغر والنقانق، ويتجمع الأصدقاء أمام المقاهي.

لكن هذه البلدة الصغيرة مشحونة بحالة دينية غير المعهودة. إذ اتخذت منظمات دينية عديدة من هذه البلدة الصغيرة مقرا لها. وهذه المنظمات التي لا يتناسب عددها مع حجم البلدة، بعضها قديم وبعضها حديث، وبعضها أصولي، وبعضها غير تقليدي. واستقطبت إحدى هذه الجماعات اهتماما إعلاميا استثنائيا.

ويعتلي إحدى التلال الخضراء جنوب غربي البلدة منزل “سانت هيل مانور” الجذاب الذي بُني في عام 1792. ويتميز هذا المنزل بتاريخه المتنوع، فقد كان مقرا لبعثة تبشيرية مسيحية، ثم أصبح منزلا لمهراجا مدينة جايبور، وبعدها انتقلت ملكيته في عام 1959 إلى أشهر سكانه، لافاييت رونالد هوبارد، مؤلف روايات الخيال العلمي ومؤسس كنيسة “ساينتولوجي” (Scientology).

وأصبح منزل هوبارد المقر العالمي لمذهب “الساينتولوجية” حتى عام 1967. ولا تزال تمتلكه كنيسة ساينتولوجي حتى الآن. وكما هو حال مقراتها وكنائسها حول العالم، أثيرت حوله قصص وشائعات عجيبة.

فقد زار الممثل توم كروز المنزل مرات عديدة، ويقال إنه اختار جناحا من سانت هيل مانور ليقضي فيه فترة الحجر الصحي أثناء وباء كورونا. وتصدر جون ترافولتا، أحد أتباع الكنيسة أيضا، عناوين الأخبار في عام 2011، عندما رفض عامل بفرع “كنتاكي” في البلدة طلبه حجز مائدة للفريق المرافق له. وفي عام 2013، ذكرت صحيفة “ذا أرغوس” المحلية أن ثلاثة طيارين شاهدوا طبقين فضائيين فضيين يحلقان بالقرب من منزل سانت هيل، لم يكن لهما علاقة بمطار غيتويك، الذي كان الطيارون يستعدون للهبوط فيه.

وتمتلك أيضا الحركة الروزيكروشيانية، وهي طائفة سرية تدعي أنها تحرس حقائق خفية عن الكون، منزلا يشبه قصور حقبة التيودر في نفس البلدة.

وتقيم طائفة “أوبوس داي” الكاثوليكية التي اشتهر أفرادها بارتداء سلاسل شائكة وقمصان خشنة من الشعر لتعذيب الذات تقربا للرب، تجمعات سنوية في مركز مؤتمرات “ويكندون مانور”.

وعلى بُعد أميال شمال إيست غرينستيد يقع معبد “لندن إنجلاند” اللافت الذي اتخذته طائفة المورمون مقرا لها في بريطانيا، وأقامت أيضا طائفة شهود يهوه والعلماء المسيحيين مركزا لنشر تعاليمهم في البلدة.

وأصبحت هذه المنطقة أيضا مركزا لأساليب التفكير البديلة. ففي قرية “فورست روو” المجاورة، أقيمت مدرسة مايكل هول، وهي أول نموذج بريطاني لمدارس فالدورف، حيث يطبق منهج الفيلسوف النمساوي رودولف شتاينر التربوي، الذي يركز على تنمية العواطف والحس الفني.

وتزخر قرية “فورست روو” بالمزارع البيوديناميكية، التي تستخدم مستحضرات السماد المتطورة، مثل جماجم الأبقار المحشوة بلحاء أشجار البلوط ومعدن الكوارتز، وكلها مستمدة من أفكار روبرت شتاينر.

وتمتد جنوب إيست غرينستيد مزارع خضراء منسقة تلتقي بأشجار البندق والكستناء والبلوط في غابة آشداون، التي اشتهرت بأنها كانت مصدر إلهام لألن ألكسندر ميلن، مؤلف قصص “ويني ذا بوه”. إذ عاش ميلن على الأطراف الشمالية للغابة وكان يتجول بين أشجارها مع ابنه.

ولا يزال إرث ميلن باقيا في الغابة، إذ يمر جسر “أغصان بوه”، على سبيل المثال، عبر جدول مائي وسط الغابة. لكن غابة آشداون تحمل بين جنباتها أسرارا أكثر غرابة.

إذ تنتشر في الغابة همهمات السحرة والكهنة في طقوس الويكا الدينية وتجمعات كهنة الدرويد الكلتية.

ويقول ريتشارد كرايتمور، العرّاف الذي يتكهن بالمعاني الروحانية من العلامات على الأرض في الغابة: “يتجمع أحيانا كهنة الدرويد وغيرهم من الوثنيين بالقرب من أشجار الصنوبر الأسكتلندية القديمة أعلى الغابة”.

ويشاع أن الغابة شهدت أيضا أغرب تجمع سري أثناء الحرب العالمية الثانية، تضمن فريق من السحرة والمشعوذين والجواسيس والنازيين.

ففي عام 1938، استأجر جهاز الاستخبارات البريطاني “إم آي 6″، سيسيل ويليامسون، الكاتب السينمائي البريطاني والوثني البارز، لجمع معلومات عن اهتمام كبار الضباط النازيين الواضح بالقوى الغيبية والسحر.

وصمم خطة أطلق عليها اسم “عملية ميسلتو”، لاستغلال شغف النازيين بالسحر الأسود عن طريق إقامة طقوس سحرية زائفة في غابة آشداون. وكان يهدف من ورائها لتحطيم معنويات النازيين بإيهامهم أن القوى الغيبية تتآمر ضدهم.

ويقال إن جنودا كنديين شاركوا في الطقوس بالرقص حول دمى مشتعلة لهتلر وزملائه. وإذا بدا هذا المشهد وكأنه مأخوذ من أفلام جيمس بوند، فإن الكاتب مارك سيمونز يقول إن إيان فليمنغ، مؤلف روايات جيمس بوند، حضر أيضا هذه الطقوس. وبينما قد تظل تفاصيل هذه العملية طي الكتمان، فمن المعروف أن غابة آشداون تحتضن برجا للاتصالات اللاسلكية كان يستخدم في بث الأخبار الزائفة أثناء الحرب التي كانت تربك الأعداء وتوهن عزيمتهم.

لكن ما الذي يميز بلدة إيست غرينستيد عن غيرها؟ قد يرد سكان البلدة بأن الإجابة في الخطوط الوهمية تحت الأرض التي تربط المعالم التاريخية والجغرافية ببعضها البعض.

ويقول كرايتمور: “تقع المدينة عند نقطة تقاطع تلال الأحجار الرملية هاي ويلد- التي يقال إن بنية أحجارها البلورية من الكوارتز تعزز الصفاء المعرفي- مع خط غرينيتش. وقد أقيمت طقوس روحانية ناجحة عديدة بمحاذاة خط غرينيتش، وكذلك في هاي ويلد. لكن يبدو أن نقطة الالتقاء حول إيست غرينستيد وفوريست رو هي مركز القوة الروحانية المرتبطة بالاثنين”.

في حين ترى دافينا ماكايل، التي تدرّس التعاليم الشامانية أن السبب هو الطاقة التي تحيط بمنطقة إيست غرينستيد التي تعززها الغابات القديمة.

وتقول ماكايل: “لقد قيل الكثير عن الخطوط الوهمية التي تمر تحت الأرض، لكنني أرى أن هذه البلدة تستقطب الطوائف الدينية الغريبة بسبب قربها من لندن، ولأن سكان البلدة تقبلوا أنماط الحياة المختلفة منذ أن توافد عليها أتباع الساينتولوجية في أواخر السيتينيات. إذ يريد هؤلاء أن يمارسوا طقوسهم البديلة في أمان وبمساندة أفراد المجتمع”.

ويقول الأب غاسكين، من كنيسة سانت بيتر والسيدة العذراء: “إيست غرينستد كانت تعد ملتقى يجتمع فيه الناس ويبيعون بضاعتهم في طرقاتها. فكانت تعد مكانا هادئا وآمنا. وربما استقطب هذا المكان الناس لقربه من مطار غيتويك”.

وبفضل قرب البلدة من لندن وكثرة المنازل الفخمة المطلة على تلال هاي ويلد، أصبحت إيست غرينستيد وجهة للأثرياء الذين يعشقون الخروج عن المألوف. ويعد سانت هيل مانور أحد أمثلة هذه المنازل الفخمة، وكذلك متنزه هامروود شرق البلدة، المبني على طراز حركة إحياء العمارة اليونانية.

وثمة سبب آخر قد يلخص سمات هذه البلدة أكثر من أي نظرية أخرى عن الطاقة الغيبية والديانات غير التقليدية.

فقد شهد مستشفى كوين فيكتوريا في البلدة إبان الحرب العالمية الثانية ولادة أساليب رائدة في الجراحة التجميلية ابتكرها الجراح النيوزيلندي السير أرشيبالد ماكيندو، الذي عينه سلاح الجو الملكي في المستشفى.

ووضع ماكيندو أسس الجراحة التجميلية وأنقذ عشرات الطيارين من حروق وجروح خطيرة أثناء المعارك، ولولاه لتركت أثارا مدمرة لحياتهم.

وكانت خبرته الطبية لا يضاهيها إلا فهمه للصحة النفسية للمرضى. إذ كان يطلب من المرضى أثناء مرحلة التعافي أن يرتدوا ملابسهم المعتادة بدلا من الملابس التي يرتديها المرضى عادة في المستشفيات.

وأقام ماكيندو جماعة مساندة لضمان أن سكان البلدة سيرحبون بالطيارين أثناء إعادة تأهيلهم وسيتغاضون عن جروحهم. وشجع المرضى على الخروج إلى البلدة وطلب من السكان التودد إليهم وعدم إشعارهم بالحرج. ولهذا عرفت إيست غرينستيد باسم “البلدة التي لا يحدق سكانها في الآخرين”.

ويقول داون سبالدنغ، مدير تنشيط السياحة بالبلدة: “مساعدة الطيارين المحطمين نفسيا على استعادة الثقة بالنفس كانت تتطلب من سكان بلدة إيست غرينستيد تقبل هؤلاء الذين شوهت الحروق ملامحهم دون لفت انتباههم. وكان يُطلب منهم عدم التحديق فيهم، وترسخت هذه العادة بين سكان البلدة، ويأتي الكثير من المشاهير إلى البلدة ويتسوقون في هدوء دون أن يزعجهم أحد”.

ويبدو أن البلدة لا تزال وجهه للأثرياء. فقد أصبحت المطربة أديل آخر النجوم العالميين الذين يستقرون في هذه البلدة. ومن الواضح أن سكان إيست غرينستيد الآن، كما هو حالهم في عهد الطبيب ماكيندو، يعرفون متى يغضون أبصارهم. ولهذا لا يشعر فيها أحد، مهما اختلفت توجهاته، بالغربة.

دانييل استيبلز
بي بي سي