السبت , نوفمبر 23 2024

ماذا تعرف عن الأمن المعرفي الذي يعده البعض “أخطر” تهديد للبشرية في العصر الحالي؟

ماذا تعرف عن الأمن المعرفي الذي يعده البعض “أخطر” تهديد للبشرية في العصر الحالي؟

أصبحت مصطلحات مثل الأمن القومي أو الأمن السيبراني مألوفة اليوم، لكن ماذا عن الأمن المعرفي؟ إنه الأمن الذي إن فقدته المجتمعات ستجد نفسها تعاني من أجل معالجة بعض أزمات القرن الحادي والعشرين الأكثر إثارة للقلق، من الأوبئة إلى تغير المناخ.

مع انتشار وباء كورونا، هناك أمر أصبح واضحا لدرجة لا يستحيل معها التغاضي عنه، وهو أنه من الصعب للغاية التوصل إلى حالة تضافر وتنسيق تامين في سلوك مجتمع بكامله، حتى في الأمور التي تعتبر قضية حياة أو موت.

إن نظرة متفحصة للاستجابة العامة ومواقف الناس المختلفة بخصوص اللقاحات ضد الفيروس المسبب لوباء كورونا، تشرح ما سبق. فلكي يتغلب العالم على هذا الفيروس، يجب أن يوافق معظم الناس على الحصول على اللقاح، مع الأخذ في الاعتبار أن قلة فقط من الحكومات الديمقراطية قد تلجأ إلى جعله إلزاميا.

ومع ذلك، لا يزال هناك تردد كبير بشأن اللقاحات حول العالم. فإذا كانت أعداد الرافضين للحصول على اللقاح كبيرة بما يكفي، فهذا يعني المخاطرة بفشل إحدى أهم الطرق الواعدة للتخلص من الوباء، إذ أن رفض هؤلاء سيؤثر على الجميع، حتى على الأشخاص الذين حصلوا على اللقاح.

وقد كان هذا الأمر واضحا منذ بداية انتشار الوباء، فقد حاول مسؤولو الصحة العامة والسياسيون خلال الفترات المختلفة من انتشار الجائحة إقناع الناس بالقيام بأشياء معينة لحماية أنفسهم ومجتمعاتهم، بدءا من التباعد الاجتماعي وصولا إلى ارتداء الأقنعة.

لقد التزم كثيرون بذلك، لكن البعض الآخر لم يلتزم ورفض النصيحة. وأدى انتشار معلومات خاطئة حول اللقاحات وارتداء الأقنعة، وتداول العلاجات غير الفعالة والشائعات التي لا أساس لها من الصحة حول أصل فيروس كورونا، إلى جعل إمكانية تنسيق السلوك العام في مواجهة الجائحة أمرا صعبا للغاية.

هذه الاستجابة التي تفتقر إلى الإجماع وتضافر الجهود أمام أزمة عالمية كبيرة، تشير إلى وجود اتجاه مقلق ومنذر بالسوء في التعامل مع أي أزمات أخرى قد نواجهها في القرن الحادي والعشرين، من الأوبئة المستقبلية إلى تغير المناخ. وفي عصر ما بعد الحقيقة، أصبح من الصعب وبشكل متزايد التأكد من أن الجميع يملكون المعرفة الكافية. وبعبارة أخرى، حتى لو كانت الطريقة الكفيلة لإنقاذ العالم معروفة وواضحة تماما، فإن بيئة تنتشر فيها معلومات مضللة وتفتقر إلى المصداقية يمكن أن تمنع نجاح ذلك.

وفي تقرير جديد نشره معهد آلان تورنغ في المملكة المتحدة، عبرنا أنا وزملائي عن اعتقادنا بأن خطر هذا الاتجاه يهدد الأمن العالمي نفسه. لقد أصبح مصطلحا الأمن القومي والأمن السيبراني مألوفين، لكننا نعتقد أنه يجب إيلاء المزيد من الاهتمام لـ “الأمن المعرفي”، فمن دونه ستفقد مجتمعاتنا القدرة على التعامل مع أشد المخاطر التي سنواجهها في المستقبل.

وإذا كان الأمن في منازلنا يعني ثقتنا بأن كافة ممتلكاتنا في أمان، والأمن المالي هو أن تكون أموالنا بأمان، والأمن القومي هو أن نحافظ على أمن بلدنا، إذا فالأمن المعرفي هو أن تكون معرفتنا محفوظة بأمان.

وبالتالي، فإن الأمن المعرفي يتضمن التأكد من أننا فعلا نعرف ما نظن أننا نعرفه، وأننا قادرون على كشف الادعاءات غير المدعومة ببراهين أو تلك غير الصحيحة، وأن أنظمتنا المعلوماتية كفيلة بالوقوف في وجه “التهديدات المعرفية” مثل الأخبار المزيفة.

هناك أنواع عدة للأمان، والآن هناك نوع جديد يجب أن نوليه اهتماما، وهو الأمان المعرفي

قدمنا في تقريرنا، دراسة للإجراءات المضادة ومجالات البحث المحتملة، التي يمكن أن تساهم في الحفاظ على الأمن المعرفي في المجتمعات الديمقراطية. لكن في هذه المقالة، دعونا نلقي نظرة على أربعة اتجاهات رئيسية أدى انتشارها إلى تهديد الأمن المعرفي، وتفاقم المشكلة، وهو ما جعل من الصعب على المجتمعات أن تتعامل بشكل مناسب مع التحديات والأزمات الشديدة:

1. قلة الانتباه والتيقظ

منذ زمن بعيد، وبالتحديد في القرن الثالث عشر وقبل أن تخترع المطابع في أوروبا بفترة طويلة، كان العلماء يشتكون من “فيض” المعلومات التي عليهم الإلمام بها. وفي عام 1255، كتب الأب الدومينيكاني فينسنت أوف بوفيه عن “كثرة الكتب، وقصر الوقت، وعجز الذاكرة”.

أما اليوم، وبفضل الإنترنت، فهناك كم هائل من المعلومات التي يصعب التحقق منها أكثر من أي وقت مضى، ومعلومات من الصعب فرزها والتمييز بين الصحيح والخاطئ منها. أما قدرتنا المحدودة أصلا على الانتباه فقد أصبحت ضعيفة ومستهلكة للغاية.

وتؤدي وفرة المعلومات وقلة انتباه المستهلك إلى خلق ما يسمى بـ “اقتصاد الاهتمام”، والذي تجري فيه منافسة شرسة بين الحكومات والصحفيين، وأصحاب المصالح، وغيرهم على جذب المستهلكين والفوز باهتمامهم. ولسوء الحظ، فإن بعض أكثر استراتيجيات جذب الانتباه فاعلية هي تلك التي تخاطب مشاعر الناس ومعتقداتهم، وهي تشكل مصادر للمعلومات غالبا ما تكون متناقضة في تقديمها “للحقائق”، وكل منها لديه نسخ خاصة تخدم أهدافه.

2. العقلانية المحدودة

وتتمثل إحدى النتائج المقلقة بشكل خاص بالنسبة لـ “اقتصاد الانتباه” في تكوين فقاعات تصفية مغلقة تقدم معلومات مفلترة، يقتصر تعرض الناس معرفيا داخلها على ما يتناسب مع المعتقدات التي كونوها سابقا، وهي تعمل كمصفاة تمنع دخول وجهات النظر المعارضة.

وعندما يُعرض أمام الناس فيض من الآراء والمعلومات، فإنهم يفضلون بطبيعة الحال إيلاء اهتمامهم للأشخاص أصحاب التفكير المماثل والمنتمين إلى مجتمعاتهم الخاصة بدلا من الغرباء. وبفضل منصات وسائل التواصل الاجتماعي، فإن تكوين مجتمعات تسود فيها اتجاهات موحدة أصبح اليوم أسهل من أي يوم مضى، وكذلك الانضمام إليها على أساس المعتقدات والقيم المشتركة.

ويطلق على الحالة المعرفية الناتجة عن فقاعات التصفية اسم “العقلانية المحدودة”. وإذا كان الحصول على المعلومات الصحيحة هو شرط التفكير الجيد وأساس القدرة على اتخاذ القرار الصائب، فإن انغلاق الفرد داخل فقاعات التصفية يمنعه من الوصول إلى المعلومات المطلوبة، وهو الأمر الذي سيحد من قدرته على التفكير الجيد العقلاني.

3. الخصوم والمخطئون

أصبح نشر المعلومات والوصول إليها اليوم أسهل من أي وقت مضى. لكن الجانب السلبي لهذا هو أن هذه السهولة تنطبق أيضا على نشر معلومات خاطئة أو مضللة، سواء عن قصد أو من غير قصد.

ويُطلق على الفاعلين (الأفراد، أو المنظمات، أو الدول) الذين يتلاعبون عمدا بالمعلومات لتضليل المتلقين أو خداعهم بهدف توجيههم إلى معتقدات خاطئة، اسم “الخصوم”. ويشن هؤلاء الخصوم “هجمات عدائية” بهدف تحريض الناس على اتخاذ خطوات أو مواقف بناء على معلومات مضللة أو كاذبة. على سبيل المثال، كأن تقوم حملة سياسية ما باستخدام تقنية التزييف العميق لتلفيق لقطات فيديو فيها ما يدين مرشحين سياسيين آخرين من أجل التلاعب بنتائج الانتخابات.

من ناحية أخرى، يُطلق على الجهات أو الأشخاص الذين ينشرون معتقدات خاطئة أو تفتقر إلى براهين، إما بحسن نية أو بشكل عرضي من دون تخطيط مسبق، اسم “المخطئون”. على سبيل المثال، قد يصدر عن باحث في مجال اللقاحات ضد وباء كورونا، لديه مخاوف بخصوص آثارها الجانبية، أو عدم ثقة بالسلطات الطبية، تعليق بحسن نية أثناء مقابلة ما، لكنه مثير للقلق بعض الشيء، ويمكن أن يتم التقاط هذا التعليق والتركيز عليه، ونشره على وسائل التواصل الاجتماعي، الأمر الذي قد يؤدي إلى قيام حملة واسعة ضد التطعيم.

4. تآكل الثقة

طور البشر تقنيات طبيعية تسمح لهم باتخاذ القرار بشأن منح ثقتهم للآخرين. على سبيل المثال، من المرجح أن نثق بشخص إذا كان الكثير من الناس يصدقونه، كما أننا أكثر استعدادا لتصديق شخص ينتمي إلى مجتمعنا، لأن ذلك يعني أنه يتشارك معنا ذات القيم والاهتمامات. كما نستخدم أيضا لغة الجسد ونبرة الصوت وأسلوب الكلام للحكم على درجة الصدق. وهي استراتيجيات ليست معصومة من الخطأ، لكنها بشكل عام لطالما كانت مفيدة للناس.

لكن يمكن لتقنيات المعلومات الحديثة أن تقوض تلك المهارات. مثلا، يمكن أن تؤدي فقاعات التصفية المغلقة إلى إظهار آراء الأقلية بشكل أكثر قوة ووضوحا، وجعلها تبدو سائدة على نطاق أوسع بكثير مما هي عليه في الواقع. وفي حين يجب أن يتاح المجال لوجهات نظر الأقليات لتكون مسموعة وحاضرة، فقد تبرز مشكلة عندما تقدم وجهات نظر متطرفة ومسيئة على أنها أكثر شيوعا بكثير مما هي عليه في الواقع.

وقد عطلت التقنيات المتطورة أيضا قدرة عقلنا الباطن على البحث عن علامات الصدق أو عدم الإخلاص في الأصوات ولغة الجسد. فالخطابات الملفقة أو مقاطع الفيديو المعدلة باستخدام تقنية التزييف العميق قضت على تلك الإشارات الصغيرة شبه السرية التي تنبه عقلنا الباطن عادة من الأشخاص المخادعين.

ما الذي يعنيه كل هذا؟

بالنسبة للذين لديهم الاستعداد لبذل الجهد، فإن الالتزام بنظام “حمية” إعلامية، متوازن وغني، أصبح متاحا اليوم أكثر من أي وقت مضى. ومع ذلك، يحتاج الحصول على معلومات جيدة غالبا إلى الوقت الكافي والمصادر الجيدة، وهما أمران ليس من السهل توفرهما بالنسبة لمعظم الناس.

لذا، عندما يتعلق الأمر بمواجهة تحديات معقدة مثل انتشار وباء كورونا، وهي تحديات تتطلب اتخاذ القرار في الوقت المناسب وتنسيق العمل الجماعي على نطاق واسع، فمن المهم أن نتذكر أن تقديم النصائح الصحية الصائبة وتوفير اللقاحات الآمنة ليس كافيا. إذ يجب على الناس أيضا أن يؤمنوا بالحلول المطروحة، ويمنحوا ثقتهم للذين يقدمونها.

وقد استكشفنا في تقريرنا بعض العواقب المحتملة، ما لم نبادر إلى التحرك الآن. ويتمثل أحد أسوأ السيناريوهات في ما أطلقنا عليه اسم “الثرثرة المعرفية”. ففي المستقبل، كما يبدو الآن، فإن قدرة عامة الناس على معرفة الفرق بين الحقيقة والخيال مفقودة تماما. وعلى الرغم من أن المعلومات متاحة بسهولة، فلا يمكن للأشخاص أن يحددوا إذا كان أي شيء يرونه أو يقرؤونه أو يسمعونه صادقا أم لا. لذلك، حين تصاب البشرية بجائحة جديدة مستقبلا، سيكون التعاون داخل المجتمع مستحيلا. إنها فكرة مرعبة، لكن انتشار فيروس كورونا أظهر أنها أقرب إلينا مما كنا نظن.