الاقتصاد الخفي السوري…حقائق “تحت الأرض” تتحدى الانكشاف
مازالت التقارير المحلية حتى الآن عاجزة عن إعطاء رقم حقيقي عن حجم اقتصاد الظل في سورية، ولا تزال الإحصائيات تراوح في مكانها عند عتبة الـ 40% ، فيما تذهب تقارير أخرى صادرة عن اقتصاديين وباحثين أبعد من 60%، أما الوزارات المعنية بذلك النوع من الاقتصاد، مازالت تبرر غياب وجود إحصائية دقيقة إلى ظروف الأزمة، وانتشار الأنشطة الاقتصادية على اختلافها، ابتداء من البسطات إلى ورش الخياطة وإصلاح الأحذية، ومروراً بمهنة الحلاقة، وبيع الألبسة المستعملة، وغيرها من الأعمال التي امتهنها المواطنون في ظل عدم توفر فرص العمل، وارتفاع نسبة البطالة، ونزوح الكثيرين جراء الإرهاب، وخسارتهم لوظائفهم، أما تنظيم “المخفي”، فهو حديث آخر، فالبعض يرى تنظيمه ضرباً من ضروب المستحيل في الوقت الراهن، ولا يوجد مبرر لتنظيمه خوفاً من إنهاء عمر بعض المهن، وبالتالي بقاء أصحابها دون عمل، في حين يرى اختصاصيون ضرورة إلزام تنظيمه بغية تعميم الفائدة المبتغاة منه على المجتمع كافة، ولأن اقتصاد الظل أو المخفي أو الأسود كما يسمى، متشعب، ويغطي مختلف المهن والمنشآت والوزارات، فقد اكتفينا بتسليط الضوء قدر المستطاع على أنواعه، وسبل تنظيمه إن وجد.
برأيهم
في محاولة التقصي عن اقتصاد الظل، لاحظنا أن هناك الكثيرين في المفاصل التنفيذية ترى أن تنظيم المهن والأعمال في الوقت الراهن قد يتسبب في “قطع رزق” الكثير من الناس الذين لجؤوا للمناطق العشوائية أو البعيدة عن عين المراقب بحثاً عن قوت يومهم، وبما أن ظروف البلد، كما يراها البعض، استثنائية، ودفعت بمعظم المواطنين لهجر وظائفهم وبيوتهم، وحري بالدولة – بحسب البعض- إشاحة النظر عن تنظيمه في الوقت الراهن.
وفي وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك كان هناك رأي بأن اقتصاد الظل ليس من مهام الوزارة، والجري وراء تنظيم الأعمال الصغيرة قد يؤدي إلى زوالها والقضاء عليها، وأي عمل قانوني لا بد أن يستمر بغض النظر عن تنظيمه وتسجيله في سجل عقاري، واعتبر المصدر أنه من الصعب إيجاد تعريف حقيقي لاقتصاد الظل، فهو اقتصاد أبيض وأسود ومخفي، وهو مرتبط بكل الوزارات والمنشآت الحكومية.
منار الجلاد، عضو غرفة تجارة دمشق، وافق وزارة التجارة الداخلية برأيها، حيث بيّن أن اقتصاد الظل جاء لدعم السوق، وهو أساس الاقتصاد، ومن الواجب عدم النظر إليه، وكأنه مخالف للقانون، وتهيئة بيئة قانونية مناسبة لاحتضانه بعيداً عن النظرة السلبية، لأن كل تاجر كبير بدأ بورشة صغيرة، ووجود اقتصاد خفي في الوقت الراهن يقي المجتمع من أعمال غير محببة يبحث أصحابها عن قوت يومهم بغض النظر عن الوسيلة.
نظرة باحثين
الباحث الاقتصادي الدكتور أدهم شقير، كان له رأي آخر، حيث عرّف الاقتصاد غير المرئي أو الاقتصاد الأسود أو غير المسجل …. إلخ بأنه كل الأنشطة المولدة للدخل التي لا يسجل ضمن حسابات الناتج القومي، إما لتعمد إخفائها تهرباً من الالتزامات القانونية المرتبطة بالكشف عن هذه الأنشطة، وإما بسبب أن هذه الأنشطة مخالفة للنظام القانوني السائد في البلاد، ويمكن اختصار التعريف بأنه مجمل الأنشطة التي لا تتم تحت مظلة القانون وشفافيته، وينقسم إلى قسمين: الأول يطلق عليه اقتصاد الجريمة أو الاقتصاد الأسود (بيع سلع محرمة- إنشاء شركات وهمية- سرقة الآثار- المتاجرة بالبشر … الخ)، والثاني الاقتصاد غير الرسمي، وذلك عندما يكون التعامل به ممنوعاً، واستخدام السلعة مسموحاً (السوق السوداء لبيع بعض السلع- دكاكين وورش غير مسجلة- دروس خصوصية- عمال الأجرة …. إلخ)، مضيفاً أن الاقتصاد الخفي الذي يشكّل 40 إلى 80% من نسبة الدخل القومي لا يمكن إعطاؤه تعريفاً محدداً، فهو من جهة مجموعة أنشطة اقتصادية تشبه تماماً الاقتصاد النظامي بكل مكوناته، ويجري بعيداً عن التوثيق، وهو من جهة أخرى اقتصاد متنوع الأشكال والغايات يعمل بمبدأ السرية، ومع اتسامه بالبساطة والأخلاق، توجد فيه كل أنواع الفساد، وهو ليس حكراً على الدول النامية، ويزداد عند وجود عجز بالنمو الاقتصادي، وفي توفير فرص العمل، وهو من عوامل ضعف الخدمة والحماية الاجتماعية، ويتطور عكس الاقتصاد النظامي، وطالب شقير بتعديل القوانين بما يخدم النمو الاقتصادي، وإيجاد سياسات اقتصادية حقيقية بعيدة عن التشويش الذي يؤدي لتشوه اقتصادي.
قادرة إن قصدت
وأوضح شقير أن اقتصاد الظل ليس جيداً بالمطلق، وتنظيمه يؤثر إيجاباً على البلد، والحكومة غير عاجزة عن تنظيمه إذا قصدت ذلك، ويجب أن تكون هناك هوية للاقتصاد الوطني تخدم كافة الطبقات، وليست واحدة على حساب أخرى، وانتقد مقولة الحكومة بأنها للفقراء، في وقت لم يتم تكريس ذلك على الأرض بشكل حقيقي، خاصة أن القوة الشرائية للمواطن ذي الدخل المحدود لا تكفي حاجته وحاجة أسرته، ونحن كمتابعين– والقول للباحث- نقول: إن الحكومة غير قادرة على تحقيق شعارها، ويخطىء من يعتقد أنها متهربة من مسؤولياتها، وفي الوقت ذاته رأى شقير أن العاملين في هذا القطاع يستفيدون من كل المزايا المقدمة للقطاع العام: (مياه- كهرباء.. إلخ)، ولا يساهمون نهائياً في الضرائب، كما أن زيادة حجم هذا الاقتصاد تؤدي إلى زيادة حجم الإنفاق العام، وبالتالي زيادة الموازنات، ووجود اقتصاد الظل يؤدي إلى عدم صحة البيانات والمعلومات اللازمة عند إعداد الخطط السنوية مثل: معدل البطالة والتضخم، ومعدل الإعالة، وكلما كانت هذه المعلومات صحيحة تكون القرارات صحيحة وواقعية، ولهذا الاقتصاد تأثير سلبي في المجال الصناعي والتجاري، وذلك من خلال قدرته على تأمين السلع بأسعار أقل من أسعار السلع النظامية، ورغم كل هذه السلبيات، يرى الباحث الاقتصادي أن لاقتصاد الظل إيجابيات، فهو يعمل على الحد من مشكلة البطالة، ويعمل على تأمين الاكتفاء الذاتي في بعض المواد والاحتياجات، كما يؤدي الى زيادة الدخل للأفراد، وخاصة في ظل انخفاض مستويات الدخل بشكل عام.
محاولات
في وقت مضى كانت هناك مشاريع لإحصاء حجم اقتصاد الظل من قبل وزارة الصناعة بشكل دقيق، إلا أن عدداً من العقبات وقفت في وجه الإحصاءات كشمول هذا الاقتصاد لمجمل أوجه النشاط غير المسجلة لدى الدولة، انطلاقاً من البسطات في الشوارع، وصولاً إلى المشاريع الصغيرة، والمتوسطة، والشركات العائلية، وتهرب أصحاب هذه الأعمال من الإجابة عن أسئلة الإحصاءات، ليبقى الاقتصاد المخفي حتى الآن إحدى القضايا المعقدة التي تجابه الحكومة.
أخيراً
قد يكون تنظيم هذا النوع من الاقتصاد واجباً وضرورة في أية دولة تعيش حياة طبيعية، وحالة من الرخاء، إلا أن الحرب التي أرخت بظلالها الثقيلة على بلدنا، أوجبت إلى حد ما التساهل مع من يبحث عن كفاف عيشه عبر مهن بسيطة وخفيفة وقانونية، وربما مع قادمات الأيام يجد المعنيون آلية معينة لاحتضان المهن والحرف والأعمال، واستمراريتها بشكل مشروع يخدم البلد والمواطنين على حد سواء.
البعث