صراع الجبابرة.. ماذا تعرف عن العداء التاريخي بين الصين واليابان؟
قد لا يعرف الكثيرون عن الصين واليابان أكثر من كونهما عملاقين اقتصاديين يشقان طريقهما كالصاروخ ليتربعا على عرش الاقتصاد في العالم، لكن ما قد يجهله البعض أن الدولتين الجارتين – اللتين تتمتعان بمستوى مرتفع للغاية من التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري – يحتفظان بتاريخ طويل من العداء الذي خلف أنهارًا من الدماء، لا تزال تلقي بظلالها على العلاقات بين الجانبين، ليخرج إلى العلن بين الحين والآخر إشارات على تجدد هذا العداء، الذي يهدد إذا تطور يومًا استقرار القارة الاسيوية برمتها.
الحرب الأولى.. هزيمة «مُذلة» للصينيين
أدت ثورة «المايجي إيشن» في اليابان 1668 إلى دخول البلاد في مرحلة من الإصلاح الشامل سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، قبل أن تدخل في مرحلة من الازدهار الاقتصادي بعدما كانت أولى الدول الآسيوية التي تدخل عصر الثورة الصناعية، وقد أدت الحاجة المتزايدة إلى المواد الخام بالإضافة إلى واقع التزايد المطرد في عدد السكان إلى إثارة الطموحات الامبريالية لليابان التي صار عليها أن تتصرف كقوة عظمى، فأنشأت مؤسسة عسكرية على الطراز الحديث تتناسب مع الأهداف والطموح المذكورين.
ولت اليابان وجهها شرق الصين، ورأت فيها كنزًا ثمينًا بما تمتلكه من موارد طبيعية وأسواقًا ضخمة وثروة سكانية، كما أن الصين يمكن أن توفر لها قاعدة انطلاق لتوسيع نفوذها في باقي مناطق قارة آسيا، بدأت اليابان في إرسالات بعثاتها إلى الصين منذ عام 1869، وبعد ذلك بخمس سنوات هاجمت جزر ياكيا وفرموزا التابعة للصين قبل أن تنسحب منها، وقد تطلعت اليابان بشكل خاص إلى كوريا التابعة للصين، إذ كان ملوكها يدفعون الضرائب لأباطرة الصين ويقلدون على أيديهم.
كان الموقع الجغرافي المميز لكوريا قبالة الجزر اليابانية، فضلًا عن امتلاكها موارد طبيعية حيوية كالحديد والفحم، جاذبًا لتطلعات اليابان التي حاولت بناء نفوذ لها داخل الجزيرة، عبر التجارة وعبر تصدير التكنولوجيا الحديثة للكوريين، سرعان ما تكون لليابانيين جناح من الضباط «الحداثيين» داخل الجيش، في الوقت الذي دعمت فيه الصين الضباط المحافظين الذين تحلقوا حول العائلة الحاكمة، وفي عام 1884 أحبط تدخل الصينيين انقلابًا قاده مجموعة من الضباط الموالين لليابان، ودقت طبول الحرب بين الصين واليابان، قبل أن يتفق الطرفان على سحب قواتهما معًا من كوريا في اتفاق عرف بـ«اتفاق لي إيتو».
في عام 1894، اندلعت ثورة في سيول الكورية ضد النفوذ الأجنبي لا سيما الياباني، وطلب الثوار دعمًا من الصين التي لم تبخل عليهم بقواتها التي وصلت إلى بيونج يانج، فانتهزت اليابان الفرصة وأرسلت قواتها إلى الجنوب وصلت إلى سيول، ورغم أن الانتفاضة قد سُحقت الانتفاضة إلا أن القوات اليابانية قد رفضت الانسحاب واستمرت في التقدم لتهاجم القوات الصينية الموجودة في كوريا، ورغم انسحابهم، فإن القوات اليابانية طاردت الصينيين داخل الأراضي الصينية وسيطرت على منشوريا، وقدر عرفت تلك الأحداث باسم الحرب الصينية – اليابانية الأولى.
انتهت تلك الحرب بهزيمة صينية مدوية، غير أن القوى الدولية قد أقنعت اليابان بالقبول بوقف القتال، فيما عرف بمعاهدة شيمونسكي التي اعترفت فيها الصين باستقلال كوريا، وأقرت بتنازلها لليابان على جزر فرموزا (تايوان) وبيسكادوس وشبه جزيرة لياو تونج في منشوريا، كما حصلت اليابان بموجبها على تعويضات مادية وعلى عدد من الامتيازات لرعاياها المقيمين على الأراضي الصينية (لاحقًا، وخوفًا من توسع النفوذ الياباني، تدخلت كل من روسيا وألمانيا وفرنسا وضغطوا على اليابان لرد جزيرة لياو تونج إلى الصين وهو ما تم بالفعل).
أدت هزيمة الصينيين في تلك الحرب إلى تداعيات سياسية ومحاولات إصلاحية فاشلة من جانب البلاط الامبراطوري، كما أدت إلى قلاقل اجتماعية (مثل ثورة الملاكمين) آلت في النهاية إلى إضعاف حكم أسرة تشينج، لتسقط في النهاية على إثر ثورة شعبية عام 1911 إذ تمت الإطاحة بحكم سلالة تشينج، وإعلان الجمهورية في الصين عام 1912.
اليابان تعيد الكرة.. والمقاومة الصينية تنتصر
ظلت الأطماع اليابانية في الصين قائمة، وبدءَا من عقد الثلاثينات تصاعدت التحرشات اليابانية بالصين، أخذ اليابانيون يتحينون الفرص للتوغل في الأراضي الصينية، حتى جاءت حادثة موكدين في 18 سبتمبر (آب) 1931، حيث وقع انفجار في خط السكة الحديد في جنوب مقاطعة منشوريا -التي كانت اليابان تتمتع فيها بمزايا خاصة-، وبرغم أن الأضرار الناجمة عن الانفجار كانت محدودة، واستمرت حركة القطارات كما هو معتاد، لكن الجيش الياباني اتهم الصينيين بالمسؤولية عن الانفجار، وتم استغلال الحادثة – التي يتهم البعض اليابانيين بالوقوف وراءها لاستخدامها ذريعة لاحقًَا – كمبرر لغزو منشوريا، حيث أسست فيها دولة مانشوكو الخاضعة لها.
وانطلاقًا من منشوريا، بدأ اليابانيون في اقتطاع المناطق الشمالية من الصين، التي كانت حكومتها غارقة حتى أذنيها في الانتفاضات الداخلية، والصراعات مع أمراء الحرب في سبيل إعادة توحيد الأراضي الصينية، ما جعل التوغل الياباني بلا مقاومة تذكر تقريبًا، حتى جاءت حادثة جسر ماركو بولو في يوليو (تموز) 1937، التي اتهم فيها اليابانيون جنودًا صينيين بخطف جنود كانوا يتدربون قرب مدينة وانبينج الصينية، الأمر الذي استغله اليابانين لشن غزو شامل ضد الأراضي الصينية، سيطروا خلاله على بكين وشينجهاي ومعظم السواحل الصينية، فيما عرف باسم «الحرب الصينية -اليابانية الثانية».
أثار الهجوم الياباني مخاوف القوى العظمى التي رأت في تنامي النفوذ الياباني تهديدًا لها، حث الاتحاد السوفيتي الشيوعيين على عقد هدنة مع نظام الكومينتانج بزعامة شيانج كاي شيك لوقف الحرب الأهلية ومواجهة العدو المشترك الذي يحتل البلاد، واستقبلت الصين المساعدات الاقتصادية والعسكرية من بريطانيا، وفرنسا، والولايات المتحدة، وروسيا – وحتى من ألمانيا النازية لبعض الوقت قبل أن يبدل هتلر تحالفاته – وبعد الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربر في ديسمبر (كانون الأول) 1941، صارت الحرب الصينية – اليابانية جزءًَا من المعارك الاسيوية ضمن الحرب العالمية الثانية.
عرف الاحتلال الياباني للصين فظائع لم يفارق بعضها الذاكرة الصينية حتى اليوم، فكانوا يقدمون على قتل السجناء ، واستخدموا الصينيين كـ«فئران تجارب» لأسلحتهم البيولوجية أوالكيماوية، وكان شعارهم: «اقتلوهم جميعًا، اسلبوهم جميعًا، دمروهم جميعًا»، وتعد أشهر الانتهاكات اليابانية بحق أبناء الصين ما عرف بمذبحة نانجنج جنوبي الصين، حيث قام جنود الجيش الياباني وعلى مدى أسابيع بالتنكيل بالسكان، فكانوا يدفنون بعضهم أحيانًا، أو يقتلونهم حرقًَا، أو رميًا بالرصاص، كما ارتكبت عمليات اغتصاب واسعة بحق النساء اللاتي أخذ بعضهم بغرض الاستعباد الجنسي، وقد راح ضحية تلك المذبحة ما يقارب 300 ألف شخص وفق بعض التقديرات، وإجمالًا، يقدر البعض عدد الضحايا الصينيين جراء الحرب الثانية مع اليابان بنحو 10 – 20 مليون شخص أغلبهم من المدنيين.
بمرور الوقت، وهنت قدرات اليابانيين، ولم يعد بمقدروهم السيطرة على المزيد من الأراضي الصينية، وبنهاية الحرب العالمية الثانية عام 1944 كانت اليابان تئن على إثر ضربات التحالف، إلى أن اضطر امبراطورها إلى الاستسلام بعد الهجوم النووي الأمريكي ضد مدينتي هيروشيما وناجازاكي، لتنتهي الحرب باحتلال قوات الحلفاء لليابان – الذي استمر حتى عام 1952، الذي عادت فيه اليابان دولة مستقلة – وتتحرر الصين من القبضة اليابانية التي التفت حول عنقها لعقود.
صراع الجبابرة
تم تطبيع العلاقات بين بكين وطوكيو برعاية أمريكية في العام 1972، ومنذ ذلك تنامى التعاون الاقتصادي بين الجانبين ليصل إلى مستويات كبرى حتى صارت الصين أكبر شريك اقتصادي لليابان، وبحلول أكتوبر (تشرين الأول) 2016، بلغ عدد الشركات اليابانية العاملة في الصين أكثر من 32 ألف شركة، أي حوالي نصف إجمالي الشركات اليابانية فيما وراء البحار، وفي عام 2011، كان قد وصل حجم الاستثمارات اليابانية المتراكمة في الصين منذ عام 1996 إلى 83 مليار دولار.
وتعتمد الصين على اليابان في استيراد السلع والمعدات والآليات ذات التكنولوجيا والتي تعتبر حيوية لقطاعها الصناعي، ليتمكن من تصدير منتجاته إلى جميع أنحاء العالم، ووفقًا لتقديرات وزارة الاقتصاد والتجارة والصناعة اليابانية، فقد ارتفع حجم السوق الإلكترونية في الصين، إذ بلغت قيمة مشترياتها الالكترونية من اليابان عام 2016 نحو 1.036 مليار تريليون ين ياباني، الأمر الذي يعكس مدى الاعتمادية الاقتصادية المتبادلة بين البلدين.
لكن، وبعيدًا عن الاقتصاد، فإن العلاقات بين البلدين لا تزال تشهد توترًَا على المستويات الدبلوماسية والعسكرية، ولا يزال التاريخ الاستعماري لليابان يلقي بظلاله على العلاقات بين الطرفين، إذ يوجه الصينيون اللوم للمسؤولين اليابانيين، معتبرين أن طوكيو لم تعتذر بصورة كافية عن «الجرائم» التي ارتكبتها بحق الصين، في حين يرى اليابانيون أن بلادهم قد «تعبت من كثرة الاعتذارات»، وتثير الزيارات المتكررة للمسؤولين اليابانيين إلى ضريح ياسوكوني الذي يضم رفات عددًا من الجنود السابقين – تعتبرهم الصين «مجرمي حرب» في حقها – غضبًا متزايدَا من قبل السياسيين والجمهور الصينيين، الذي يرون أن تلك التصرفات تتناقض مع قطيعة اليابانيين المفترضة مع ماضيهم الدموي.
أما أبرز القضايا محل الخلاف بين الجانبين، فهو النزاع الحدودي على جزر سينكاكو/دياويو، وهي عبارة عن ثماني جزر صخرية غير مأهولة بالسكان لكنها زاخرة بالثروات الطبيعية، إذ يقدر احتياطي النفط الخام فيها بـ 100 مليون برميل، كما تقدر احتياطات الغاز الطبيعي بنحو 20 تريليون قدم مكعب، وتحتوى على ثروات معدنية مهمة كأحجار البركان والزركون والذهب التيتانيوم والبلاتين، وفضلًا عن ثرواتها، فإن للجزء أهمية إستراتيجية حيث يمكن لليابان إذا أقامت نظم استطلاع جوية أو بحرية في المنطقة أن تضع شطرًا من الأراضي الصينية تحت مراقبتها المباشرة، وهو ما تتخوف منه الصين.
وتطالب الصين بأحقيتها في هذه الجزر، التي تقع تحت الإدارة اليابانية، وتؤكد بكين أن هذه الجزر تظهر في الخرائط القديمة باعتبارها جزءًَا من الأراضي الصينية، ولكن السيادة على الجزر قد انتقلت إلى اليابان منذ عام 1895 بعد هزيمة الصين في الحرب الصينية- اليابانية الأولى، وبعد الحرب العالمية الثانية انتقلت الجزر إلى السيطرة الأمريكية بموجب اتفاقية سان فرانسيسكو عام 1951، لتعيدها واشنطن إلى اليابان مرة أخرى في عام 1972، ويبقى النزاع بين طوكيو وبكين قائمًا منذ ذلك الحين، وهو النزاع الذي تحظى فيه اليابان بدعم الولايات المتحدة التي تؤكد أحقيتها في هذه الجزر.
إلى جانب ذلك، يحتدم التنافس على مصادر الطاقة بين الجانبين في بحر الصين الشرقي، وقد نجحت طوكيو بإقناع الروس بمد خط أنابيب نفط من روسيا إلى اليابان بدلا من آخر كانت الصين قد اقترحته في أراضيها وأولته حينئذ أهمية إستراتيجية كبيرة. فضلًا عن ذلك يأتي الطلب المتكرر لليابان بالحصول على عضوية مجلس الأمن الدولي ليثير قلق الصين التي ترى في ذلك محاولة للحد من نفوذها الإقليمي.
العلاقات بين اليابان وتايوان تعتبر نقطة أخرى من نقاط الخلاف مع بكين، إذ تعتبر الصين تايوان عدوًَا لا يمكن التسامح معه، وتقوم بفرز أصدقائها وأعدائها اعتمادًا على مدى قربهم من الجار الصغير، وفي ظل تزايد التوتر بين بكين وطوكيو ، لوحظ مؤخرًا تزايد التعاون بين اليابان وتايوان، إذ يشعر الطرفان بالقلق من تنامي قوة الصين، وقد صارت اليابان ثالث أكبر شريك تجاري لتايوان وأكبر مصدر للسياحة الأجنبية فيها، كما تم دعوة بعض المسؤولين التايوانيين إلى العاصمة اليابانية، في خطوة استفزازية أثارت غضب الصين ونقمتها على طوكيو.
في المقابل، لا تتوقف اليابان عن إبداء تذمرها من الدعم الصيني لنظام كوريا الشمالية «المتهور»، والتي تعتبر بكين هي الداعم الوحيد له، ولا يخفي نظام بيونج يانج عداءة لليابان، وسبق له في أغسطس الماضي أن استعرض عضلاته بإطلاقه صاروخًا باليستيًا مر فوق الأراضي اليابانية، قبل أن يكرر العمل نفسه بإطلاق صاروخ ثاني فوق اليابان بعدها بأسبوعين فقط، الأمر الذي أثار مخاوف طوكيو، ودعاها إلى مطالبة بكين بكبح جماح البرنامج النووي لكوريا الشمالية.
المخاوف المتبادلة تمثل هي الأخرى سببَا رئيسيًا في تدهور العلاقات بين الجانبين، فبعد عقود من تركيز البلدين على النمو الاقتصادي، صارت الصين تسابق الزمن لتطوير قدراتها العسكرية عمومًَا والبحرية على وجه الخصوص، إذ صارت الصين هي القوة البحرية الأكبر في آسيا، وأصبحت تمتلك أنظمة متطورة من الصواريخ العابرة للقارات والصواريخ المضادة للسفن والغواصات، وأنظمة الاستطلاع الجوي والبحري وصواريخ الأرض-جو والصواريخ المضادة للطائرات والصواريخ المضادة للاقمار الصناعية، وبسبب تلك التحديثات المتسارعة، يقدر البعض أنه لن تمضي سنوات قليلة حتى يصبح الجيش الصيني هو الأقوى في العالم.
في المقابل، بدأت اليابان كذلك في إعادة النظر في تعريف دورها العسكري، وبعد سنوات كثيرة من الإحجام والانكفاء على الاقتصاد بعد الهزيمة في الحرب العالمية الثانية، بدأت طوكيو في زيادة ميزانيتها العسكرية وفي تجربة عدة أنظمة صاروخية، كما خففت الحظر على صادراتها العسكرية، وقد تم إرسال وحدات من الجيش إلى العراق وأفغانستان في أعقاب أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2011، كما أرسلت في العام 2009 مدمرتان إلى خليج عدن لمحاربة القرصنة، في خطوات رمزية تشير إلى تغيير العقيدة القتالية للجيش الياباني.
وتنظر كل من الصين واليابان بتوجس إلى بعضهما البعض، إذ يخشى اليابانيون من عمليات التحديث الواسعة التي تجريها الصين على جيشها وقواتها، وقد سبق للحزب الحاكم في اليابان التعهد بتعزيز القدرات العسكرية اليابانية لمواجهة الأطماع المتزايدة لبكين في بحر الصين الشرقي، أما الصين فتنظر بعين الريبة إلى الخطوات العسكرية اليابانية، متخوفة من احتمال تخليها عن توجهاتها السلمية التي تحلت بها منذ الحرب العالمية الثانية، ولا يزال حاضرًا في أذهان الجميع الذكريات القريبة لعقود من الحروب المدمرة بين الجانبين.
ساسة بوست
اقرأ ايضاً:عرض أزياء بطرطوس يثير جدلاً.. بلك بيعجبوا شي للشعب الغني