الجمعة , نوفمبر 22 2024

كذبة الاستثناءات الإنسانية: السوريون معاقَبون في كلّ مكان

كذبة الاستثناءات الإنسانية: السوريون معاقَبون في كلّ مكان

بلال سليطين

في دفاعها عن العقوبات القصوى التي تفرضها على سوريا، تسوّق القوى الغربية لكون تلك العقوبات «لا تؤثّر على الشعب

السوري»، وأن الموادّ الإنسانية مستثناة منها. لكن الحقيقة أن حالة «فرط الامتثال»، التي بدأت تنتشر وتتوسّع داخل سوريا

وخارجها، تجعل الحصار تلقائياً في مرحلة متقدّمة، لا يحتاج معها الأفراد والجهات إلى مراجعة النصوص، بل يكفي ذكر اسم هذا

البلد حتى تحضر العقوبات وتداعياتها والخشية منها

يتفاجأ إبراهيم (34 عاماً)، الذي يعيش في أوروبا منذ عام 2009، أن الحوالة المالية التي أرسلها أخيراً عبر شركة حوالات

«MoneyGram»، كمساعدة لأخيه الذي يدرس في هنغاريا، قد تمّ حظرها ولم يتمكّن أخوه من تسلّمها. وفي البحث عن سبب

ذلك، يتبيّن أنه بما أن طرفي العملية سوريّان، فقد احتاج السماح بإتمام الحوالة إلى اتصالات هاتفية وتحقيقات من الشركة

الناقلة، بحجّة العقوبات على سوريا، على رغم أن الطرفين مدنيّان غير مرتبطين بالحكومة السورية، ويعيشان في أوروبا، وهما

أخوان شقيقان. على بساطتها، تؤشّر هذه الحادثة إلى خطورة ما اتُّفق على تسميته: «فرط الامتثال» للعقوبات الغربية

والأميركية على سوريا. إذ لا يوجد أي نصّ يحظر إجراء هذا النوع من العمليات المالية، وإنما هو قرار الشركة، بفعل خوفها من

وجود احتمال ـــ ولو كان ضئيلاً ـــ لأن يطاولها سيف العقوبات. ويعود جذر «فرط الامتثال» إلى شهر آذار 2019، عندما أصدرت وزارة

الخزانة الأميركية تحذيراً لشركات النقل من التعامل مع الحكومة السورية، وهو الأمر الذي ولّد خشية لدى تلك الشركات حتى من

نقل حليب الأطفال. وهكذا، بات إيجاد شركة نقل مستعدّة للتوجّه إلى سوريا، أشبه بالمعجزة، ليس بالنسبة إلى الحكومة فقط،

بل أيضاً إلى القطاع الخاص والمجتمع المدني.

في العام الفائت، أسّست نسرين مع أصدقائها جمعية معنيّة بشؤون إنسانية سورية، مقرّها فرنسا. وعلى رغم أن الجمعية

تستوفي جميع الشروط القانونية الفرنسية، فإن البنك رفض فتح حساب لها، لمجرّد أن في اسمها كلمة «سوريا»، وهو ما تطلّب

تجديد الترخيص بأسماء أخرى، وبأهداف لا علاقة لها بسوريا، حتى تمكّن مؤسّسو الجمعية من فتح حساب في بنك حكومي

حصراً، فيما يواجهون إلى الآن رقابة صارمة على العمل لأن جنسيات المؤسّسين سورية. يقول تاجر سوري، لـ«الأخبار»، فضّل

عدم ذكر اسمه، إنه في عام 2020 عجز عن نقل شحنة مواد غذائية كان قد اشتراها من اليونان، وأراد إيصالها إلى سوريا، حيث

واجه مشكلتين أساسيتين بسبب فرط الامتثال؛ «الأولى أن البنك رفض إنجاز الصفقة لأن البضائع متوجّهة الى سوريا، وأنه اضطرّ

للاحتيال على البنك حتى تمكّن من تحريك أمواله لإتمام عملية الشراء، والمشكلة الثانية هي في النقل، حيث فشل في

توريدها إلى سوريا، ما اضطرّه لبيعها في اليونان، وتكبّد خسائر كبيرة بها، علماً أن جميع المواد المتضمّنة في الشحنة ليست

مشمولة بالعقوبات». المشكلة ذاتها تنسحب على شراء الأدوية والمعدّات الطبية، وغيرها من الاحتياجات الإنسانية التي لها

علاقة مباشرة بحياة الناس، فالغالبية الساحقة من الجهات الأجنبية (بنك، شركة نقل، مؤسسة خاصة…)، التي تريد الجهات

السورية غير الحكومية التعامل معها، تخاف من سيف العقوبات المُصْلَت عليها، حتى ولو كان الموضوع إنسانياً، وبالتالي فإن

غالبيّتها ترفض التعامل، ويصبح تأمين قطع صيانة لمصعد في مستشفى سوري، مثلاً، عملية معقّدة وتحتاج إلى الاحتيال

والالتفاف، وبتكاليف مضاعفة. هذه الظروف القاهرة التي ولّدتها العقوبات وحالة «فرط الامتثال»، دفعت حتى رئيس «اللجنة الدولية

للصليب الأحمر» بيتر ماورير، خلال زيارته لسوريا في آذار الفائت، إلى مطالبة الغرب بشكل واضح ومباشر بـ«رفع العقوبات وتأمين

مساعدات طبّية وإنسانية فورية».

رفض أحد البنوك فتح حساب لجمعية مرخّصة في فرنسا بسبب اسمها الذي ترد فيه كلمة «سوريا»

في عام 2018، طالبت مجموعة من الناشطين السوريين في الداخل والخارج، «مؤتمر بروكسل لدعم مستقبل سوريا»، الذي

استضافه الاتحاد الأوروبي، برفع العقوبات التي تؤثّر على الصحة والتعليم وسبل عيش السوريين، إلّا أنهم لم يجدوا آذاناً صاغية.

وفي عام 2021، عادت منظّمات المجتمع المدني السوري للتوحّد من جديد ضدّ موضوع «فرط الامتثال»، وتقدّموا ببيان رسمي

للمؤتمر ذاته بنسخته الختامية، والذي تُشارك فيه جميع الدول التي تفرض العقوبات، مطالبين بحلّ مشكلة «فرط الامتثال» التي

تضاعف مأساوية الوضع الإنساني في سوريا. وخلال اجتماع مع ممثّلي مكاتب سوريا في الاتحاد الأوروبي، ومنظّمي مؤتمر

«بروكسل 5»، اعترف الجميع بالمشكلة، وما تُسبّبه من آثار خطيرة على السوريين، لكنهم أيضاً لم يغيّروا أي شيء يُذكر. ويقول

أسعد العشي، الذي يقيم في بروكسل، وهو مدير منظمة مجتمع مدني سورية تعمل من أوروبا، إنهم خاطبوا عدّة جهات تفرض

هذه العقوبات (الاتحاد الأوروبي ممثلاً بمكتب الخدمات الخارجية، والمكتب المعنيّ بالعقوبات في وزارة الخزانة الأميركية) من أجل

تحييد العمل الإنساني، وقدّموا لهم عدة خيارات وبدائل، لكن لم يتمّ اعتماد أي منها. وبحسب العشي، فقد تمّ التواصل أيضاً مع

المصارف، وإبلاغها أن إغلاق الحسابات أو وقف العمليات المصرفية لا يعدو كونه «فرط امتثال»، وليس تطبيقاً للعقوبات، فكان ردّها

أن «المشكلة عند الجهات الرقابية»، وعندما تمّ التواصل مع الأخيرة، قالت إن «المصارف مستقلّة ولا سلطة لنا عليها، وبالتالي

عدنا إلى تهرّب الجميع من المسؤولية». إزاء ذلك، يقترح العشي إنشاء «آلية دفع» خاصة بسوريا، عن طريق الأمم المتحدة أو

مصرف تنموي محدّد، بهدف رفع المسؤولية عن المصارف، بينما يقترح آخرون توفير آلية نقل لإيصال الموادّ أيضاً، بالنظر إلى أن

المشكلة لا تقتصر على الأموال فقط، بل تتجاوز ذلك نحو الموادّ والمستلزمات.

الأخبار اللبنانية