أرواد السورية… آخر صناع السفن الفينيقية التي مخرت بحار العالم القديم
قبل 3500عام أبحر الفينيقيون من شواطئ طرطوس إلى العالم، ليكونوا الأوائل الذين مخروا عباب البحر على متن السفن الخشبية التي صنعوها، حاملين معهم أبجديتهم الأولى وعلومهم وصناعاتهم الحرفية، فعلموا العالم الإبحار وصناعة السفن وأذهلوا شعوبه القديمة بحضارتهم.
على إيقاع أصالة صناعة السفن الفينيقية وجذورها الضاربة عميقا في تاريخ البشرية، ستكون هذه الصناعة خلال السنوات العشر القادمة، أمام تحد وجودي، فإما أن تستمر على أيدي جيل جديد يتعلم المهنة ويكمل مشوار الفينيقيين، وإما أن تندثر وكأنها لم تنطلق يوماً من الساحل السوري.
في جزيرة أرواد، أو كما يطلق عليها “مدينة الفينيقيين”، لا تزال صناعة السفن حيّة متجددة تصارع للبقاء رغم كل الصعوبات، خاصة مع تناقص عدد صنّاعها عبر السنوات حتى باتوا يعدون على الأصابع، لا سيما بعد أن اختار أبناؤهم أن تكون حياتهم المهنية بعيدة عن رهان المراكب الذي يرونه خاسراً في المستقبل.
التحدي الوجودي لصناعة السفن، حسب ما روى شيخ كار هذه الصناعة في جزيرة أرواد فاروق بهلوان “أبو محمد” لـ “سبوتنيك”: من يعمل اليوم في هذه المهنة هو الجيل الثالث نسبة إلى توارث المهنة عن الآباء والأجداد، وهم لا يتجاوزون 11 شخصاً تعلموا المهنة ولم يعلموها لأولادهم بسبب الصعوبات التي تضيق الخناق على هذه الصناعة، وعدم وجود مردود مادي يعادل الجهد والوقت الذي تستغرقه صناعة مركب واحد.
وأضاف بهلوان (52 عاماً): كل من يعمل في هذه الصناعة اليوم في العقد السادس من العمر، ما يعني أنه بعد عشر سنوات لن يكون هناك من يعمل في هذه الصناعة التي ستندثر لا محالة، وعليه فان صناعة القوارب الفينيقية التي كانت حكراً على جزيرة أرواد ستنقرض وتصبح من الذكريات الموجعة.
في مدخل ورشته حيث تتكدس الأشجار الكبيرة والأخشاب، كما تنتشر الآلات البسيطة كالمطرقة اليدوية والمسامير والمناشير الكهربائية، ينهمك بهلوان ومن معه ممن يزاولون المهنة، في صناعة مركبين فينيقيين للمياه الإقليمية يبلغ طول كل منهما 16 متر، حيث يبين بهلوان أن الفترة التي تستغرقها صناعة القارب الواحد تتفاوت بحسب حجم القارب، مدللاً بأن الزورق الصغير تستغرق صناعته شهرين، فيما تستغرق صناعة القارب الكبير مدة تتراوح بين سنة إلى سنتين، مؤكداً أن الطلب على صناعة السفن قلَّ كثيراً بعد الحرب، خاصة مع ارتفاع تكاليف الصناعة.
وعلى سيرة ارتفاع تكاليف مستلزمات إنتاج صناعة القوارب، أشار بهلوان إلى أن تكلفة القارب قبل الحرب كانت 200 ألف ليرة، أما اليوم فتصل إلى 20 مليون وأكثر، وقد وصل سعر القارب الكبير المخصص للمياه الإقليمية 100 مليون ليرة سورية.
ويشير بهلوان الذي يصنع في ورشته جميع مستلزمات القارب من أصغر قطعة إلى أكبر قطعة، إلى أنه لا يصنع القوارب إلا بناء على “التوصية”، ويضيف: عندما يكون هناك تواصي نعمل وعندما تتوقف نتوقف عن العمل، مبيناً أن ورشته تصدّر القوارب إلى طول الساحل السوري ابتداء من أرواد وطرطوس وانتهاء بالبسيط، بالإضافة إلى لبنان وقبرص وفرنسا.
العقوبات الاقتصادية على سوريا أثرت سلباً على هذه الصناعة، إذ أشار بهلوان إلى ارتفاع تكاليف مستلزمات الإنتاج بسبب الحصار على سوريا، وأن انقطاع الكهرباء لساعات طويلة جعلهم بحاجة إلى تشغيل مولدات كهربائية تعمل على المازوت، ونظراً للحصار فان 20 ليتر مازوت تباع ب40 ألف ليرة ولا تكفي سوى لعمل يوم واحد.
ورغم الصعوبات التي تلف هذه الصناعة، إلا أن من يعمل بها يشعر بالشغف وهو يصنع كل قطعة فيها، إذ يقول بهلوان: إنها مهنة تراثية قديمة ويدوية مئة بالمئة مايجعلها مطلوبة ممن يقدّر هذه الصناعة اليدوية حق قدرها من ناحية اتقان الصنع وحرفية التصميم، ويضيف: رغم الصعوبات التي نعاني منها الا أننا حريصون للمحافظة عليها، ونتمنى أن نجد جيلاً جديداً يود تعلمها، خاصة أن هذه الصناعة تحديداً إذا لم يتم تعلمها في الصغر لن يستطيع تعلمها في الكبر.
الحديث عن تفاصيل تعلم الصناعة، أعادت شريط الذكريات عند بهلوان إلى الماضي.. إلى أكثر من 40 عاماً عندما ذهب لأول مرة برفقة والده إلى الورشة بعمر 7 سنوات، ليتعلم منه صناعة القوارب ويكون الأمين على استمرار هذه الصناعة لجيل آخر ليس متوفراً اليوم.
بعبارات ممزوجة بالحنين للماضي والعنفوان بالحديث عن صناعة بات شيخ كارها اليوم، يستحضر بهلوان الماضي ويتذكر لنا كيف كان والده يعلمه صناعة القوارب بالقطع الصغيرة المستخدمة، والتي كانت تكبر معه بالأعوام، فكان كلما كبر عاماً كانت القطع التي يتعلم صناعتها تكبر معه.
ويضيف بهلوان: لا أنسى أن أول عمل صنعته بمفردي كان السوّاحة وهي قطعة صغيرة للسباحة مخصصة لشخص واحد، وكان عمري حينها 9 سنوات، ثم صنعت سواحة أكبر تتسع لأربعة اشخاص، وعندما أصبح عمري 14 عاماً صنعت فلوكة، ثم زورق صيد، ثم زورق ركاب، ثم زورق شحن، ومن بعده زورق مياه خارجية، حتى بت معلماً بالمهنة.
وعن مراحل صناعة القوارب، أوضح بهلوان أنها كما البناء تبدأ من الأسفل للأعلى، حيث يتم أولاً إنشاء “بريم” أي العمود الفقري للقارب والذي توضع عليه الأضلاع الخشبية وتثبت بالبراغي والمسامير، ثم تفرش الألواح التي تغطّي فراغات البناء الهيكلي للقارب لتمنع تسرب الماء إلى داخله، ومن ثم ظهر القارب، السطح، التلويح الخارجي، البويا، الدهان الخاص بالبحر ومناخه المقاوم لرطوبة هذه الأجواء. ويخصّ بهذا الدهان الجزء السفلي من الزورق، الذي يُدعى “الغاطس”، ثم تركيب محرك، ومن ثم الكبين.
وفي مفارقة موجعة، بين بسمة من السهل التكهن أن منبعها فخر معتق بالانتماء لإرث الفينيقيين، ودمعة حرقة مردها الخوف على صناعة تنقرض تدريجياً، يقول بهلوان: كم كان مبعث فخر لنا عندما اكتشف البريطانيون عام 2009 قبالة شواطئهم بقايا سفينة، تبينوا بعد إجراء الدراسة والتحليل لبقاياها التي كانت مدفونة في الرمال، أنها من صناعة الفينيقيين في جزيرة أرواد، وكانت قد غرقت قبل الاف السنين.
العم محمد أحمد عطايا الملقب أبو أحمد يعمل على آلة الخراطة الكهربائية في ورشة بهلوان، يقول: رغم أن هذه الصناعة تعد من أصعب المهن، إلا أنها تحكي قصة حضارة بأكملها انطلقت من أرواد نحو العالم، قصة حرفة تراثية نادرة فيها جمال وذوق وفن، ويجب أن تولى اهتماماً وتستمر من خلال تعليمها لجيل جديد يكمل مشوارنا بها.
وأضاف أبو أحمد: صناعة القوارب الفينيفية ليست موجودة سوى في جزيرة أرواد، فنحن الورثة الوحيدون لهذه الصناعة الفينيقية.
بدوره، يشير العم اسماعيل عبد العال الملقب بأبو محمد الذي يعمل على آلة نشر الأخشاب إلى أنه تعلّم صناعة المراكب منذ الصغر واكتسب الخبرة من أبيه ويعمل حاليا مع بهلوان في ورشته، مبيناً أن هذه الصناعة عرفت تاريخاً من الازدهار دوّنه حرفيون بصبر وحنكة ليجوبوا البحر الأبيض المتوسط وموانئ عالمية أخرى.
وأضاف وهو يشيح بوجهه الى الطرف الاخر فيما صوته يغص بالحروف: انها تنقرض تدريجياً على أعيننا.. لا أقوى على تخيل اليوم الذي يأتي ولا يوجد فيه عامل يقوم بصناعة مركب فينيقي ونحن الذين علمناها للعالم، وكنا ورثة الفينيقيين الذين كانوا رواد العالم في هذه الصناعة.
بدوره، قال منذر رمضان عضو المكتب التنفيذي في اتحاد الحرفيين بطرطوس ل”سبوتنيك”: نعاني اليوم من خطر اندثار هذه المهنة بسبب عدم قيام صانعي المراكب بتعليم المهنة لأبنائهم لعدم وجود مردود مادي يغطي متطلبات الحياة اليومية بالإضافة إلى المعوقات التي تعترضهم أثناء عملهم.
وأشار رمضان إلى أن هناك خطة مستقبلية لدعم حرفة صناعة المراكب في المحافظة، سيتم إطلاقها في جزيرة أرواد، وتتمثل الخطة بمشروع إحداث حاضنة للإعداد والتدريب على مهنة صناعة المراكب وقوارب الصيد في جزيرة أرواد، بالإضافة لتأمين المستلزمات المطلوبة لصانعي المراكب كالأخشاب اللازمة والمستخدمة في صناعة المراكب حيث يجد معظمهم معاناة في نقلها إلى الجزيرة.
ولفت رمضان إلى أنه يوجد في أرواد 11 حرفي فقط بإمكانهم تصنيع أفضل المراكب، وقد تم تكريمهم مؤخراً بأعلى شهادة مقدمة من مقبل منظمة اتحاد الحرفيين وهي شهادة المبدع.
اقرأ أيضا: