تركيا تهيمن على مؤسّسات المعارضة السّورية
عبد الله سليمان علي
أكدت مصادر مطلعة لـ”النهار العربي” أن انتخاب سالم مسلط شيخ عشيرة الجبور رئيساً للائتلاف السوري المعارض جاء بأوامر مباشرة من أنقرة، التي أبلغت سلفه نصر الحريري عدم رضاها عن إعادة ترشيح نفسه، وأن القرار السياسي التركي صدر بتعيين مسلط في هذا المنصب لاعتبارات سياسية وعسكرية معينة.
الائتلاف السوري المعارض
وقد سعى الحريري خلال الأشهر القليلة الماضية لتأمين مظلة إقليمية تسمح له بإعادة تولي منصب رئاسة الائتلاف السوري لولاية جديدة، وكان يراهن على الخدمات التي قدمها لتركيا في مواجهة المملكة العربية السعودية، وبخاصة في ما يتعلق برفضه تسمية الأعضاء المستقلين التي تحولت أزمة متدحرجة نجم عنها، مطلع العام الحالي، اتخاذ الرياض قراراً صارماً بوقف عمل موظفي هيئة التفاوض السورية المنبثقة من الائتلاف في السعودية.
وكثّف الحريري خلال هذه الفترة زياراته لمسؤولين أتراك، بهدف تهيئة الأرضية لإعادة انتخابه، وقد منّى نفسه أخيراً بأن تمرير التمديد لأنس عبدة في رئاسة هيئة التفاوض من دون إجراء انتخابات كما ينص النظام الداخلي للهيئة، قد يكون إشارة إيجابية الى إمكان حصوله على ولاية ثانية في رئاسة الائتلاف. غير أن الحسابات التركية لم تتلاق هذه المرة مع حسابات الحريري الذي وجد صعوبة كبيرة في تسويق نفسه، خصوصاً أنه ذهب بعيداً في مخاصمة الرياض، في حين أن العلاقات السعودية التركية تتجه نحو التهدئة وتخفيف التوتر، وهو ما يعني أن أصحاب الرؤوس الساخنة برغم خدماتهم السابقة لم يعد لهم دور محتمل في ظل المرحلة الجديدة التي تستلزم البحث عن أشخاص معتدلين بإمكانهم القيام بمقتضيات التوازن في العلاقة بين الدولتين في ما يتعلق بالملف السوري.
وقد بدأ التخلي التركي عن الحريري مع تسريب جهات تركية في شهر آذار (مارس) خبراً عن نية الحريري بيع منزله في مدينة اسطنبول بمبلغ 4 ملايين و500 ألف ليرة تركية. وكان التسريب بمثابة فضيحة إعلامية، لأنه كشف عن حقيقة أن الحريري كان يسكن في منزل تبلغ مساحته 1100 متر مربع، أي أكثر من دونم واحد، ومؤلف من صالتين و7 غرف و4 حمامات، بالإضافة إلى ترّاس واسع فيه موقد ومكان مخصص للشواء، ويطل على منطقة “حرامي دريه” في بلدية أسنيورت. وقد أكدت مصادر معارضة في ذلك الحين أن سبب بيع نصر الحريري المنزل قد يكون شعوره بأن دوره تقلّص وشارف على النهاية بالنسبة الى الأتراك، وسط الحديث عن مرحلة جديدة وهيكل سياسي جديد أو تغييرات جذرية في الائتلاف، وهو التصوّر الذي يدعمه الاجتماع الأخير بين الأتراك والروس والقطريين في الدوحة، والذي تزامن أيضاً مع لقاء أجراه وزير الخارجية التركي مع رياض حجاب.
ومع تتالي الإشارات التركية بهذا الخصوص، رضخ نصر الحريري للأمر الواقع، وأبلغ أعضاء الائتلاف في آخر اجتماع برئاسته، قبل أيام قليلة من انتخابات الائتلاف يوم الاثنين، أن كلمة السر التركية وصلت بوجوب اختيار سالم مسلط رئيساً للائتلاف.
ويأتي اختيار الدوائر السياسية التركية المعنية بالملف السوري سالم مسلط لرئاسة الائتلاف محملاً بدلائل ومؤشرات في غاية الأهمية، قد لا تكون لها علاقة البتة بما يجري تداوله من أن الاختيار التركي يمثل رسالة تطمين للرياض باعتبار مسلط رئيس عشيرة ممتدة بن سوريا والعراق ودول الخليج. ويعتقد مراقبون للوضع السوري أن اختيار مسلط يتعلق باستراتيجية تركية تسعى إلى إعادة هندسة المعارضة السورية بشقيها السياسي والعسكري، بما يخدم الأجندة التركية في المرحلة المقبلة. ويرى هؤلاء المراقبون أن تركيا تنظر إلى المعارضة السورية باعتبارها مجرد أداة لخدمة مشاريعها، وأن الأشخاص والمؤسسات في هذه المعارضة لا يكتسبون قيمتهم من منظور تركي إلا بقدر ما يكونون لازمين وضروريين لتنفيذ السياسة التركية، لذلك ينتهي دور أي شخص بمجرد انتهاء مفعوله واستنزاف طاقته في تسويق الأهداف والغايات التركية وعدم وجود جدوى من تصديره في أحد المناصب، كما حصل مع نصر الحريري.
وينطلق المشروع التركي في إعادة هندسة المعارضة من منطلق أن القوى السياسية والعسكرية التقليدية في المعارضة أصبحت مستهلكة وينبغي العمل على إعادة هيكلتها. وكما شرعت تركيا بإعادة هيكلة الفصائل المسلحة المنضوية تحت راية الجيش الوطني السوري الذي تموّله، وتبين أن النقطة الجوهرية في هذه العملية كانت محاولة تصدير المكوّن التركماني الذي تثق به أنقرة أكثر من غيره، والعمل على تعزيز قوته وتوسيع أدواره الوظيفية في خدمة مشروعها التوسعي في المنطقة. وكان من الواضح أن فصيل “سليمان شاه” (اسم أحد سلاطين العثمانيين) بقيادة أحمد عمشة ذي الأصول التركمانية، كان من أكبر الرابحين من عملية إعادة الهيكلة التي تقوم بها تركيا لفصائل “الجيش الوطني”، إذ تزايدت أعداده تزايداً ملحوظاً، وسّرع من وتيرة تخريج متدربين من معسكراته.
وبالتوازي مع إبراز المكوّن التركماني، سعت أنقرة أيضاً إلى ما يسميه البعض “الانزياح نحو الخط العشائري”، بعيداً عن قوى ومؤسسات المعارضة التقليدية، ومن هنا جاء اختيار سالم مسلط لرئاسة الائتلاف بهدف إبراز وتعميق الاهتمام التركي بالخط العشائري، ومحاولة تصديره بصورة الممثل الحقيقي لإرادة السوريين في مناطق احتلالها في “درع الفرات” و”غصن الزيتون” و”نبع السلام”.
ويرى مراقبون أن الخطوة التركية قد تعني أن المرحلة المقبلة سوف تشهد نشاطاً تركياً ملحوظاً في المحافظات ذات الثقل العشائري، وهي الرقة ودير الزور والحسكة، في مسعى منها لإعادة رسم خريطة النفوذ في هذه المحافظات ومحاولة قلب الطاولة على “قوات سوريا الديموقراطية” التي تعتبرها أنقرة تنظيماً إرهابياً.
ويتقاطع اختيار مسلط مع مساع تركية سابقة لإعادة تصدير رياض حجاب رئيس هيئة التفاوض السابق، إذ كان وزير الخارجية التركي قد التقاه في الدوحة في شهر شباط (فبراير)، ومن المعروف أن مسلط وحجاب ينتميان إلى فريق واحد ضمن المعارضة السورية، وينضويان تحت جناح المحور التركي – القطري في مواجهة فريق آخر ينضوي تحت جناح المحور المصري – السعودي. وقد شغل مسلط منصب المتحدث الرسمي باسم هيئة التفاوض عندما كان حجاب يشغل منصب رئيس الهيئة.
ومع وجود أنس عبده ذي التاريخ الإخواني في رئاسة هيئة التفاوض لولاية جديدة، يتبين أن تركيا تعمل على تربية أخطبوط ضخم في المستنقع السوري، وأن أذرع هذا الأخطبوط هي التركمان والعشائر والإخوان المسلمون، وذلك إلى جانب ما تقوم به لجهة ترويض “هيئة تحرير الشام” بقيادة أبي محمد الجولاني ومحاولة إقناع المجتمع الدولي بإمكان استخدامها لترتيب أوراق محافظة إدلب، بما يزيل أو يخفف مخاوف بعض الدول من الوضع الراهن في آخر مناطق خفض التصعيد.
النهار العربي