كمال خلف: هل يمكن ان تنسحب القوات الامريكية من الشرق السوري؟
كمال خلف:
في خضم تغييرات استراتيجية كبيرة تبدو عميقة واقرب للتحولات، بدات ملامحها بالتشكل في الشرق الأوسط ومناطق غرب اسيا مع نوع من وضوح الاستراتيجية الامريكية تجاه تلك المناطق. فمن البائن ان الادارة الامريكية لم يعد لديها ذات الاهتمام السابق بمناطق غرب اسيا لصالح أولوية شرق اسيا ومواجهة التنامي الصيني بما يحمله من مخاطر كبرى مباشرة على مكانة الولايات المتحدة عالميا. وهذه الاستراتيجية من المؤكد انها لا تخص إدارة بايدن وحدها انما قناعة راسخة لدى الدولة العميقة في الولايات المتحدة أيا كان الرئيس.
لكن ليس من الحصافة الاعتقاد ان الولايات المتحدة سوف تغادر الشرق الأوسط دون ترتيب وتنظيم البيئة السياسية، واجراء تقييم شامل للجغرافيا السياسية وموازين القوى فيها، حيث تتمثل المصلحة الامريكية الأكثر اهمية في هذا السياق في امن إسرائيل كالتزام ثابت، بينما انخفض حجم أهمية المصالح الأخرى كالسيطرة على منابع النفط كمثال. واذا كانت الإدارة قد غادرت أفغانستان بشكل حاسم دون أي اكتراث لما ستؤول اليه الأوضاع هناك، فان الوضع ليس كذلك في الشرق الاوسط حيث تتموضع قوى صاعدة في محور المقاومة تمثل تحديا وجوديا لإسرائيل.
وواضح كذلك في خضم هذا التنظيم التمهيدي للخروج من الشرق الأوسط، اندفاع الإدارة الامريكية لوقف الحرب في اليمن من اجل تخفيف أعباء الانخراط في حماية السعودية من هجمات الحوثيين وفق اتفاقات التحالف القديم المبرم بين البلدين. وكذلك ابرام اتفاق مع ايران حول البرنامج النووي وقضايا شائكة أخرى بين الطرفين، يضمن تجميد التصعيد مع ايران لسنوات قادمة. وبناء حلف عربي إسرائيلي يملك مزيج من القدرات العسكرية والمالية والإعلامية وغطاء ديني عبر فتاوى ومشايخ.. الخ ومن الواضح أيضا ان واشنطن ليس لديها ترف الانتظار لحل أزمات الشرق الأوسط المعقدة للتفرغ لما تعتبره أولوية قصوى في مواجهة الصين. لذلك يبدو انها تتجه نحو إعطاء المنطقة ” حبة باندول” بدلا من الانخراط في عمليات جراحية لايجاد حلول جذرية تأخذ سنوات ربما من الجهد والاستنزاف طويل الاجل.
لكن ماذا بالنسبة لسورية في خضم هذه الاستراتيجية؟
من المؤكد ان سورية تقع في صلب الحسابات الامريكية فيما يخص امن إسرائيل. ولا يمكن الاعتقاد هنا ان الإدارة الامريكية تفكر بالانسحاب من سورية حاليا، على الرغم من انتفاء أي مصالح أمريكية صرفة حيوية ومباشرة في سورية. وعلى الرغم من رواج فكرة ان الإدارة الامريكية تسرق النفط السوري، وتتواجد شرق نهر الفرات حيث منابع النفط لهذه الغاية، الا ان هذه البلطجة الامريكية على موارد السوريين ليست للاستفادة الامريكية الذاتية، بقدر ما هي رغبة في حرمان دمشق من هذه الموارد كأحد وسائل الضغط على الرئيس السوري مع الخنق الاقتصادي لمنع عودة سورية الى ما قبل ٢٠١١، دون تلبية المطالب الامريكية. وهي مطالب تتلخص من جملة وحدة مكررة ” تغيير السلوك” وليس من الممكن ترجمة هذه الجملة خارج نطاق الدور السوري في المنطقة والموقف السوري الثابت من إسرائيل والداعم لحركات المقاومة ضدها.
وانطلاقا من ذلك منعت الولايات المتحدة إعادة ربط النظام في سورية بالنظام الدولي مجددا او ما يطلق عليه وصف “إعادة تعويم النظام دوليا” ومنعت عودة اللاجئين السوريين من دول الجوار، ومنعت انطلاق عملية إعادة الاعمار، ومنعت انفتاح العديد من الدول وبالأخص العربية على دمشق. ورغم المحاولات الروسية لكسر هذه الموانع الا ان موسكو حتى اللحظة فشلت في ذلك.
تبدو الجغرافيا في سورية مهمة للامريكيين اكثر من أي شيء اخر لجهة الالتزام بامن إسرائيل. الوجود في الشرق السوري والتموضع في التنف على الحدود السورية العراقية يمنع الجسر البري لمحور المقاومة من طهران عبر العراق وسورية الى لبنان. ويبقي العين الامريكية مفتوحه وقريبة من القاعدة العسكرية الاستراتيجية في الصراع مع إسرائيل التابعة لمحور المقاومة في مثلث القائم البو كمال شرقا.
هل يمكن ان تنسحب القوات الامريكية من الشرق السوري؟
الإجابة المباشرة لا، للأسباب التي ذكرناها انفا. ومن المرجح ان الإدارة الامريكية قررت تجميد الوضع في سورية الى اجل غير مسمى.. بالتزامن مع تخفيف الحصار الاقتصادي او احداث نوع من الانفراجة الاقتصادية المحدودة، أي تخفيف اقتصادي محسوب يجعل الدولة السورية دون الانهيار وليست بمستوى الانتعاش والعودة الى ما قبل 2011. سيترافق ذلك مع فتح بعض السفارات وعودة سورية للجامعة العربية وإجراءات أخرى تحسن الواقع السوري.
الرغبة الامريكية في تسكين الملف السوري وليس انجاز حل سياسي او ترك سورية تتعافى بشكل طبيعي يمكن كسرها في حال احسنت دمشق وحلفاؤها التقاط اللحظة التاريخية واخذ قرار التصعيد واحداث صداع مزمن للامريكيين في شرق سورية، في الوقت الذي تتجه فيه الإدارة الامريكية الى تخفيف الأعباء والالتزامات والتهدئة وتجميد الازمات في المنطقة للتفرغ للصين في مناطق شرق اسيا.
جراء هذا التصعيد قد يفكر الامريكيون بالتفاوض على الخروج. ليس مع دمشق وحدها فيما يخص سورية، بل مع حزب الله في لبنان أيضا. وهذا ممكن وقد يكون خيارا متاحا وقريبا.
الصين في سورية تكتيك ام قرار استراتيجي؟
الاهتمام السوري الان منصب على زيادة الانخراط الصيني في سورية عبر البوابة الاقتصادية، يمكن للسوريين التعويل على هذا، خاصة ان زيارة وزير الخارجية الصيني لدمشق اعطت انطباعا بجدية بكين تجاه سورية. لكن يجب الانتباه ان لا يكون زيادة النشاط الصيني في الشرق الأوسط وليس في سورية وحدها، يهدف الى لفت انتباه الولايات المتحدة للمنطقة، وثنيها عن المغادرة والتوجه الى المحيط الحيوي القريب للصين. أي تحركات تكتيكه لمنع واشطن من نقل ثقلها العسكري لشرق اسيا والبقاء في المنطقة لمنع تشكل نفوذ صيني على مساحات فراغ يتركها الانسحاب الأمريكي. قد يكون قرار الصين تكتيك في اطار درء مخاطر الحشد الأمريكي في مناطق حيوية للصين. واذا كانت الصين جادة فعلا فتاكيد ذلك يتبدى في قدرتها على قلب الواقع الصعب اقتصاديا ومعيشيا في سورية في الشهور المقبلة.
رأي اليوم