الجنوب السوري الى أين؟
أحمد الدرزي
لم تكن معركة درعا الأخيرة بعيدة عن المفاوضات بالنار التي تجري بين الأطراف الإقليمية والدولية حول أفغانستان واليمن والعراق وسوريا ولبنان، والتي يندفع بها الأميركيون في صراع مع الوقت للانتقال نحو الاستراتيجية الجديدة التي وضعوها بعد مجيء الإدارة الأميركية الجديدة للتفرغ لكلّ من روسيا والصين.
تشكّل المنطقة الجنوبية بما تبقى من سوريا بعد الحرب العالمية الأولى نقطة ضعف لها، وهي بمثابة الخاصرة الرخوة لدمشق، فالحدود مع المملكة الأردنيّة لا تبعد أكثر من 110 كم، ولا تبعد هذه المنطقة عن الجولان المحتل أكثر من 65 كم.
ولَم يذهب من ذاكرة دمشق حجم التهديدات التي تعرَّضت لها، إن كان في حرب حزيران/يونيو 1967 أو في حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بعد أن وصلت قوات الاحتلال الإسرائيلي إلى سعسع، على بعد 44 كم من مركز العاصمة، إضافةً إلى دور الأردن السلبي المُجبر عليه، كمنطلق لتهديد الدولة السورية أمنياً في أحداث ثمانينيات القرن الماضي، والحرب المستمرة على سوريا حتى الآن، والتي قادتها الولايات المتحدة في الحالتين.
لم يكن اهتمام دمشق منصبّاً على تركيز قوتها العسكرية في المنطقة الجنوبية منذ الاستقلال، إلا إدراكاً لحجم التهديدات الوجودية للكيان الإسرائيلي، والدور الخطير الذي يمكن لـ”تل أبيب” وواشنطن أن تؤدياه في النسيج الاجتماعي للجنوب عبر الأردن، الَّذي يمتلك وشائج عشائرية متداخلة مع سوريا.
ولَم يكن مستغرباً أن يتحرَّك المشروع الأميركي بدءاً من مدينة درعا، بعد الاضطرابات الأولى في منتصف آذار/مارس 2011، على الرغم من الولاء الواسع والعميق لأهلها تجاه دمشق، التي لم تستوعب وقتها حروب الجيل الرابع، ما شكَّل خطراً كبيراً عليها، بعد أن ظهرت المجموعات المسلّحة، وتأسَّست غرفة الموك في الأردن، التي ما زالت تُقاد من قبل ضباط أميركيين وبريطانيين وإسرائيليين وأردنيين وخليجيين، رغم إعلان إغلاقها.
استطاع المشروع الأميركي التمدّد داخل النسيج السوري بدءاً من درعا، اعتماداً على الضخّ الإعلامي والمالي الهائل لكل من قطر والسعودية وتركيا، بالاعتماد على إيقاظ الهويات ما قبل الوطنية في إحداث الصراعات الداخلية، وباستثمار تراكم أخطاء السياسات الاقتصادية والاجتماعية.
كان للدخول العسكريّ الروسيّ المباشر، بطلب من دمشق في العام 2015، الدّور الأساس في قلب المعادلة الميدانية بالتنسيق مع إيران، والكشف عن طبيعة الصراع داخل سوريا، بإظهاره على حقيقته الإقليمية والدولية، بعد أن سبقهم الأميركيون بالتواجد في شمال شرق الفرات في العام 2014، بحجة مواجهة الإرهاب والقضاء على تنظيم “داعش”.
تحوّلت الساحة السورية إلى ساحة الصراع الأساسية بين القوى الآسيوية الناهضة والولايات المتحدة التي تسعى لعدم تغيير تركيبة النظام العالمي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فتشكَّلت 4 مناطق أساسية في سوريا؛ الأولى من شاطئ البحر الأبيض المتوسط إلى الحدود العراقية، بعد أن حررتها دمشق وحلفاؤها، والثانية في شمال غرب سوريا تحت الاحتلال التركي والمجموعات الإسلامية المسلَّحة التابعة له، والثالثة في شمال شرق الفرات خاضعة للاحتلال الأميركي المباشر، والمنطقة الرابعة في الجنوب السوري، إذ تتطلّب مصالح الأمن الإسرائيلي إيجاد منطقة عازلة، أسوةً بتجربة جيش أنطوان لحد في جنوب لبنان.
فرضت تعقيدات المنطقة الجنوبية نفسها على اتفاق المصالحة في درعا في العام 2018، نتيجةً لعامل القلق الإسرائيلي. وتم تثبيت ذلك بعد اجتماع بوتين – ترامب في هلسنكي في العام 2018، ما أدّى إلى إيجاد منطقة مصالحة خارج إطار سيطرة دمشق من الناحية الفعليّة، لتكون منطقة خاضعة للمصالح المتشابكة بين موسكو وواشنطن و”تل أبيب”، بحيث تؤمّن الأمن لـ”إسرائيل” بالإبقاء على جزء كبير من عناصر المجموعات المسلّحة تحت عنوان اللواء الثامن في الفيلق الخامس الذي شكَّلته موسكو، وعودة السيطرة الشكلية لدمشق على مناطق المصالحة في محافظة درعا، وبقاء قواتها بعيداً عن الحدود مع الجولان المحتل، وخصوصاً في الريف الغربي ومنطقة وادي اليرموك، ومنع حلفاء دمشق المقاومين من الاقتراب من الاحتلال الإسرائيلي، وبقائهم على بعد أكثر من 80 كم منها.
بدأ موقف موسكو يتغيّر مع مجيء الإدارة الأميركية الجديدة التي أظهرت عدوانيَّة واضحة تجاه روسيا، إلى الحدّ الّذي دفع جو بايدن إلى وصف الرئيس الروسي بالقاتل، ما دفع موسكو إلى الاقتراب أكثر من دمشق وطهران في مقاربة المصالح المشتركة في سوريا، وغضّ النظر عن وصول تعزيزات عسكرية كبيرة للجيش السّوري إلى مدينة درعا وطفس، والتشديد على تسليم الأسلحة الخفيفة والمتوسّطة، وترحيل أسماء محدّدة إلى منطقة الشمال السوري، يرافقها كلّ من يرفض الشروط الجديدة للمصالحة.
كان للقاء بوتين – بايدن في جنيف منتصف شهر حزيران/يونيو الماضي آثار إيجابيَّة في الملف السوري، بدأت ملامحها قبل الاجتماع ببضعة أيام، مع ظهور التوافق على تمديد مرور المساعدات الغذائية من بوابة باب الهوا في منطقة إدلب لستة أشهر، مقابل إشراف الدولة السورية المباشر على توزيع هذه المساعدات في مناطق سيطرتها، والسماح الأميركي لأنبوب الغاز العربي من مصر بالمرور من الأردن إلى لبنان عبر سوريا، وإقرار الملك الأردني عبد الله الثاني بعد زيارته لواشنطن بأنَّ الرئيس بشار الأسد باقٍ لفترة طويلة، وضرورة رفع العقوبات التي يتحمّلها الشعب السوري وحده.
في هذه الظّروف، تحرك الجيش السوري من جديد لتأمين خاصرته الرخوة في الجنوب السوري، وتقليص التهديد الإسرائيلي المستمر، وتأمين المنطقة بإخلائها من المسلّحين الَّذين يشكّلون تهديداً مستمراً لإعادة تنشيط حركة الحدود الأردنية السورية، وخصوصاً بعد الانفتاح الأردني المدروس دولياً مع سوريا، وعودة حركة التجارة عبره، ما يخلق فرصة لتنشيط الاقتصاد السوري شبه المتعثّر.
ما زال ملفّ الجنوب السوري معقّداً بتشابكاته الإقليمية والدولية. ومن الصّعب التكهّن بإعادة السيطرة الكاملة لدمشق على كل المناطق قريباً، وخصوصاً أن “إسرائيل” تعيش قلقاً من إعادة تكرار تجربة تحرير الجنوب اللبناني في الجولان، وهي تراقب التحولات الدولية، ونزوع الولايات المتحدة نحو التخفّف من أعباء منطقة غرب آسيا، وإمكانية العودة إلى الاتفاق النووي بين واشنطن و”تل أبيب”، ومجيء بكين إلى دمشق، والتي أحيت بشكل لافت إعلامياً ذكرى مرور 65 عاماً على علاقاتها الدبلوماسية مع العاصمة السورية. كل ذلك يدفع إلى اعتبار ما يحصل في الجنوب خطوة جديدة على مسار استعادة السيطرة عليه بشكل كامل، بانتظار المزيد من تغيّر المعادلات الدوليّة والإقليميّة.
الميادين