من أغلق دمشق: قيصر سوري على السوري!
جود سعيد
تصعد أزقّة حي الشيخ محي الدين وأنت تتعطّر برائحة اللّيل وأبخرة المطاعم الشعبيّة الصغيرة، تمشي بهدوءٍ، فكلُّ كائنات هذا الحيّ من قططٍ شاردةٍ أو دراويشَ أو عجزةٍ بلا مأوى تحت حمى سيده محي الدين بن عربي..
من أغلق محال من يعيشون على بركة الشيخ!
يتباهى أصحاب «بوز الجدي» المطعم الشّهير في أعلى هذا الحيّ من جدٍّ و ابنٍ و حفيدٍ أنّ ليلة حرب تشرين لم تجعلهم يغلقون سابقاً.
تصرخ من أعلى الحيّ: لا، ليتردّد صدى صوتك في خواء الشارع الحجري بين باب توما و باب شرقي في الطرف الآخر من المدينة!!
هل أُعتِمت أماكن الفرح ؟!
هل أُغلِقت بالقرارات ؟!
هل هكذا يُكافَأ من جعلوا أجسادهم درعاً كي لا يُخدَش وجه المدينة؟!
لا صعاليك جميلين يتسكّعون قرب حديقة القشلة، لا عاشقين يسرقون قبلاً على مهلٍ تحت قوس باب شرقي إيذاناً للوداع، لا سيارات فارهة تمخر الشارع ويستغرب راكبوها كيف يفرح هؤلاء الحمقى بنقودٍ قليلة. ما سرُّ ضحكاتهم المجلجلة؟
ولا حتى شحاذين صغاراً يجرون خلفك ليبيعوك ورداً لا تريده أبداً، ولا عامل نظافةٍ يشتم أولئك الساهرين وهو يلمُّ مخلفات فرحهم ثم يبتسم بخبثٍ حين يدسُّ أحدهم أوراقاً نقديةً في جيبه ستتحوّل أوقية لحمٍ يرقص حولها أطفاله!
تركض عيناك مستجيرتين نحو مركز المدينة، لكن لا عزاء.
هناك يستقبلك يوسف العظمة يبكي وحدته متربّعاً في ساحة المحافظة.
تغيب عنك حكايا أبطال ورق اللعب الخارجين من المقاهي يروون بطولاتهم في لعبة التركس والطرنيب والكونكان؟
ستشتاق ملك المحبوسة المزعوم الذي اعتدته يضحك صاخباً وهو يصفع رقبة متحديه قبيل الفجر مازحاً معه وشاكراً إياه على تسديد الحساب!
أين سيارات الأجرة الصفراء المنتشرة كصيصانٍ حول دجاجة المرابع الليليّة التي ستتقيّأ قصصها المثيرة بعد قليل!!!
ستفتقد الرقص في الشارع وأنت تمرّ قربهم على أنغام أغانيهم الشّعبية المتشابهة.
لن تجد يا يوسف مقهى يغفو على كرسيه موظّفٌ يضمّ كأس الشاي براحتيه كي لا يستلّه النادل. كيف سيسمح له وقد تبقّت فيه رشفتان تكفيان لسيجارتين تنسيانه همّ العودة لمنزلٍ تتكدّس فيه الأفواه الصارخة!
لا أكشاك يا يوسف تبيع قهوةً ساخنةً منكّهةً بالملل لأسراب شبابٍ عاطلين عن العمل متّكئين على سياراتهم يروون لبعضهم بطولاتٍ حصلت على جبهاتٍ درسوها جيداً على غوغل إيرث!
كيف تكون دمشق، دمشق الخير دون أن يستطيع مواطنها المتواضع القيام بعملٍ إضافيٍّ من مبدأ الدراويش:
إنّ بحصةً في هذه الأيّام الصّعبة تسند موظّفاً؟
قرارٌ لمحافظة دمشق بتنظيم أوقات العمل وتحديدها للفعاليات التجاريّة وأماكن الترفيه وغيرها. حسناً، هذا شيءٌ عظيمٌ ومفرح، لا أجمل من جعل النّظام يسود كي يضبط إيقاع الحياة.
ولكن! من درس القرار _ومع احترامي_ واضحٌ أنه لا يعرف دمشق حقّ المعرفة!
إن كانت الحجّة توفير الطاقة فنحن معه ولكن فلنقم بالاستثناء لكي نحافظ على الصّحة النفسيّة للمجتمع.
فلنقم بالاستثناء كي لا تعتم دمشق وتصير إسمنتاً بلا فرح. دمشق عاصمة التاريخ لا تغلقوها بجرة قلم، لا تقطعوا آخر الأنفاس عن أهلها، لا تستفزّوا حبّهم.
خذوا أيام الاسبوع وأعطوا المقاهي ومافي حكمها أيّام العطل، دعوا متنفساً لمن لا يريد أن يبكي وحيداً على شرفته، لأبٍ يريد الهروب حتى يغفو أطفاله ولا يسألوه أن يشتري لهم لعبة. لشابٍّ بلا عملٍ يريد أن ينسى، لحبيبين لا يقدران على الزّواج فيرقصان وجعهما حتّى الفجر في حانةٍ منسيّة، دعوا متنفساً للحجارة كي لا تحمل يوسف العظمة وتمضي.
كيف للسوريّ أن يتجرّأ على تخيّل دمشق دون ليلّ تعيشه؟!
كيف تكون دمشقُ دمشقَ وهي لا تستطيع أن تطعم حائراً قبل صلاة الفجر!!!
الأخبار