من شرق الفرات إلى غربه… مغامرة العبور تحت نيران «قسد»
محمود عبد اللطيف
تخوض «قوات سوريا الديمقراطية»، منذ عدّة أشهر، ما يمكن وصفها بـ«الحرب» على المعابر النّهرية الرابطة بين ضفّتَي الفرات في المناطق الواقعة في ريف دير الزور الشرقي. «حربٌ» تُبرّرها سلطة الأمر الواقع، المدعومة من قِبَل التحالف الذي تقوده واشنطن، بأنها تشكّل ضرورةً لتأمين المناطق التي تسيطر عليها «قسد»، بغضّ النظر عن احتياجات السكّان المحليّين، الذين كانوا وجدوا في تلك المعابر منفذاً مناسباً لتأمين مستلزماتهم، مُطوِّرين الوسائل الملائمة لجعل عملية النقل والانتقال من خلالها أكثر انسيابية وإنتاجية
تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي، خلال الأيام الماضية، تسجيلاً مصوّراً لتسرّب مواد نفطية إلى نهر الفرات بالقرب من مدينة البصيرة، التي تسيطر عليها «قسد». ولدى سؤال «الأخبار» مجموعةً من السكّان المحليّين عن الأمر، تَبيّن أنّه ناتجٌ من استهداف الفصائل المدعومة من قِبَل واشنطن إحدى «النشالّات»، التي تُمثّل طريقةً ابتَكرها تجّار النفط ومشتقّاته المكرّرة بشكل بدائي، لنقل منتجاتهم إلى الأسواق الواقعة في مدن غرب الفرات. و«النشّال»، أنبوب زراعي يربط بين ضفّتَي النهر، ويوضع على أحد طرفَيه محرّك مياه صغير يساعد على استجرار المادّة السائلة الممرّرة فيه. ويتمّ مدّ هذه الأنابيب من خلال استخدام قوارب الصيد الصغيرة ليلاً، تجنُّباً للاستهداف من قِبَل نقاط الحراسة التابعة لـ«قسد». إلّا أنه لا يمكن لتلك الآلية أن تنقل كمّياتٍ ضخمة من المواد النفطية، وما يتمّ بيعه عبرها يكاد لا يكفي احتياجات الأسواق المحلية التي ترغب في هذا النوع من المحروقات على الرغم من خطورته، نتيجة لانخفاض أسعاره مقارنة بالمواد النظامية. ويكشف مصدر أهلي، فضّل عدم الكشف عن هويته، أن أكبر عملية نقل للمشتقّات النفطية بين ضفّتَي الفرات تكون بكمية 25 برميلاً من المازوت أو البنزين، تُشترى أصلاً من «الحراقات»، المملوكة لقياداتٍ في «قسد»، أو لشخصيات مرتبطة بها («الحراق» آلية بدائية لتكرير النفط الخام).
ويتزامن حراك «قسد» ضدّ «النشالات»، مع حراك مماثل ضدّ «المعابر النّهرية»، التي تُستخدم لنقل المواد الزراعية والركّاب بين ضفّتَي النهر، ويَعرفها السكّان المحليّون باسم «المِعبار»، وهي عبارة عن موانئ نهرية لقوارب مختلفة الأحجام تُصنع محليّاً، كانت ظهرت قبل بدء الأزمة السورية، ثمّ أصبحت هدفاً للطيران الأمريكي ضمن مرحلة «عزل الرقة»، التي كانت سبقت بدء تدمير عاصمة «داعش» في سوريا، قبل أن تسيطر عليها «قسد» في أيلول من العام 2017. وتتمّ صناعة السفن النهرية حسب الطلب، بحسب ما يشرح محمد الحسن، صاحب إحدى ورشات الحدادة في مدينة الشحيل، في ريف دير الزور الشرقي. ويُعتمد فيها، بشكل أساسي، على «البراميل» أو المجسّمات الأسطوانية التي تُصنع لتكون أداةً أوّلية في «تطويف السفينة»، عبر ربط تلك المجسّمات بقضبانٍ معدنية لتثبيت سطح السفينة، والذي يُبنى من ألواح معدنية قادرة على تحمّل الأوزان المختلفة، فيما يتمّ استخدام محرّكات رائجة محلّياً من مِثل «أندريا»، لتأمين دفع السفينة خلال انتقالها بين ضفّتَي نهر الفرات، علماً أن تلك المحرّكات تُستخدم عادةً لضخّ المياه في الأراضي الزّراعية، وتباع في أسواق المنطقة، وهي مستعملة غالباً ومجهولة المصدر، فالمنطقة تعرّضت للنهب من قِبَل أطراف متعدّدة قبل أن يستقرّ حالها تحت سيطرة «قسد» منذ أربع سنوات تقريباً. ويوضح الحسن أنّ تكلفة تصنيع السفينة تختلف بحسب الحجم وسعر صرف الدولار في أسواق شرق الفرات. أمّا أجرة النقل بين ضفّتَي النهر فهي مقبولة، كونها تتراوح بين ألفين وثلاثة آلاف ليرة بالنسبة للرّاكب، وما بين سبعة آلاف و15 ألف ليرة بالنسبة للسيارة وبحسب حمولتها. وتستغرق الرحلة نحو 15 دقيقة، في مسار قد يكون متعرّجاً بسبب الظروف الأمنية التي تعيشها المنطقة.
شرّعت «قسد» لنفسها بيع المواد النفطية للمناطق التي تسيطر عليها الفصائل المدعومة من تركيا في ريف حلب
استنسابية «التهريب»
تَعتبر «قسد» المعابر الواقعة في ريف دير الزور الشرقي، خطراً مهدّداً لها، ولذا فهي لا تتورّع عن استهداف السفن المارّة من خلالها بإطلاق النار المباشر عليها. ومنذ شهر نيسان الماضي، فرضت «قسد» منعاً لحركة السفن القادرة على نقل الحمولات المتوسّطة والكبيرة، من حبوبٍ وخضار ومواد نفطية، نحو مناطق سيطرة الدولة السورية. وبحسب السكّان المحليّين، فإنّ «قسد» تطلق النار على أيّ تحرّكٍ في النهر ليلاً، حتى ولو بقوارب الصيد الصغيرة التي باتت واحدةً من مصادر العيش الأساسية في ظلّ تردّي الأوضاع المعيشية في المنطقة. المفارقة أن «الإدارة»، التي تشنّ حملاتٍ في مناطق شرق الفرات ضدّ عملية نقل المواد النفطية إلى مناطق سيطرة الدولة، تشرعن لنفسها عملية بيع المواد النفطية للمناطق التي تسيطر عليها الفصائل المدعومة من تركيا في ريف حلب الشمالي الشرقي من خلال معبرَي العون – أم جلود.
وليس ثمّة إحصائيةً دقيقةً أو رسميةً لعدد ضحايا عمليات مداهمة المعابر النهرية أو «النشّالات»، إلّا أنّ المعلومات تشير إلى تسجيل حوادث خطرة في أكثر من منطقة من بينها معبر الحوايج، الذي يشهد منذ شهر نيسان عمليات تبادلٍ لإطلاق النار بين «قسد» ومَن تصفهم بـ«المهرّبين». كما شاركت القوات الأميركية في أكثر من عملية مداهمة لمعابر في الشحيل والحوايج وذيبان والبصيرة، حيث وُجّهت إلى المعتَقلين تهمّ التعامل مع «داعش» وتهريب الأسلحة والمخدّرات.
جسر وحيد
ثمّة جسر وحيد يربط بين ضفّتَي الفرات في دير الزور، وهو جسر عائم بُني بالتعاون بين «الشركة العامة للطرقات والجسور» والجانب الروسي، ليربط بين قريتَي مراط والمريعية. كما تمّ ربط مناطق سيطرة الدولة السورية على ضفّتَي النهر بمعبرَين نهريَّين. ويقول رئيس مجلس مدينة دير الزور، المهندس رائد المنديل، لـ«الأخبار»، إنّ أضراراً كبيرة لحقت بجسر السياسية، نتيجةً لقصف التحالف الأميركي للجسر في العام 2017، كما أنّ الجسر المعلّق، ذات الطابع السياحي والمُستخدم لعبور المشاة بين ضفّتَي الفرات (الشامية والجزيرة)، في حالة انهيارٍ كامل. ويحتاج كلّ من الجسرَين المذكورَين إلى ميزانية ضخمة غير متوافرة حالياً لإعادة التأهيل، فيما بدأت عملية صيانة جسر البعث، الرابط بين أحياء وسط مدينة دير الزور بالتعاون مع إحدى المنظمات الدولية. وعلى الرغم من توقّع إتمام صيانته خلال 5 أشهر، إلّا أنه لا يربط بين غرب الفرات وشرقه، وبالتالي فإنّ أثره موضعي وينحصر داخل مدينة دير الزور. ويضيف المنديل أنّ «العبّارتَين»، اللّتَين أُطلق العمل بهما قبل عامين تقريباً، تنقلان الركاب وحمولة تصل إلى أربع آليات متوسّطة أو صغيرة، بشكل مجّاني، بين ضفّتَي نهر الفرات، فيما يُترك الجسر العائم لمرور الشاحنات الكبيرة أو ذات الحمولة العالية، بما يساعد على تخفيف الأعباء قدر الإمكان، وسط الحاجة إلى إمكانيات ضخمة لإعادة ربط ضفّتَي الفرات بجسورٍ دائمة.
الأخبار