شرق سوريا.. حرب باردة جديدة!
انتشار القواعد الأمريكية في الشرق السوري غير مقترن بالتسويات السياسية والتناقض بين التصريحات الأمريكية التي تؤكد أن واشنطن ستحد من وجودها العسكري شرقي سوريا وتجعله يقتصر فقط على 900 جندي، وبين إعلان “قوات سوريا الديمقراطية-قسد” بحصولها على تطمينات أمريكية بعدم الانسحاب من الشرق السوري، مرده أن واشنطن نفسها تناقض تصريحاتها وتواصل نقل التعزيزات للداخل السوري مع حديثها عن خفض قواتها هناك، والأمر يقوم على عدة مفردات أساسية تحت مظلة محاربة “داعش” الذي لم يخرج زعيمه “أبو إبراهيم القرشي”، للعلن منذ إعلان توليته “الخلافة”، بعد مقتل سلفه “أبو بكر البغدادي”.
أهم القواعد:
تعتبر قاعدة “هيمو”، الواقعة إلى الغرب من مدينة القامشلي الأهم من الناحية السياسية، فالقاعدة القريبة من مدينة “عامودا”، تحتوي على مقر لإقامة شبه دائمة لفريقي وزارة الخارجية والاستخبارات الأمريكية والذين يعملان بالتنسيق مع “قسد”، على مجموعة ملفات سياسية منها الحوار مع دمشق، والحوار مع القوى الكردية الأخرى مثل المجلس الوطني الكردي الموالي للحكومة التركية، وفي الملف العسكري يمكن اعتبار قواعد “رميلان ١ – الشدادي – حقل العمر”، نقاط ارتكاز للقوات الأمريكية في الشمال السوري.
القاعدة “رميلان – ١”، أقيمت في مطار زراعي إلى الجنوب من مدينة رميلان النفطية، فيما القاعدة “رميلان ٢”، التي أقيمت في مطار زراعي أيضاً في جنوب مدينة المالكية القريبة من المثلث الحدودي المشترك مع العراق وتركيا، وهاتين القاعدتين تضمنان وجوداً أمريكياً في منطقة نفطية هامة بالنسبة لدمشق، وأيضاً قريبة من جزء حيوي من الطريق “M4″، شمال شرق محافظة الحسكة.
قاعدة الشدادي الواقعة على بعد ١٧ كم جنوب شرق المدينة ذات الطابع النفطي بريف الحسكة الجنوبي، تعد أكبر نقطة لتجمع المروحيات الأمريكية، فغالبية عمليات الإنزال التي تنفذ “شرق الفرات”، بريف دير الزور تنطلق منها، وهي قاعدة قريبة من الطريق القديم و”طريق الخرافي”، الرابط بين “دير الزور – الحسكة”، لتحضر قاعدة “حقل العمر”، كأكبر نقطة يتمركز فيها الأمريكيون شرق نهر الفرات وقد تمت خلال الأشهر الأخيرة عملية توسيع هذه القاعدة لتكون مجهزة لهبوط طيران الشحن الأمريكي من خلال توسيع المدرج الترابي الخاص بها، لتتشابه بذلك بقاعدة الشدادي، كما زودت القاعدة أيضاً بصواريخ “أرض – أرض”، متوسطة المدى وصواريخ مضادة للطيران، إضافة لعدد غير معلوم من العربات المصفحة من طراز “برادلي”، والمدفعية الثقيلة، بحسب ما نشر من صور لتوسيعها.
تمكن للطيران المسير أن يقلع من قواعد” رميلان ١ – رميلان ٢ – الشدادي – العمر”، لتنفيذ مهام استطلاع أو هجمات على ما تختاره من نقاط، وهناك قواعد أخرى أصغر حجماً لكنها ذات أهمية كبرى مثل “قسرك”، المشرفة على الطريق M4 جنوب غرب مدينة عامودا، و”منتجع لايف ستون”، الواقع للغرب من مدينة الحسكة بنحو ٢٥ كم،
إضافة لتواجد المدينة الرياضية بالطرف الجنوبي من مدينة الحسكة، وحقلي “كونيكو – التنك”، بريف دير الزور الشرقي، وبهذا الشكل يكون التواجد الأمريكي بشكله الحالي محيطاً بالمناطق النفطية الثلاث الأكثر أهمية في حسابات مصادر الطاقة في سوريا وهذه المناطق هي (رميلان – الشدادي – حقول دير الزور).
وعلى الرغم من مشاركة القوات الأمريكية وإشرافها على تدريب مجموعات لـ “قسد” داخل مقر الفرقة ١٧ شمال غرب مدينة الرقة على فرضيتي “الدفاع في حال تقدم العدو بإسناد جوي”، و “الهجوم بإسناد جوي صديق”، مع تسجيل تحليق لدوريات الاستطلاع الجوي المنفذة من قبل المروحيات الأمريكية في سماء الرقة وريفها الشمالي مطلع الشهر الحالي،
لكن ذلك لا يعني بالمطلق وجود نية لدى القوات الأمريكية بالعودة لمحافظة الرقة التي كانت قد أخلت نقاطها فيها مع نقاط بريف حلب خلال الفترة الممتدة بين شهري أيلول وتشرين الأول عام ٢٠١٩، فالتركيز على مناطق النفط أخذ شكلاً أكثر وضوحاً بعد عملية إعادة الانتشار التي أمر بها الرئيس السابق “دونالد ترامب”، والذي يمكن وصفه بالأكثر وضوحاً بين رؤساء أمريكا على الإطلاق لكونه لم يغلف يوماً رغبات بلاده بشعارات إنسانية، واختصرها بأن واشنطن تقوم بعلاقاتها الدولية على قاعدة “حليفنا من يدفع أكثر”.
تعد قاعدة التنف الواقعة في المعبر الحدودي مع العراق شرق محافظة حمص ذات أهمية كبرى في الاستراتيجية الأمريكية داخل سوريا، فهي القاعدة الوحيدة خارج المناطق النفطية ولا تتم منها أي عملية لمحاربة “داعش”، ولا يوجد مبرر لبقائها إلا زعم محاربة التنظيم وتقديم الحماية لسكان “مخيم الركبان”، الواقع جنوب شرق الأراضي السورية، إلا أن الانسحاب الأمريكي منها لا يبدو قريباً في المدى المنظور لكونها تشكل أساساً في سياسات واشنطن المعمول بها ميدانياً في سوريا.
ماذا يريد الأمريكيون..؟
يعد العراق أكبر الأسواق القريبة لتصريف الصناعة السورية، وبالتالي فإن قطع الطرق الأساسية والتي تتمثل بـ “دمشق – بغداد”، من خلال التواجد في التنف، و “حلب – الموصل”، من خلال السيطرة على معبر “اليعربية – ربيعة”، شرق الحسكة عبر “قسد”، والحفاظ على تواجد عسكري قريب من الطريق M4 شمال شرق الحسكة، يحقق غاية أساسية بالنسبة للأمريكيين تتثمل بمنع أي تواصل طرقي بين “طهران – بيروت”،
الذي تعتبره واشنطن وتل أبيب اتصالاً يهدد “الأمن الإسرائيلي” إذا ما حدث بكونه سيكون طريقاً لنقل السلاح إلى المقاومة اللبنانية، كما إن تحقيق ما تسميه أمريكا و”إسرائيل” بـ “محاربة الوجود الإيراني في سوريا يتطلب بقاءً في الشرق، وهو أساس العمليات العدوانية شبه الأسبوعية التي تستهدف نقاطاً بريف دير الزور القريب من الحدود مع العراق غرب نهر الفرات، ويضاف لهذا حرمان دمشق من الطرق الحيوية بما يؤخر انتعاش اقتصادها.
الاستمرار بتوسيع “قوة حرس الحدود”، التي من شأنها أن تنتشر في محيط الحقول النفطية وعلى امتداد الحدود شرق دير الزور لصالح واشنطن، يأتي كخطوة لتأمين الوجود الأمريكي الذي يعمل على حرمان الحكومة السورية من إدخال حقول النفط الأساسية في حسابات الإنعاش الاقتصادي الذي بدأ يتسارع بفعل اتفاقيات مع دول مثل الإمارات والأردن، وبرغم أن تصريحات إدارة جو بايدن عقب توليه الرئاسة الأمريكية اعتبرت أن حماية المنشآت النفطية ليست أولوية بالنسبة لها، لكن الواقع يعاكس ذلك، فلا وجود أمريكي بعيداً عن النفط، وعليه يكون النفط هدفاً ثالثاً مما تحققه واشنطن من استمرارية وجودها في سوريا،
باختصار الهدفين الأولين بـ “محاربة الوجود الإيراني – قطع الطرق الحيوية مع العراق – السطو على النفط”، ولا جدية للأهداف المعلنة لهذا الوجود والمتعقلة بـ محاربة “داعش” أو حماية الركبان، وحتى لا جدية في حماية ودعم “قسد”، والبرودة الأمريكية بالتعامل مع التهديدات التركية لشمال شرق سوريا بحجة محاربة “قسد” خير دليل على ذلك.
لا يوجد أي مؤشر حالي لحدوث ما تتكلم عنه واشنطن عن خفض تعداد قواتها في سوريا، وعموما هو حديث تكرر كثيراً دون تطبيق على أرض الواقع، ومن غير الممكن التأكد من تعداد القوات الأمريكية في سوريا لكن جزء ليس بالقليل من المعدات الثقيلة كالعربات المصفحة التي كانت تنتشر في العراق نقلت للداخل السوري، والاحتياج الأمريكي للبقاء في نقاط قريبة من الانتشار الروسي على الساحل الشرقي للمتوسط ضمن حرب باردة جديدة – إن صح التعبير -، واحدة من الأولويات التي لا يمكن إغفالها أيضاً وقد تكون بالنسبة لواشنطن أهم الأهداف من البقاء غير الشرعي في سوريا.
محمود عبد اللطيف-أثر برس
اقرأ ايضاً:من الجولان إلى موسكو: طفح الكيل!