الجمعة , نوفمبر 22 2024
أزمة ديموغرافية في سوريا: الهجرة تُكمل ما بدأته الحرب

أزمة ديموغرافية في سوريا: الهجرة تُكمل ما بدأته الحرب

أزمة ديموغرافية في سوريا: الهجرة تُكمل ما بدأته الحرب

عاد خيار اللجوء والهجرة ليتصدّر من جديد قائمة أولويات كثير من السوريين، الباحثين عن أبسط مقومات الحياة، ولا سيما مع استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد نتيجة عدة أسباب، أبرزها: تعثر جهود الحل السياسي للأزمة، والعقوبات الغربية التي زادت حدّتها خلال العامين الأخيرين، والأزمة السياسية والاقتصادية في لبنان.

ومع أن البلاد شهدت على مدار أكثر من مئة عام نحو أربع موجات من الهجرة الخارجية، إلا أن تزامن اللجوء والهجرة الخارجية مع متغيرات ديموغرافية أخرى أكثر حدة، كارتفاع معدلات الوفيات بين فئات عمرية معينة بسبب الحرب، وانخفاض معدل النمو السكاني، ضاعف وبشكل كبير من مخاطر هذه المتغيرات مجتمعة على المشهد الديموغرافي السوري، إلى درجة أن هناك من بات يحذر من إمكان تحوّل سوريا إلى أنموذج سكاني “هرم”، كما هي حال بعض الدول الأوروبية. فهل هذا ممكن؟ وماذا فعلت الحرب بالهرم السكاني السوري؟
خلل واضح

إحدى السمات الرئيسية المعروفة عن المجتمع السوري أنه مجتمع فتيّ، تمثّل فيه الفئة القادرة على العمل والإنتاج النسبة الأكبر، حيث تشير التقديرات البحثية إلى أن نسبة السكان ممّن هم في سن العمل زادت من نحو 46.6% عام 1970 إلى نحو 54.4% في العام 2004، فيما الحصة النسبية للأطفال دون الخامسة زادت في العام 2010 عمّا كانت عليه في العام 2004، وهو ما جعل من الهرم السكاني في ذاك العام يبدو أكثر فتوة.

وهذا ما دفع الباحثين إلى توقع انفتاح النافذة الديموغرافية في الفترة ما بين 2015-2020، وتالياً تأخر مرحلة المجتمع الهرم إلى منتصف القرن الحالي 2050. أما الميزة الثانية فهي في التوازن الذي يغلب على التركيب السكاني بحسب الجنس، إذ إن نسبة الذكور إلى الإناث تبلغ نحو 1.05.

مع الحرب تغيّر كل شيء، وما تحقّق من مؤشرات تنموية عبر عقود زمنية طويلة، وفي مختلف القطاعات، تبخّر خلال بضع سنوات فقط. والواقع الديموغرافي بكل مؤشّراته لم يكن بمعزل عن ذلك التحوّل، وإن كانت نسبة التغيير تختلف من مؤشر إلى آخر؛ إذ تخلص النتائج هنا، بحسب نتائج المسح الديموغرافي الرسمي لعامي 2017-2018، إلى أن عدد النساء في زمن الحرب، وضمن الفئات العمرية الممتدة من عمر 24 سنة لغاية عمر 44 سنة، أكبر من عدد الذكور، وهذا أيضاً بالنسبة إلى الفئة العمرية 50 إلى 54 سنة، في حين أن تقديرات مركز بحثي مستقل تشير إلى أن عدد النساء في نهاية العام 2019 أكبر من عدد الذكور في نحو 12 فئة عمرية، تبدأ من عمر 25 سنة وتنتهي عند عمر 80 وما فوق.

وهذا ما يدفع الدكتور علي رستم، مدير الإحصاءات السكنية سابقاً في المكتب المركزي للإحصاء، إلى القول: “إن التحولات الديموغرافية التي شهدتها سوريا تشبه حال بعض الدول، التي شاركت في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وكذلك الدول التي شهدت حروباً أهلية مديدة، كروسيا بعد الثورة البلشفية والحرب العالمية الأولى. فالخلل لم يقتصر على مستوى التركيب العمري، بل (امتدّ) على مستوى التركيب النوعي للسكان، حيث انخفضت نسبة الذكور على المستوى الإجمالي، إلا أنه كان دراماتيكياً وسط فئة القادرين على العمل والأكثر شباباً بينهم، لتنخفض نسبة الجنس لدى الفئة العمرية 20-30 سنة من نحو 105 إلى 90 حالياً”.

يتضح أكثر حجم المتغيرات وخطورتها من خلال مقارنة الواقع الحالي مع تقديرات السيناريو الاستمراري (فيما لو لم تقع الحرب). فمثلاً، بالنسبة إلى الفئة العمرية الأولى الممتدة من لحظة الولادة إلى عمر أربع سنوات، فإن عدد أفراد هذه الفئة في نهاية العام 2019 لم يكن يمثّل سوى نحو 58% من عدد أفراد هذه الفئة، فيما لو لم تقع الحرب. وهذا ما جعل الخانة الأولى في قاعدة الهرم السكاني تبدو أقل من الخانة الثانية التي تمثلها الفئة العمرية الممتدة من 5 سنوات إلى 9، ونسبة عدد أفرادها حالياً إلى السيناريو الاستمراري تصل إلى نحو 63%.

ومع أن تقديرات المسح الديموغرافي جاءت “متفائلة”، وخاصة أنها تزامنت مع انحسار دائرة المعارك، إذ إن 33.2% من السكان صُنّفوا بموجب نتائج المسح أنهم ضمن الشريحة العمرية لأقل من 15 سنة، في حين كانت نسبة من هم في عمر ما بين 15-64 سنة تصل إلى نحو 61.5%، إلا أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي تعيشها البلاد منذ منتصف العام 2019، واستمرار التحديات الأمنية، والخطر الذي بات يمثّله فيروس كوفيد 19 منذ منتصف العام الماضي، جميعها عوامل تضغط باتجاه استمرار “نزيف” المؤشرات الديموغرافية، وبشكل أكبر من حسابات المركز السوري لبحوث السياسات، والتي توقع فيها أن يصل عدد السكان داخل البلاد في العام 2030 إلى نحو 21.7 مليون نسمة، وهو رقم قريب لعدد السكان المسجل في العام 2010، لكنه لا يمثّل سوى 62% من تقديرات عدد السكان فيما لو لم تقع الحرب، والمقدّر أن يصل في العام 2030 إلى نحو 35 مليون نسمة.

3 متغيرات أساسية

باختصار، يمكن القول: إن هناك 3 متغيرات أساسية تسبّبت في دخول البلاد في دائرة الخطر الديموغرافي المستقبلي، وتالياً فإن جهود السياسات السكانية الحكومية يفترض أن تتوجه لمعالجة تلك المتغيرات بغية الحد من تأثيراتها، وهي:

-ارتفاع معدلات الوفيات بين السوريين خلال فترة الحرب بشكل كبير، ولا سيما بين الفئة القادرة على العمل والإنتاج، وتحديداً الذكور منها، وكذلك من الأطفال. وبحسب التقديرات غير الرسمية، فإن معدل الوفيات الخام ارتفع من 4.4 لكل ألف نسمة في العام 2010 إلى 10.9 لكل ألف نسمة في العام 2014، ثم تراجع مع انحسار العمليات العسكرية إلى 7 لكل ألف نسمة في العام 2019. لكن مع انتشار فيروس كوفيد 19 وموجات الإصابة الكثيفة التي ضربت البلاد خلال عامي 2020 و2021، يتوقع أن يكون المعدل قد ارتفع عما كان عليه في العام 2019.

واللافت هنا أن الوفيات الناجمة عن الحرب وكوفيد 19 استهدفت الفئات العمرية القادرة على العمل والإنتاج، وإن كانت وفيات كوفيد 19 أكثر “عدالة” لجهة عدم اقتصار معظمها على الذكور كما فعلت الحرب، والتي خلّفت كذلك أكثر من مليون ونصف مليون إعاقة، معظمها من الشباب والأطفال، أي إن شريحة أخرى خرجت من ميدان العمل أو تسبّبت الحرب في تقييد نشاطها الاقتصادي ضمن أعمال معينة.

– تراجع معدلات الولادات من 38,8 بالألف في العام 2010 إلى نحو 25.4 بالألف في العام 2019، وهذا من شأنه أن يقلل من نسبة فتوة المجتمع السوري من ناحية، ويضعف مستقبلاً فرص تعويض النقص الذي فقدته البلاد في الفئات العمرية البالغة، إما بسبب مشاركة بعض الفئات في الأعمال القتالية، وما ذهب ضحيتها من مدنيين أبرياء، أو نتيجة الأمراض والأوبئة، وفي مقدمتها فيروس كوفيد 19، أو إثر ظاهرة اللجوء والهجرة.

– موجات اللجوء والهجرة نحو الدول المجاورة أو مختلف دول العالم، ولا سيما الأوروبية منها، حيث تُظهر التقديرات الإحصائية غير الرسمية أن معدل الهجرة ارتفع من نحو 4 لكل ألف نسمة في العام 2010 إلى 70.5 لكل ألف في العام 2013، وهو العام الذي مثّل ذروة موجة الهجرة الأولى خلال فترة الحرب، ليعود وينخفض المعدل مع استقرار الأوضاع العامة في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية خلال عامي 2018 و2019، وليسجّل نحو 8 لكل ألف نسمة في العام 2019، لكن مع تدهور الأوضاع الاقتصادية في العامين التاليين، يتوقع أن يكون المعدل قد عاد إلى الارتفاع، وبنحو غير قليل.

والملاحظ في جميع مراحل الهجرة خلال فترة الحرب، أن النسبة الكبرى من المهاجرين كانت من الشباب، أو من الأسر الشابة التي لا يزال أفرادها ضمن الفئات العمرية الأولى، وهذا مثّل عامل ضغط إضافياً على تركيبة الفئات العمرية للهرم السكاني في البلاد.

بيئة مستقرة

كما هي حال جميع الأزمات والتحولات الخطيرة الناشئة أو تلك التي كشفتها الأزمة، فإن وقف حالة “انهيار” بعض المؤشرات الديموغرافية من ناحية، والعمل على تصحيح الواقع بما يخدم الجهود التنموية المنتظرة من ناحية أخرى، يتطلبان مناخاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً مستقراً يدعم التوجه نحو اعتماد سياسات سكانية تضع في مقدمة أولوياتها تحقيق الأهداف الثلاثة التالية:

– العمل على خفض معدل الوفيات إلى أدنى من معدله المسجّل قبل سنوات الحرب، ولا سيّما تلك الناجمة بشكل غير مباشر عن الحرب. وتحقيق مثل هذا الهدف خلال السنوات المقبلة، من شأنه أن يرفع متوسط عمر الفرد في سوريا، وتالياً يعزّز حجم قوة العمل، التي ستكون البلاد في أمس الحاجة إليها في مرحلة إعادة الإعمار.

– تنفيذ برامج اقتصادية واجتماعية، هدفها الحدّ من هجرة الشباب واستثمار إمكانياتهم وقدراتهم داخل البلاد، سواء بتشجيع المشروعات الصغيرة والمتوسطة، أم بمعالجة القضايا والملفات المختلفة، التي تشجّع على الهجرة والعمل خارج البلاد.

– توسيع دائرة الحماية والرعاية الصحية للأطفال والأمهات في مختلف الفئات العمرية، بالتعاون مع المنظمات الدولية والأهلية، بغية خفض معدل وفيات الأطفال والأمهات، ومحاصرة الأمراض التي عادت إلى الظهور من جديد في فترة الحرب.

الميادين-زياد غصن

اقرأ ايضاً:دريد لحام: أنا ومن بقي معي في سوريا مذكورون في القرآن