دواء السوريين يدخل العناية المركزة
عشر دقائق في إحدى صيدليات دمشق، كانت كفيلة بشرح معاناة قطاع الأدوية في سوريا. فخلال هذه المدة الوجيزة، فشل نحو خمسة مرضى في الحصول على ما يحتاجونه من أدوية، وتلقّوا ذات الجواب من الصيدلي: “هذا الدواء مقطوع.. لم تصلنا توريدات من المعمل”.
انقطاع بعض الأصناف الدوائية في سوريا لم يكن أمرا يعرفه السوريون قبلا، لمعاناتهم المستجدة هذه أسبابها، فالصناعات الدوائية ليست بمنأى عن الآثار السلبية الناتجة عن العقوبات الاقتصادية الغربية المفروضة على بلادهم بعدما ساهمت تردداتها بشكل جوهري، في إنهاك العملة الوطنية وتقليص القدرة على ابتياع الاحتياجات الأساسية، وخاصة تلك الشرهة للمواد الأولية المستوردة، كما هي حال قطاع الأدوية.
وفي المقابل، فهذا النشاط الاقتصادي الحيوي، ولكونه صناعة كأي صناعة أخرى يجهد أصحابها لمراكمة أرباح تفوق الحدود المسموح لهم، متذرّعين بما كرسه الحصار الاقتصادي من وقائع جديدة في ميزان تكاليفهم، فإن الإجراءات الداخلية التي تقوم بها الحكومة السورية تفضي في النهاية إلى المزيد من تضييق الخناق على هذه الصناعة، بحسب رأيهم.
وفي المحصلة، فإن هذا التضافر العفوي لمنعكسات الحصار والإجراءات الحكومية، يدفع هذا القطاع الانتاجي إلى حافة الانهيار، ويتهدد صناعة الدواء الوطنية بالشلل التام.
غلاء فاحش
في حديث لـ”سبوتنيك”، تروي سيّدة ستينيّة معاناتها في تأمين دواءها الخاص بمرضى السكري “دياميكرون” والذي يصل سعره إلى 13 ألف ليرة: “أعيش على هذا الدواء، ومنذ ثلاثة أيام توزّعنا أنا وأولادي على صيدليات العاصمة للبحث عنه، ولم يجدي ذلك نتيجة، وحاولت الطلب من بعض الأشخاص في معامل الأدوية تأمين علبة دواء واحدة ولم أنجح في الحصول عليها”.
ويقلّب أبو الطفلين يديه ويهز برأسه يميناً ويساراً، وبالنبرة الغاضبة يتساءل: “أين ذهب الدواء، وكيف فقدناه فجأة؟، أما من مسؤول حكومي واحد ينزل عن كرسيه العاجي ويشرح لنا الأسباب الكامنة وراء ذلك؟”
الدواء موجود.. لكنّه يصدّر!
وأوضح مصدر مطّلع -رفض ذكر اسمه- في أحد معامل الأدوية الخاصة أن مشكلة فقدان الدواء بدأت منذ أن رفع مصرف سورية المركزي سعر صرف الدولار الأمريكي مقابل الليرة السورية إلى 2525 ليرة، أي ضعف سعره في السابق والذي كان لا يتجاوز 1256 ليرة، كما أصدرت الحكومة السورية قراراً برفع أسعار الأدوية في شهر حزيران الماضي بنسبة 30%، معتبراً أن هذه النسبة لا تتوافق مع الزيادة في سعر الدولار، وارتفاع سعر لتر المازوت الصناعي إلى أكثر من 100%، ناهيك عن الأمور الأخرى التي تزيد الكلف التشغيلية من كهرباء وحوامل طاقة وغير ذلك.
وأكد المصدر أن الدواء موجود ويتم إنتاجه بوفرة ولكن يتم تصديره نظرا لتوافق سعر التصدير مع الكلفة، مشيراً إلى أنه يتلقى يومياً صوراً من دول أخرى تبيّن كيف يباع الدواء السوري على الرغم من فقدانه محلياً.
المعامل محقّة
رئيس المجلس العلمي للصناعات الدوائية رشيد الفيصل، أكد في تصريحه لـ “سبوتنيك” أن معامل الأدوية تطالب برفع أسعار الأصناف الدوائية بنسبة 70% كحد أدنى، معتبراً أنها محقّة في ذلك، كون قرار رفع الأسعار الدوائية الأخير لم يكن منصفاً للواقع الدوائي بحسب رأيه، الأمر الذي أدى إلى خسارة بتكلفة الإنتاج، وتوقف المعامل عن البيع، وبالتالي نقص توافر الأدوية في الصيدليات.
ويرى الفيصل أن الارتفاع المعقول في أسعار الأدوية من شأنه تحقيق معادلة إيجابية بين المواطن والدواء من ناحية، والمنتج والصيدلي من ناحية أخرى، مضيفاً: حتى لو ارتفع سعر الدواء إلى 100% يبقى أرخص من الدواء الأجنبي.
المادة الفعالة لا تأتي من الفانوس السحري
وقال الفيصل: يعاني الدواء السوري من قلة اهتمام الجهات المعنية به، نافياً ما يشاع عن ارتفاع سعره في الصيدليات بنسبة تتراوح بين 100-500%، فلم يرتفع سعره سوى 30%، وإذا راجعنا أسعار كافة المواد بالأسواق نجد أنها ارتفعت إلى مبالغ طائلة نتيجة التغيرات في سعر الصرف.
ولم ينكر الفيصل أن المواطن يعاني من الغلاء وارتفاع الأسعار في كل المجالات، مقرّاً بأحقيّة مطالبه بأن يكون الدواء رخيصاً، إلا أن المادة الفعالة للدواء لا تأتي من بساط الريح أو من الفانوس السحري بحسب وصفه، لافتاً إلى صعوبة تأمينها بسبب العقوبات والحصار الجائر على سوريا، إضافة إلى الارتفاع العالمي للأسعار، وارتفاع أجور الشحن والنقل، معتبراً أن مصنع الدواء مظلوماً ويبقى هو الحلقة الضعيفة في خضمّ ما يجري.
وفي السيّاق حذّر الفيصل من غياب الدواء الوطني عن الصيدليات، لأن المواطن سيضطر إلى تأمين الدواء الأجنبي عوضاً عنه والذي سيكون إما مهرّباً أو مستورداً، وبالتالي ستكون أسعاره كاوية، متمنياً من وزارة الصحة إعطاء أهمية لهذا الأمر، نافياً ما يشاع عن تصدير الدواء السوري إلى الخارج.
واعتبر الفيصل أن أسعار الأدوية في المعمل الحكومي “تاميكو” منطقية وتناسب الواقع، كون هذا المعمل لديه حرية بالتسعير أكثر من المعامل الخاصة، حيث تجتمع لجنة لتحديد الأسعار فيها ممثل عن وزارة الصناعة وممثل عن الهيئة الإنتاجية في المعمل، فتحسب التكلفة وينظر للتسعيرة من قبل وزارة الصحة، لذا تسعيرتهم حقيقية ولا يوجد فيها مبالغة، أما الأسعار في المعامل الخاصة توضع من قبل وزارة الصحة لذا تعد خاسرة.
تجارة الدواء
من جانبها كشفت معاون وزير الصحة السابقة والأستاذة الجامعية رجوى جبيلي، أن نسبة الفقدان في الأصناف الدوائية تتراوح بين 25-30% بشكل وسطي، لافتة إلى أن غالبية المعامل الدوائية في سوريا قائمة على الصناعات المتوسطة، أي أنها تنتج أصنافاً أرباحها قليلة، لذا فإنها لم تستطع التغلب على ارتفاع أسعار المواد الأولية، وبالتالي تغطية خسارتها.
وأشارت إلى وجود فوضى في الصناعات الدوائية، فلم يعد المعمل يرتّب أولويات الإنتاج حسب حاجة السوق، وإنما أصبح يصنّع الصنف الذي يقدر على تحمّل تكلفة إنتاجه، معتبرة أن ملف الدواء أصبح ملفاً تجارياً بحتاً، وأن معالجة الأمر لم تعد تحتمل التأجيل وخاصة بأن المخزون الاحتياطي من الدواء بدأ ينفد.
واتفقت جبيلي مع رئيس المجلس العلمي للصناعات الدوائية بأن المشكلة الحقيقية تكمن في الحصار الاقتصادي، إضافة إلى صعوبة إدخال المادة الأولية إلى البلاد، ناهيك عن الإجراءات المعقدة للتحويل البنكي، وصعوبة استيراد مواد التغليف والتعبئة من زجاج دوائي وأمبولات وألمنيوم، وبلاستيك لتغليف الكبسولات.
الدواء السوري يغطي 75%من حاجة السوق
وإلى ذلك أشارت الأستاذة الجامعية أن الدواء السوري كان يغطي قبل الحرب 93% من حاجة السوق المحلية، ولكن هذه النسبة انخفضت خلال الحرب إلى 65%، أما الآن ورغم أن سوريا دخلت بمرحلة التعافي الاقتصادي فلم ترتفع النسبة إلى أكثر من 75% بسبب الأزمات الاقتصادية.
ولفتت جبيلي إلى أن إضراب المعامل المنتجة التي يبلغ عددها حوالي 85 معملاً، كان بسبب سياسة التسعير في الوزارة التي لا تتماشى مع انخفاض سعر الليرة السورية، والواقع الاقتصادي والصناعي، مشددة على ضرورة دعم أصحاب المعامل الذين آثروا البقاء في سوريا، لأن التضييق عليهم قد يدفعهم للهجرة، إضافة إلى احتمال قطع أرزاق حوالي 100 عائلة سورية تعتاش من كل معمل، معتبرة أن السياسة الحكومية لا تتفهم الصناعي ولا تتقبل معاناته وهواجسه.
وأكدت جبيلي أن دعم معامل الدواء يجب ألا يؤدي إلى حدوث خلل بالأمن الدوائي للمواطن، مقترحة أن تقدم الدولة حوافز لهؤلاء الصناعيين بشرط تغطية الزمر الدوائية المقطوعة، إضافة إلى تقديم مساعدة لهم برفع أسعار بعض الأصناف بنسبة لا تتجاوز 30%، فيصبح السعر مناسباً للتكاليف.
قطع دواء متعمّد
من جانبه أكد الصيدلي المتابع لقطاع الدواء أنس مسعود، (وهو صاحب صيدلية) أن مشكلة نقص الأدوية وانقطاعها تتكرر كل ستة أشهر مرة، حيث طالب أصحاب معامل الأدوية في شهر حزيران الماضي برفع سعر الدواء، واستجابت حينها الحكومة لذلك، ورفعت السعر بنسبة 40%لبعض الأصناف الدوائية، و37% لأصناف أخرى، و20% لبعض الأصناف.
الباحث السوري إبراهيم الشعار، ابن مدينة حلب، اكتشف علاج مرض السرطان بقنبلة السكر – سبوتنيك عربي, 1920, 05.09.2021
وأشار إلى أن أصحاب المعامل دائماً يستغلّون تجاوب الحكومة ويتعمّدون قطع الدواء في الأسواق للحصول على بعض الامتيازات وطلب مزيد من المكتسبات، فيلتزمون بتزويد الصيدليات بالدواء لمدة شهرين فقط، ويعاد ذات المشهد مرّة أخرى.
الصعوبات أمام المعامل
واستعرض مسعود المشاكل التي تعترض عمل صناعيي الأدوية مثل صعوبة استيراد المواد الأولية الداخلة بتصنيع الدواء، إذ كان الصناعي قبل حدوث الأزمة يستورد الدواء مباشرةً من الدولة المصدَر كالصين أو أوروبا مثلاً، أما الآن ومع العقوبات الاقتصادية والحصار، يضطر صاحب المعمل إلى استيراد هذه المواد عن طريق جهات بديلة مثل دبي وبيروت وكردستان العراق ومؤخراً الأردن، وذلك بعد أن افتتح الجانب الأردني منفذاً بديلاً للتصدير وهو ميناء العقبة على ساحل البحر الأحمر.
وأردف إن العقوبات الأمريكية طالت الشركات العالمية التي تورّد مواد أولية لمعامل الأدوية السورية، لذا أصبح هناك وسيط آخر للتوريد، عن طريق شركات موجودة في الهند أو الصين أو كوريا الجنوبية أو الإمارات، تشتري الدواء وتشحنه إلى دبي ثم عمان، ليصل في نهاية المطاف إلى سوريا، الأمر الذي يضاعف التكاليف أيضاً.
تكاليف ليست بالحسبان
وأشار مسعود إلى أن الارتفاع المفاجئ للكلف التشغيلية، والذي لا يتوافق مع الكلف التي وضعها الصناعي في بداية العام، يزيد المشاكل أمام معامل الأدوية، فمثلاً كان سعر لتر المازوت الصناعي في بداية العام 650 ليرة، وارتفع في الشهر الماضي إلى 1700ليرة، ولكن فعلياً يشتريه الصناعي من السوق السوداء بـ 4 آلاف ليرة، هذا الأمر الذي لم يتم احتسابه عند وضع الموازنة السنوية للمعمل.
واعتبر مسعود أن إجراءات مصرف سورية المركزي من جهة وضع شروط للحصول على تمويل للمستوردات، تعد خطوات محسّنة لواقع سعر الصرف ولكنها في ذات الوقت خانقة للصناعات، ناهيك عن إيقاف منح القروض للمصانع، وإلزام أصحاب المعامل من قبل مؤسسة التأمينات الاجتماعية بتسجيل جميع عمالهم بالتأمينات، في حين كانت تغض النظر عن هذا الإجراء قبل سنوات.
وأضاف: كما كثفت وزارة المالية إجراءات التحصيل الضريبي على المعامل، حيث تضاعفت الضرائب عن الأعوام الماضية، مشيراً إلى ظاهرة هجرة الأيادي العاملة إلى بعض الدول التي توفر لهم أجوراً مضاعفة، الأمر الذي يؤدي إلى انخفاض الإنتاج ريثما يتم إحضار عاملاً جديداً وتدريبه مرة أخرى.
عقبات.. ولكن!
وعلى الرغم من كافة العقوبات التي ذُكرت سابقاً، فهي لا تعد مبرراً للمطالبة برفع الأسعار، بحسب الصيدلي مسعود، مؤكداً أن هذه المعامل ما تزال رابحة بنسبة كبيرة تفوق النسبة المحددة عالمياً لمرابح الصناعات الدوائية والتي يجب أن تتراوح بين 50-100%، واصفاً ما يجري بأنه لعبة بين التجار ضد مصلحة المواطن.
ولفت مسعود إلى أن هذه المعامل تعتمد في أرباحها على التصدير للأسواق المجاورة كمصر واليمن والسودان وإيران، إضافة إلى عشرات الدول التي تستورد الدواء السوري، على الرغم من اشتراط الحكومة السورية إغراق المعمل الأسواق المحلية بالصنف الدوائي الذي يريد تصديره.
وأشار إلى الدعم الحكومي الموجه للصناعات الدوائية حيث أصدر الرئيس السوري بشار الأسد في شهر تموز من العام الماضي، مرسوماً يقضي بإعفاء المستلزمات المستوردة للصناعات الدوائية من الرسوم الجمركية.
بالورقة والقلم
وبيّن مسعود أن الأدوية مسعّرة بشكل يفوق كلف المواد الأولية الداخلة فيها، فمثلاً يباع دواء “الإمبرازول” في سوريا بـ 1400 ليرة، على الرغم من أن سعر الغرام الواحد من المادة الأولية منه يتراوح بين 90-100 ليرة معتمداً في هذه المعلومة على تأكيدات بعض الموردين، بينما يباع نفس الدواء في الكويت بـ 200 ألف ليرة، وهذا دليل على أن الدواء ما يزال مدعوماً من قبل الحكومة السورية، لافتاً إلى أن كافة الأطراف ملامة بهذا الملف وغايتها الكسب على حساب المواطن من جهة وعلى حساب الصيادلة الذين تركتهم نقابتهم المسؤولة عنهم يواجهون أزمة انقطاع الدواء وحدهم من جهة أخرى.
الأمر الذي دفع الكثير من الصيادلة في دمشق إلى عرض صيدلياتهم للبيع، يعرف الصيدلي مسعود 10 منهم وبالأسماء، وذلك بسبب ارتفاع أسعار الأدوية وفقدانها، فمثلاً تبيع المعامل إبرة الالتهاب “روزفليكس” للصيادلة بـ 5000 آلاف ليرة على حين بلغت تسعيرة وزارة الصحة 1500 ليرة، فإذا باع الصيدلي بالسعر الذي اشترى به يتم تغريمه، وإذا امتنع عن شراءها قد يموت المريض الذي يحتاجها.
وتابع: أغلب الصيدليات الآن شبه فارغة من الدواء ومليئة فقط بالمتممات ومستحضرات التجميل.
تباطؤ الحسم الحكومي
واستغرب مسعود عدم حسم ملف أسعار الأدوية من قبل الجهات الوصائية، في الوقت الذي يموت به مرضى كورونا في المشافي، متسائلاً: هل علينا أن نطلب من وباء كورونا الانتظار قليلاً ريثما ينتهي السجال بين وزارة الصحة وصناعيي الأدوية؟.