بروفسور الفيزياء الذي خطفه مسلحو شمال سوريا وفكروا ببيعه
زياد غصن
في شهر تموز من العام 2012، وتحديداً في اليوم الخامس، اقتحم مسلحون في مدينة الباب في ريف حلب منزل البروفسور عدنان مصطفى وزير النفط الأسبق، واقتادوه إلى إحدى القرى في ريف المحافظة الشمالية ليعذبوه وينكلوا به، قبل أن يطلقوا سراحه مقابل فدية مالية دفعتها ابنته المقيمة خارج البلاد.
بعد عودته إلى دمشق محملاً بآلام الخطف الجسدية، وهو الذي لم يكد يهنأ بالإقامة في مسقط رأسه التي قصدها قبل أسابيع قليلة جداً لكتابة بعض أعماله الأدبية، روى البروفسور لكاتب هذه السطور بعضاً من فصول التجربة المريرة، والتي تسببت له بأذية كبيرة في عموده الفقري أثرت على وضعه الصحي حتى وفاته، فيقول إنه أثناء نقله من منطقة إلى أخرى سمع حواراً بين خاطفيه عن إمكانية بيعه لعملاء الموساد المنتشرين على الحدود التركية، فالمخطوف بسيرته الذاتية يبدو صيداً ثميناً، فهو كان وزيراً لقطاع استراتيجي يهم “إسرائيل” أن تعرف كل شيء عنه، وهو الأمين العام المساعد الأسبق لمنظمة الدول العربية المصدرة للنفط، وهو أيضاً أستاذ الفيزياء (المغناطيسية النووية) الزائر في عدد من جامعات العالم المرموقة.
لم تكن عملية الخطف مصادفة بحسب رأي البروفسور مصطفى، فهي جاءت بعد خمسة أيام فقط من نشر صحيفة تشرين الرسمية، وبناء على طلب رئيس تحريرها آنذاك (كاتب هذه السطور)، مقالة له تناول فيها تفاصيل الصراع على البترول السوري، وفيها أكد أنه خلال وجوده في منصبه كوزير للنفط في العام 1975 ” تمكنا من تنفيذ إيماننا بحقيقة وجود البترول والغاز الطبيعي في المياه الإقليمية السورية، وبالعودة إلى وثائق وزارة النفط الثروة المعدنية يمكن التأكد من حقيقة “وجود مصادر مؤملة حقاً” من البترول ما بين أرواد وطرابلس”. وهي معلومة كان قد ذكرها أيضاً في العام 2008 في وقت لم يكن ثمة حديث سوى عن قرب نضوب النفط السوري بحسب المنظمات العالمية.
في المقالة المذكورة يعتقد البروفسور مصطفى أن كل الحروب التي شهدتها المنطقة خلال العقد الأول من القرن الحالي، بدءاً من غزو العراق فالعدوان الإسرائيلي على لبنان فالمحرقة الصهيونية في غزة وأخيراً الحرب على سوريا محركها البترول والاكتشافات الغازية في منطقة البحر المتوسط وتقودها الإمبراطورية البترولية العالمية عبر أدوات كان يفضل دوماً تسميتها بـ”التحالف التلمودي الجديد”.
السيرة الذاتية لهذا الرجل، والذي رحل عن عالمنا في شهر تموز الماضي، كبيرة وفيها الكثير من النقاط المضيئة ليس على المستوى الشخصي وإنما الوطني أيضاً. فالمتخصص في المغناطيسية النووية من جامعة ساوثمبتون البريطانية يحمل ألقاباً أكاديمية وعلمية محلية وعربية ودولية عديدة إلا أن أبرزها أنه كان عضواً في الجمعية الفيزيائية الأوروبية، عضواً في الجمعية النووية الأمريكية، الرجل الدولي لعامي 1992 و1993 المركز البابيلوغرافي الأمريكي، عضو أكاديمية نيويورك للعلوم، مكلف من قبل لجنة نوبيل لترشيح عالم لنيل جائزة نوبيل في الفيزياء لعام 2004، إضافة إلى مهامه وألقابه المحلية والعربية، حيث كلف وزيراً للنفط والثروة المعدنية في العام 1974، وأميناً عاماً مساعداً لمنظمة الأقطار العربية المصدرة للنفط أوبك 1979.
ألف الراحل أكثر من عشرة كتب في الفيزياء والطاقة، ونشر ما لا يقل عن ألف بحث في الفيزياء، الطاقة، التنمية، إدارة وتنظيم العلم والتقنية. كما أنه حرر الصيغة العربية للتقرير الدولي لبحوث الطاقة الصادر عن المركز الدولي لبحوث التنمية –كندا، وله الفضل في إرساء علاقات تعاون بحثية متبادلة بين مجتمع العلم العربي ومؤسسات ومراكز العلم والتقنية الدولية والأوروبية منها خاصة، حيث كان طموحه النهوض بالقطاع الطاقوي العربي ليصبح رائداً على المستوى العالمي، فكل الإمكانيات البشرية والمادية والفنية موجودة ولا ينقصها سوى قرار عربي يعلي المصالح الوطنية والقومية لتحل محل مصالح التحالفات المشبوهة والارتهان للغرب.
حاول خلال توليه بعض المهام التنفيذية، سواء داخل البلاد أو خارجها، أن يحقق اختراقات هامة في مجال الطاقة عبر طرحه مشروعات رائدة، فكان أن نجح في بعضها وتعثرت أحلامه في بعضها الأخر لظروف وأسباب مختلفة.
فمثلاً سعى عند توليه منصب وزير النفط، ويوم كان “إتقان الحفر البترولي العميق” في بدايات تقدمه، إلى تكون فريق عمل خاص للحفر العميق ويشهد بذلك قرار الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة الرئيس كورت فالدهايم بتقديم مساعدة مالية لا تقل عن عشرة ملايين دولار لدعم الفكرة، فضلاً عن الجهد الكبير الذي بذله آنذاك ممثل سوريا في الأمم المتحدة الدكتور موفق العلاف.
وبعد التغير الوزاري الذي كان مدخلاً لانتخابه أميناً عاماً مساعداً لمنظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول انقطع عن متابعة الملف فكان اختفت الفكرة والمشروع لأسباب ما.
أما عندما كان في منصبه بمنظمة الأوابك، فقد نجح الراحل في متابعة تحقيق دراسة مكثفة حول إنشاء حوض جاف لإصلاح وبناء السفن على الشاطئ السوري تجسيداً لمشروع عربي مشترك في إطار منظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول “أوابيك”، لكن هذا المشروع لم يخرج إلى حيز التنفيذ بسب ما سماه الراحل في إحدى مقالاته “عامل التآمر على سورية” وبناء على ذلك استقال من منصبه سعياً نحو تنفيذ المشروع لكن من دون جدوى.
كغيره من النخب الفكرية والعلمية في سورية، قضى البروفسور مصطفى أيامه الأخيرة في منزله بدمشق التي أحبها، ودافع عنها، وسعى جاهداً لإعلاء مؤسساتها وسمعتها العلمية.. لكن قضى تلك الأيام وحيداً إلا من بعض الأفياء الأصدقاء، وفي أخر حديث له مع كاتب هذه السطور قبل حوالي أسبوع من رحيله كان جل ما يزعجه هو نكران الجميل من جامعته وزملائه وطلابه… لروحه كل الرحمة.
أثر برس