أفغان ومصريون في أستراليا.. وقائع “تغريبة” منسية!
لا يعرف الكثيرون إلا القليل عن أستراليا، لأسباب عديدة ليس أقلها البعد الجغرافي. أما دور “الأفغان” في بناء أستراليا في القرن التاسع عشر فلا يعرفه إلا المتخصصون.
عمل من أطلق عليهم منذ القدم في هذه القارة (أستراليا) اسم “الأفغان” في مجال بناء خطوط التلغراف والسكك الحديدية، لكنهم تعرضوا في الغالب للاحتقار والاضطهاد ومحاولة طردهم بعد أن أسهموا في وضع أسس هذه البلاد المترامية الأطراف.
ويوجد في الوقت الحالي قطار ينطلق من أديلاند، عاصمة جنوب أستراليا إلى مدينة أليس سبرينغز في قلب القارة يسمى “The Ghan”.
هذا الاسم المحلي تحريف لمن أطلق عليهم اسم “الأفغان”، وهم حداة الإبل الذين جلبوا من عدة مناطق في الشرق الأوسط وآسيا، وكان بينهم مصريون وأفغان وهنود.
عمل هؤلاء في أشد ظروف الطقس قسوة في مجاهل استراليا في ذلك الوقت، وحملوا الحضارة إلى قفارها وصحاريها ووديانها، وظلوا مع ذلك منبوذين على أرض بعد أصبحت لعدد كبير منهم وطنا بديلا، مثلهم في ذلك مثل بقية الأوروبيين القادمين لهذه البلاد.
مناطق أستراليا النائية لمن لا يعلم، تعد واحدة من أكثر المناطق قسوة على كوكبنا، والقسم الداخلي من هذه القارة الجنوبية يتميز بصحارى وسهوب لا نهاية لها، تسكنها حيوانات الكنغر، والإيمو، وكلاب الدنغو، والإبل التي جاءت لاحقا، وخاصة من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لتسهم بدور فاعل في تشييد هذه البلد.
هذه الجمال ذات السنم الواحد، سفينة الصحاري، كما تعرف في الأدبيات العربية، وصفها الرحالة بورك وويلز خلال مغامرة لعبور أستراليا من الجنوب إلى الشمال بدأت في أغسطس من عام 1860 قائلا: “ركوب الجمل كان أكثر متعة مما توقعت. أجمل بكثير من هزات ظهر الحصان. إنها حيوانات هادئة للغاية، وعلى عكس الخيول، لا تتطلب تقريبا أي رعاية”.
تلك الرحلة على ظهور الإبل انتهت بطريقة مأساوية أثناء رحلة العودة حيث لقي جميع افرادها مصرعهم، عدا شخص واحد، لكنها كانت بمثابة بداية الانتشار الواسع للإبل ذات السنام الواحد في أستراليا، والتي أدت بدورها إلى ظهور مجموعة عرقية جديدة في القارة الجنوبية، هي “الأفغان”.
يعود أقدم ذكر للإبل في تاريخ أستراليا إلى فبراير من عام 1837. وتلقى حاكم نيو ساوث ويلز، ريتشارد بورك، في وقت لاحق عرضا من مرؤوسيه لإحضار جمال إلى القارة. دار جدل حول الفكرة لفترة طويلة وتسبب في نقاش كبير داخل المجتمع، بما في ذلك في صحافة ذلك العصر.
على سبيل المثال ثار جدل واسع في عام 1839 بين صحيفتي سيدني مورنينغ هيرالد، والمونيتور. موقف الأولى كان داعيا ومناصرا لفكرة استيراد الإبل، مستندا إلى آفاق من الفوائد الاقتصادية، فيما سخرت الثانية من الفكرة، ووصفتها بأنها سخيفة، مبررة ذلك بأن أولئك الذين سيتوجب إحضارهم مع الإبل من الشرق الأوسط وآسيا، سيشكلون تهديدا للمجتمع الإنجليزي.
المستوطنون الأوربيون الأوائل استقروا على السواحل الخصبة لأستراليا، ولم يفكروا لفترة طويلة من الزمن في استصلاح الأراضي القاحلة التي لا حياة لها في الجزء الأوسط من القارة، وذلك لأن الرحلة إلى تلك الصحراء كانت تشكل مجافزة خطرة للغاية، وكان الاتصال بين المدن الواقعة على سواحل مختلفة يتم فقط عن طريق البحر، وكان على السفن أن تبحر آلاف الكيلومترات حول القارة.
تغير الوضع منذ عام 1846، حين نفق أول جمل أسترالي، وكان يدعى “هاري” بشمال أديلايد، تزامن ذلك مع اكتشاف رواسب من النحاس والغالينا في منطقة جبل ريماكبل .
منذ ذلك الحين فصاعدا، أصبحت الأرض البور، التي كانت تُعتبر قاحلة وعديمة الفائدة، محظ اهتمام من قبل الحكومة الأسترالية ورجال الأعمال، وكان ذلك لاكتشاف الذهب إلى جانب النحاس.
ظهرت الحاجة إلى الجمال في استراليا وذلك لأن الخيول التي استخدمها الأستراليون لاستكشاف الأجزاء “الخضراء” من القارة، لم تكن مناسبة للصحارى والسهوب الواسعة.
في الأراضي القاحلة، كانت الخيول التي أصبحت استراليا من أكبر مصدريها، عديمة الفائدة إلى حد ما، لقد قاست مثل البشر من حرارة لا تطاق ونفقت في الرحلات الطويلة.
وهنا أصبحت الجمال، التي كان العمل جار ببطء على جلبها إلى القارة، في متناول اليد أكثر من أي وقت مضى.
لم تكن الإبل بحاجة إلى التكيف مع المناخ المحلي والغذاء، وسرعان ما أصبحت أهم مساعد ورفيق للإنسان في هذه البقاع النائية.
شاركت الإبل العربية منذ ستينيات القرن التاسع عشر في الرحلات الاستكشافية العلمية ونقل البضائع والبريد ومواد البناء. كما تم استخدامها في بناء أهم خطوط الاتصالات في أستراليا والمتمثل في خط التلغراف البري العابر للقارات الذي يربط مدينتي داروين وأديلايد على طرفي القارة البعيدين. السكك الحديدية من دون الجمال وحداتها، ما كانت لتكون مثل هذه المشاريع الطموحة مجدية ممكنة من حيث التكلفة.
حدى الإبل في استراليا، أشخاص قدموا من مناطق عديدة مثل أفغانستان وباكستان والهند وشمال إفريقيا، وكان بينهم رعاة جمال من البشتون والبلوش والسند، وقرب نهاية القرن قدم إلى استراليا المئات من هؤلاء. وكان يأتي رعاة الإبل بعقد مدته ثلاث سنوات، لكنهم لم يحصلوا على أي حقوق هجرة في العالم الجديد، وبعد وفائهم بالتزاماتهم، يجرى طردهم من البلاد.
وسرعان ما أطلق الأستراليون البيض على رعاة الإبل، اسم “الأفغان”، أو ببساطة “ألغان”، على الرغم من أنهم لم يكونوا أفغانا فقط ، بل هم هنود ومصريون، وحتى أتراك. وهؤلاء في أغلب الأحيان، لم يكونوا يتحدثون الإنجليزية على الإطلاق، أو يعرفون بعض الكلمات فقط. بالإضافة إلى ذلك، كان معظم الـ”ألغان” مسلمين ويعيشون في مجتمعات معزولة وعلى مسافة من مستوطنات البيض.
في الشرق، انتشرت منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، شائعات بأن عقد عمل في أستراليا يمكن أن يجلب ثروة، وذهب الكثيرون إلى هناك، على الرغم من المخاطر والعزلة التي كانت تنتظرهم.
ومع كل ذلك، وُجدت أماكن تعاون فيها “الأفغان” والأستراليون البيض بشكل جيد. على سبيل المثال أصبحت بلدة موراي، التي تقع على بعد 600 كيلومتر شمال أديلايد، واحدة من أهم النقاط في المنطقة وعاصمة رعاة الإبل في أستراليا. وتقع هذه البلدة على مفترق عدة طرق تجارية، واستغلت لسنوات عديدة كقاعدة لإعادة الشحن، حيث استقرت القوافل وتلقت الإمدادات فيها.
في تلك البلدة، في ثمانينيات القرن التاسع عشر، بنى رعاة الإبل أول مسجد، وارتبط هذا المكان باسم أحد أشهر “الأفغان” في أستراليا، وهو هندي يدعى، درويش بيجا بالوش، كان قد وصل أستراليا في عام 1890.
المصدر: lenta.ru