المصالحة التركية – الأرمينية.. روسيا العدو المشترك!
حسني محلي
فاجأ وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو الجميع عندما تحدث عن تعيين ممثل خاص للحوار مع أرمينيا، بعد أن أقدمت يريفان على خطوة مماثلة بتعيين ممثلها للحوار المباشر مع أنقرة “من دون الحاجة إلى وساطة روسية”، والقول للوزير جاويش أوغلو. ويعكس ذلك بكل وضوح نيّة الطرفين التركي والأرميني تطبيع العلاقات بينهما، بعيداً عن تدخلات الأطراف الآخرين وتأثيراتهم، وفي الدرجة الأولى روسيا ثم إيران.
فبعد الهزيمة التي مُنيت بها يريفان في إقليم كاراباخ بفضل الدعم التركي والإسرائيلي لأذربيجان، لم يتردّد رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان في اتهام موسكو بعدم مساعدتها لأرمينيا في هذه الحرب، وهو ما أدّى إلى فتور وتوتر جديّ بين الأخيرة وروسيا، واستغل باشينيان هذا التوتر في حملته الانتخابية التي خرج منها منتصراً، على الرغم من دعم موسكو لمعارضيه، السياسيين منهم والعسكر.
وجاء انتصار باشينيان في الانتخابات التي نُظمت في الـ20 من حزيران/يونيو الماضي ليدفع الرئيس الأميركي جو بايدن إلى استغلال ذلك في حربه النفسية والسياسية ضد روسيا، فأوصى الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، خلال لقائه به في روما في الـ31 من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، بالحديث مع باشينيان، ومعالجة كل الخلافات بين البلدين، عبر الحوار المباشر بين الطرفين.
توصية بايدن التقت من دون شك مع حسابات الرئيس إردوغان في القوقاز، بعد أن جعل من أذربيجان موطئ قدم استراتيجي له في المنطقة، مع المزيد من علاقات التعاون الشامل في جميع المجالات مع جورجيا، الدولة الأخرى في القوقاز، والتي شهدت علاقاتها هي أيضاً مع موسكو توتراً خطراً، بعد أن تدخل الجيش الروسي في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، خلال حرب آب/أغسطس 2008، فأعلنتا استقلالهما عن جورجيا بدعم روسي، كما هي الحال في مقاطعتي لوغانسك ودونيتسك شرق أوكرانيا.
الرئيس إردوغان يعرف نقاط الضعف الكثيرة لدى باشينيان الذي تعاني بلاده من مشاكل اقتصادية ومالية صعبة جداً، ويريد أن يساعده لتجاوز هذه المشاكل، مقابل دعم مباشر وغير مباشر منه لمشاريعه ومخططاته الاستراتيجية في القوقاز. ويعرف الجميع أن هذه المخططات والمشاريع تستهدف روسيا في الدرجة الأولى، كما هي الحال في آسيا الوسطى، حيث الجمهوريات الإسلامية ذات الأصل التركي.
ويخطط إردوغان لمساعدة يريفان في فتح الحدود البرية والجوية معها، والسماح بالتجارة عبر الحدود المشتركة، وبالتالي تخفيف شروط العمل والإقامة بالنسبة إلى نحو خمسين ألف أرميني، ومعظمهم من النساء، يعملون الآن في تركيا. ويعرف الجميع أن هذه المساعدات البسيطة، إضافة الى تشجيع رجال الأعمال الأتراك على العمل في أرمينيا التي تفتقر إلى أبسط مقوّمات الحياة الاقتصادية (ليس هناك صناعة وزراعة وتجارة) ستشجّع الأرمن عموماً على نسيان ذكرياتهم التاريخية السيّئة مع الأتراك في ما يتعلق باتهامهم الدولة العثمانية بإبادة مليون ونصف مليون أرمني إبّان الحرب العالمية الأولى. فالأرمن، وعددهم لا يتجاوز ثلاثة ملايين، وقسم كبير منهم يعمل في الخارج، يعيشون ظروفاً اقتصادية ومالية صعبة جداً، خاصة بعد هزيمة كاراباخ، ووضع العراقيل الأذربيجانية أمام التجارة الإيرانية مع أرمينيا. كما أن قدرات أرمينيا الاقتصادية والعسكرية لا ولن تسمح لها بمواجهة أذربيجان، بعد الدعم العسكري التركيّ لها، عبر القواعد الجوية والبرية هناك.
تصريحات الوزير جاويش أوغلو من المتوقع لها أن تحمّل في طيّاتها العديد من المفاجآت بعد فتح الحدود بين البلدين، وقد تلحق بها زيارة باشينيان لتركيا، كما زار الرئيس السابق عبد الله غول يريفان في أيلول/سبتمبر 2008 لحضور مباراة كرة القدم بين المنتخبين التركي والأرميني، وسط هتافات البعض من الجمهور ضده وضد تركيا، مع التذكير بالإبادة الأرمنية، ومن دون أن تمنع هذه الهتافات الطرفين التركي والأرميني من التوقيع في الـ 10 من تشرين الأول/أكتوبر 2009 في زيوريخ على بروتوكول للتعاون المشترك وبوساطة سويسرية، لكنه لم يحقّق أهدافه، وكان أهمها تبادل السفراء وفتح الحدود المشتركة وإطلاق الرحلات الجوية. وكان السبب الرئيسي في فشل هذا البروتوكول هو عدم تراجع الجانب الأرميني عن موقفه في ما يتعلق بالإبادة الأرمنية، واقترح الجانب التركي آنذاك تشكيل لجنة أكاديمية مشتركة تُعدّ دراسة شاملة حول هذا الموضوع، بعد الاطلاع على كل الوثائق الرسمية في أرشيف الدولتين وأرشيف الدول المعنية، وأهمها فرنسا وبريطانيا وروسيا وألمانيا وأميركا.
باشينيان بدوره قد لا يتردّد في الحوار الإيجابي مع أنقرة، أولاً للانفتاح عبرها على أوروبا، وبالتالي لتساعده على دعم موقفه للانتقام من موسكو التي يحمّلها مسؤولية هزيمته في حرب كاراباخ. كما أن الانفتاح على أنقرة سيساعده في تحقيق مكاسب اقتصادية كبيرة، وخاصة إذا نجح إردوغان في مخططاته لإقامة تكتلات اقتصادية في القوقاز تضمّ تركيا وأذربيجان وأرمينيا بل وحتى روسيا وإيران، على أن تكون تركيا هي المحرك الرئيسي لمثل هذا التكتل، ما دام غاز أذربيجان وبترولها يصلان تركيا عبر أراضي جورجيا، كما يصل الغاز الروسي تركيا ومنها الى أوروبا، على أن يبقى الغاز الإيراني للاستهلاك التركي الداخلي.
ويريد الرئيس إردوغان لمثل هذا التكتل الاقتصادي أن يساعده في جعل تركيا ممراً رئيسياً للعديد من مشاريع الخطوط الحديدية بتسمياتها المختلفة، التي تهدف إلى ربط أوروبا بآسيا وحتى بالصين، وهو ما لن يتحقق إلا بالمرور عبر أراضي أرمينيا وجورجيا معاً. كما يتمنى إردوغان لهذه المشاريع أن تدعم استراتيجيته القومية في آسيا الوسطى، ولا يمكن لها أن تتحقق إلا عبر التفوّق في القوقاز، وهو ما يتطلب كسب أرمينيا وجورجيا المجاورة له حتى يتسنّى له الامتداد شرقاً صوب أذربيجان بعمقها الجغرافي والقومي والتاريخي في إيران. ويفسّر ذلك الفتور والتوتر في العلاقة بين أذربيجان وإيران خلال أزمة كاراباخ، بعد أن شنّ الإعلام الموالي لإردوغان والأوساط القومية حملة عنيفة ضدّ طهران بحجّة أنها تدعم الأرمن.
ويبقى الرهان على موقف موسكو التي لم تعد تخفي انزعاجها من سياسات أنقرة، ولكن من دون أن يتسنى لها أن تفعل أي شيء بعد أن فقدت الكثير من مقوّمات المساومة مع الرئيس إردوغان في سوريا وأذربيجان وأوكرانيا، والآن أرمينيا، ولاحقاً في مواقع وساحات أخرى، ويُعدّ إردوغان من أجلها ما استطاع من قوة!
ولكن ما عليه في هذه الحالة إلا أن يُقنع باشينيان والرأي العام الأرميني بضرورة التخلي عن مقولاتهما في ما يتعلق بالإبادة الأرمنية، وهو ما لن يكون صعباً في ظل الواقع الأرميني الداخلي والمعطيات الحالية (التذكير بصفقة القرن بين “إسرائيل” والأنظمة العربية) التي تجمع حسابات أنقرة ويريفان في خندق واحد، ما دام العدو مشتركاً بالنسبة إلى إردوغان وباشينيان، وإلا فلِمَ استعجل لمثل هذه المصالحة بعد هزيمة كاراباخ واعتراف الرئيس بايدن في نيسان/أبريل الماضي بالإبادة الأرمنية؟!
الميادين