السبت , نوفمبر 23 2024
الانهيار يلحق المناطق المحتلّة شمال سوريا

الانهيار يلحق المناطق المحتلّة شمال سوريا

بينما يمرّ الاقتصاد التركي بواحدٍ من أكثر المنعطفات قساوة خلال العقدَين الماضيَين، في ظلّ التدهور المتواصل في قيمة الليرة التركية مقابل الدولار، يشكّل الشمال السوري، الذي تتقاسم السيطرة عليه فصائل عدّة تابعة لتركيا، الحلقة الأضعف في هذا المشهد، في ظلّ اعتماد تلك المناطق على الليرة التركية في معاملاتها منذ نحو عامَين، ليُطاول الانهيار الأخير أسس الحياة كافة، ويجعل من الحصول على رغيف خبز مهمّة تزداد صعوبةً مع مرور الوقت

في شهر حزيران من العام الماضي 2020، وبينما كان الاقتصاد السوري يمرّ بفترة حرجة، تراجعت خلالها الليرة السورية مقابل الدولار بشكل غير مسبوق، قرّرت الفصائل التي تسيطر على الشمال السوري الذي تديره «حكومتان»، إحداهما تابعة لـ«الائتلاف المعارض» والثانية لـ«هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة)، التحوّل إلى الليرة التركية في التعاملات اليومية بذريعة أنها «أكثر استقراراً»، الأمر الذي مثّل حينها قفزة كبيرة في مسار «تتريك» الشمال السوري، الذي تغوّلت فيه أنقرة، ومدّت نفوذها على جميع أصعدته، الأمنية والاقتصادية والتعليمية. وتزامن هذا التحوّل مع تكثيف عمليات إعادة السوريين من تركيا، وتزايد المشاريع العمرانية التي تولّتها شركات تركية بدعم قطري، بالتعاون مع الفصائل التي تسيطر على تلك المناطق، وأبرزها «هيئة تحرير الشام»، ضمن خطّة تهدف إلى تجذير حزام تسكنه قوى تابعة لتركيا قرب المناطق الحدودية، والتي شهدت عمليات ترحيل للسكّان، وتغييرات ديموغرافية عديدة خلال السنوات الماضية.
مقالات مرتبطة

شتاء «المعجزة التركية» انهيار بلا قاع محمد نور الدين

ورسمت خطوط التماس التي فرضتها الحرب، وجمّدتها توافقات «مسار أستانة»، الذي رعته روسيا وتركيا إيران، حدوداً لمناطق السيطرة، عزلت بشكل كبير مناطق الشمال السوري عن دمشق، باستثناء بعض المعابر الإنسانية ومعابر التهريب، الأمر الذي ساهم بدوره في إلقاء الشمال في الأحضان التركية، وربطه بأنقرة بشكل مباشر بحثاً عن المواد الغذائية والطبّية وغيرها. إذ عملت الفصائل التي تسيطر على تلك المناطق على خلق منظومات لضبطْ الاقتصاد، مرتبطة بشكل مباشر بتركيا، إضافة إلى إنشاء شركات احتكرت مواد عدّة، مثل المشتقات النفطية التي احتكرتها «هيئة تحرير الشام» في مناطق سيطرتها، عن طريق شركة «وتد». بدورها، أقامت تركيا خلال الأعوام الماضية مكاتب خاصة لشراء الحبوب (القمح والشعير) من الشمال السوري بأسعار بخسة، ونقله إلى الأراضي التركية، ليُعاد بيعه مرّة أخرى بأسعار مرتفعة، مرتبطة بسعر صرف الدولار لاحقاً.

تُعتبر مخيمات النازحين المنتشرة قرب الحدود التركية الأكثر تضرّراً

ولم تَظهر التبعات الاقتصادية للتحوّلات التي شهدها الشمال السوري، بشكل مباشر، وإنّما تراكمت باطّراد لتَظهر فجأة مع أوّل تراجع في الاقتصاد التركي، حيث ارتفعت أسعار المشتقات النفطية ستّ مرّات خلال أقلّ من شهرَين، قبل أن تقوم «هيئة تحرير الشام» بتسعيره بالدولار بشكل مباشر، عامدةً إلى تعليق لوحات إلكترونية تتابع سعر الصرف بشكل لحظي. كذلك، ارتفعت أسعار الخبز بشكل كبير، كما ظهرت اختناقات في تأمين المادة في ظلّ أزمة الوقود والدقيق التي ضربت تلك المناطق، لتتضاعف الأسعار مرّات عدة. وعلى الرغم من تراجُع قيمة الليرة التركية بشكل كبير، وملامستها عتبة الـ17 ليرة مقابل الدولار، لم تطرأ على الأجور أيّ تعديلات حقيقية، باستثناء بعض التعديلات الصغيرة التي جاءت مدفوعة بتظاهرات وإضرابات في مناطق وقطاعات عدة، بينها مثلاً قطاع التعليم الذي شهد إضراباً انتهى برفع الأجور بنحو 30%. أيضاً، ظهرت آثار الاضطراب الاقتصادي على الأسواق، حيث أُغلقت معظم المحلّات، وتوقّفت الأنشطة التجارية، فيما أصبحت الزراعة غير مجدية اقتصادياً في ظلّ ارتفاع أسعار المحروقات وصعوبة تأمين البذار والأسمدة وارتفاع تكاليفها أيضاً.

وإضافة إلى الأزمات المعيشية الكبيرة التي تشهدها مناطق سيطرة الفصائل، تُعتبر مخيمات النازحين المنتشرة قرب الحدود التركية الأكثر تضرّراً، في ظلّ تحكُّم أنقرة، والمجموعات التابعة لها، بعمل المنظّمات الإنسانية، واعتماد الليرة التركية في تقديم المساعدات، وانعدام فرص العمل، الأمر الذي وضع مئات آلاف السوريين، الذين يعيشون في مخيّمات لا تتوافر فيها ظروف الحياة الإنسانية، على حافة الانهيار. ودفعت الظروف الحالية البعض إلى العودة للتعامل بالليرة السورية، والتسعير بالدولار الذي يسجّل شحّاً كبيراً، في ظلّ عمليات التحويل الكبيرة التي قام بها المقتدرون.

وعلى الرغم من الظروف المعيشية الصعبة، وارتباط مناطق الشمال السوري بالاقتصاد التركي، نتيجة خطط وضعتها ونفّذتها أنقرة، لا تبدي الحكومة التركية أيّ ردود فعل تجاه تلك الأزمات، لتترك الفصائل التي تسيطر على المناطق المذكورة أمام مسؤولية التعامل معها، ما خلق بدوره أزمات جديدة في ظلّ عدم توافر مقومات حقيقية للاقتصاد. ويؤكد ذلك تقرير للأمم المتحدة أصدرته في نهاية شهر آب الماضي، يفيد بأن «91 في المئة من السكان العاملين في شمال غربي سوريا هم من أسر تعيش فقراً مدقعاً، ما يؤشّر إلى ضعف وضع الاقتصاد المحلي»، خصوصاً أن الفصائل التابعة لتركيا هناك عملت، ولا تزال، على زيادة ثروتها، الأمر الذي يضع الشمال السوري أمام كارثة إنسانية كبيرة، ربّما تُعتبر الظروف الحالية، على قساوتها، مجرّد بداية لها.

علاء حلبي – الأخبار