مؤامرة كازاخستان الكبرى.. لماذا تدخّل بوتين فوراً؟
الحدود المشتركة بين كازاخستان وروسيا لا تقلّ عن سبعة آلاف كم، وبعمق جغرافي يمتد على مساحة مليونين و725 ألف كم2، ولا يمكن لأي دولة في العالم أن تضبط أمنها وتمنع عمليات التسلل والإرهاب عبرها. فهذا البلد المسلم، بعدد سكانه البالغ 19 مليوناً (20% منهم من أصول روسية)، استقلّ بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، حاله حال الجمهوريات الإسلامية الأخرى في آسيا الوسطى، وهي تركمانستان وقرغيزيا وأوزبكستان وطاجيكستان.
وكانت كازاخستان، وما زالت، من أهم دول المنطقة نتيجة أسباب متعدّدة، منها تلك التي ذكرتُها أعلاه. تُضاف إليها الثروات الطبيعية الضخمة التي تمتلكها، وتقدَّر قيمتها بـ 12 تريليون دولار، وأهمها اليورانيوم والكروم والرصاص والزنك والمغنزيوم والنحاس والفحم والذهب والحديد والألماس والبترول والغاز. والأهم من كل ذلك، أن هذا البلد يجاور الصين، ويتقاسمان حدوداً طولها 1500 كم، ويجاور أيضاً سائر الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى، والمعروفة بحديقة روسيا الخلفية، على طول حدود تمتدّ نحو 3800 كم.
بعبارة أخرى، فإن كازاخستان هي بوابة روسيا للوصول إلى هذه الجمهوريات، ومعها أذربيجان. وهي جميعاً حلم الرئيس التركي إردوغان، وقبله الرئيس الراحل تورغوت أوزال، الذي رفع عام 1991 شعارَ “أُمّة تركية واحدة من الأدرياتيكي (البوسنة) إلى سدّ الصين العظيم”. وجمع أوزال، وبعده الرؤساء الأتراك الآخرون، زعماءَ هذه الدول أكثر من مرة، وكانت آخرها قمة منظمة الدول التركية في إسطنبول، في الـ 12 من تشرين الثاني/نوفمبر الماضي.
وتضمّن البيان الختامي للقمة أكثر من 120 بنداً، تتحدث عن آفاق التنسيق والتعاون بين الدول الأعضاء في منظمة الدول التركية في آسيا الوسطى وجنوبي القوقاز، حيث أذربيجان، وحدودها مشتركة مع جورجيا التي لتركيا علاقات مميزة بها، ومع أرمينيا التي تحاول تركيا فتح صفحة جديدة في علاقاتها بها، بعد ما حقّقته من انتصار كبير في أذربيجان، سياسياً وعسكرياً، خلال حربها في كاراباخ وبعدها.
كان هذا الانتصار ومساعي الانفتاح التركي على منطقة القوقاز، وقبلها التعاون في عدد من المجالات مع أوكرانيا ودول البلطيق وشرقي البلقان، من أهم أسباب الفتور والتوتر بين أنقرة وموسكو، التي تشهد علاقاتها بتركيا توتراً أكبر بسبب الوضع في ليبيا وسوريا، وإدلب بالذات. ولا يُخفي المسؤولون الروس، بمن فيهم الرئيس بوتين ووزير خارجيته لافروف، قلقهم وانزعاجهم من سياسات أنقرة في أوكرانيا بالذات، مع استمرار أحاديث الرئيس إردوغان عن ذكريات التاريخ العثماني.
ويعرف الجميع أنّ إردوغان لا ولن يتراجع عن حلمه بإحياء هذه الذكريات، منذ أن خرج أجداده من آسيا الوسطى، ووصلوا إلى وسط أوروبا ومعظم الجغرافيا العربية، بعد أن حاربوا الروس في أكثر من معركة، وبَنَت الصين سدَّها خوفاً من جنكيز خان وجيشه المغولي.
إذا تركنا كل هذه الذكريات التاريخية جانباً، فإن الاهتمام التركي بآسيا الوسطى والقوقاز، في جوانبه القومية والدينية، يحمل في طياته أيضاً عدداً من المعاني الاستراتيجية، والتي يريد لها الرئيس إردوغان أن تجعل تركيا دولة عظمى تتحدّى الدولتين العُظمَيَين، الحليف أميركا والعدو التقليدي روسيا، بسبب ما في هذه الدول الإسلامية من ثروات طبيعية عظيمة جداً.
ويفسّر ذلك اهتمام الرئيس إردوغان بأفغانستان، ومحاولاته إرسال جيشه بعد الانسحاب الأميركي من هناك. وتحظى تحركات إردوغان هذه بالرضا والدعم من واشنطن، التي تريد لأي تحرك تركي، أياً يكن حجمه، أن يزعج موسكو، ويخلق لها عدداً من المشاكل الخارجية، والتي ستنعكس على الواقع الصعب أساساً في روسيا، اقتصادياً واجتماعياً.
جاء القرار الروسي السريع، والقاضي بالتدخُّل فوراً في كازاخستان، بعد أن تذكّر الرئيس بوتين المؤامرات الكبرى التي سعى من أجلها أعداء روسيا خلال الثورات الملوّنة في جورجيا وأوكرانيا عام 2004، وفي قرغيزيا عام 2010، وفي جورجيا مرة أخرى عام 2008، ثم في أوكرانيا من جديد عام 2014، وأخيراً في روسيا البيضاء العام الماضي، مع استمرار مساعي واشنطن وحلفائها لتضييق الحصار على روسيا في البحر الأسود.
والرئيس بوتين، الذي اعترف بخطئه في دعم القرار الدولي الخاص بليبيا في شباط/فبراير 2011، وهو ما أدّى إلى ما أدّى إليه في هذا البلد الاستراتيجي، يقول المحلّلون الروس إنه نادم على ما قدّمه من تسهيلات واسعة لتركيا في سوريا، على الرغم من المكاسب التي حققتها روسيا هناك.
ويفسّر ذلك الردَّ الروسي السريع على مؤامرة الغرب في أوكرانيا، بحيث استعادت روسيا شبه جزيرة القرم إليها، كما حققت توازناً استراتيجياً عبر تحالفها مع مقاطعات شرقي أوكرانيا، وسكانها من أصل روسي. كما لم تتهرّب موسكو قبل ذلك في كسب أوسيتيا الجنوبية، ومعها أبخازيا، إلى جانبها عام 2008، عندما حاولت واشنطن، ومعها “تل أبيب”، خلق المشاكل لروسيا عبر جارتها الجنوبية جورجيا، ثم أرسلت جيشها العام الماضي إلى كاراباخ.
ومن دون أن تتجاهل موسكو حجم المكاسب التي حصدها الرئيس إردوغان، عبر التسهيلات الروسية التي حصل عليها في سوريا، وحقّق من خلالها تفوقاً استراتيجياً في عدد من المناطق في الشرق الأوسط وأفريقيا والبلقان والبلطيق والقوقاز، والآن في آسيا الوسطى القريبة من أفغانستان، أو المجاورة لها، بكل سيناريوهاته المحتملة. كما يدرك الرئيس بوتين جيداً أن واشنطن، عبر حلفائها من الدول الإسلامية، كباكستان وقطر وتركيا والإمارات، لن تتخلّى عن ورقة الإسلام، السياسي منه والمسلح. كما هي تخطّط، وستخطّط، كي يكون هذا الإسلام سلاحها المستقبلي في الداخل الروسي، حيث يعيش هناك أكثر من عشرين مليون مسلم، وتقول أنقرة إن معظمهم من أصول تركية، كما أن الأوساط القومية التركية على اتّصال دائم بهم، سراً كان أو علناً.
كما لن تتردّد واشنطن في استغلال مقولات إردوغان القومية والدينية، وتشجيعه على مزيد منها، عبر إعلامها وأبواقها وخلاياها النائمة في آسيا الوسطى والقوقاز، وحتى في البلقان والشرق الأوسط، وصولاً حتى إيران.
ويبقى الحديث عن “ربيع تركي” تريد له واشنطن ومَن معها أن يشغل روسيا، ويحدّ تأثيرها في مناطق التنافس الأخرى، كأفريقيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط. وقد يفسّر ذلك مساعي إردوغان، بتشجيع أميركي، للمصالحة مع أعدائه اللدودين في الإمارات والسعودية ومصر و”إسرائيل”. فواشنطن تريد للرئيس إردوغان أن يكون له الدور الأهمّ في سيناريوهات “الربيع التركي” الجديد، كما كان له في “الربيع العربي”، الذي كان يفتقر إلى شعارات قومية وعاطفية، ستتحوّل إلى واقع عملي في جمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز الإسلامية ولدى شعوبها من أصل تركي. وبات واضحاً أن هذه الدول تحوّلت، وستتحوّل، إلى ساحة لصراعات خفية وعلنية بين عدد من الأطراف، وأهمها روسيا والصين (التي تعتمد على الغاز والنفط من كازاخستان وتركمنستان)، وتركيا التي ستحظى بمزيد من الدعم الغربي، ما دامت الأوراق التي تمتلكها باتت قوية، وقد تزداد قوة عبر إقامة أنقرة علاقاتِها بعواصم الدول المذكورة والقوى الموجودة فيها، وتطوير هذه العلاقات.
فالجميع يعرف أن ذلك لن يكون صعباً، لأن حكّام هذه الدول ليسوا مغايرين لإردوغان ونهجه غير الديمقراطي. كما أن ذكريات شعوب هذه الدول مع روسيا، وقبلها الاتحاد السوفياتي، وقبله روسيا، ليست إيجابية، كما هي الحال مع الصين التي قد لا ترتاح إلى السيطرة الروسية على جارتها كازاخستان. كما أن استفزاز هذه الذكريات التاريخية وتصعيدَها لن يكونا صعبَين أبداً مع دغدغة المشاعر القومية والدينية لهذه الشعوب، عبر كثير من الوسائل السرية والعلنية، وهي مستمرة على قدم وساق منذ استقلال الدول المذكورة.
ويعرف الجميع أن تحريك شعوبها وتحريضها لا ولن يكونا صعبين بسبب الديكتاتوريات والظلم والفساد والفقر والجوع، التي تخيّم، مجتمعةً، على هذه الدول الغنية، والتي تسعى، وستسعى، واشنطن وحلفاؤها لشراء ضمائر عدد من مثقّفيها بالدولارات الخضراء. وإن لم يتحقَّق لها ذلك، فهذه المرة باستفزاز الذكريات التاريخية والمشاعر القومية والدينية. وهو ما فعلته في سنوات “الربيع العربي” الدموي، ولو بشعارات مغايرة، وأهمها الطائفية. وستبقى هي أيضاً قابلة للاستهلاك لهُواة الصيد في الماء العكر، حالها حال التماسيح الشرسة!
حسني محلي – الميادين
اقرأ ايضاً:عبد الباري عطوان: لماذا لن يقبل بوتين “ثورةً مُلوّنة” أُخرى تُطيح بحُلفائه في كازاخستان