هل بدأ شهر الغزو الروسي لأوكرانيا؟
أما وقد إنتهى الأسبوع الديبلوماسي بين روسيا والغرب إلى لا شيء، وتصاعدت لغة الإنذارات المتبادلة في ضوء تباعد مواقف الجانبين من الأزمة الأوكرانية، صار لزاماً طرح السؤال التاريخي للينين والآن.. ما العمل؟
الأجواء السائدة في أوروبا الآن تشبه إلى حد كبير تلك التي كانت سائدة بداية التسعينيات الماضية، بعد سقوط جدار برلين وتفكك الإتحاد السوفياتي، فهل روسيا فعلاً كما يتهمها الغرب تعمل من خلال الإصرار على عدم إنضمام أوكرانيا وجمهوريات سوفياتية سابقة إلى حلف شمال الأطلسي، على إعادة التوازنات الجيوسياسية التي كانت سائدة قبل 30 عاماً؟ من المفاوضات الأميركية – الروسية المباشرة في جنيف إلى إجتماع مجلس حلف شمال الأطلسي – روسيا في بروكسيل إلى مؤتمر منظمة الأمن والتعاون في أوروبا بفيينا، محطات وصلت كلها إلى طريق مسدود.
في ضوء ذلك، بدأ الحديث الروسي عن عدم جدوى إجراء المزيد من المحادثات مع الأميركيين، فيما كان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يحدد مهلة أسبوع كي ترد الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي خطياً على مطالبة الكرملين بضمانات أمنية، إحداها تتعلق بوقف زحف حلف الأطلسي شرقاً والثانية بعدم نشر أسلحة أطلسية بينها صواريخ وإرسال جنود إلى جمهوريات سوفياتية سابقة منضمة فعلاً إلى حلف شمال الأطلسي، على غرار جمهوريات البلطيق وبولونيا.
أميركا أعلنت أنه مع توغل الدبابة الروسية الأولى في الأراضي الأوكرانية، ستكون روسيا قد فُصلت عن النظام المالي العالمي
الجوابان الأميركي والأطلسي المعلنان، هما الرفض المطلق للمطلبين الروسيين، والتهديد بأشد العقوبات التي قد لا تستثني هذه المرة الرئيس الروسي نفسه فلاديمير بوتين نفسه. وفعلاً بدأ الإتحاد الأوروبي “التحضير” لهذه العقوبات. وأميركا أعلنت أنه مع توغل الدبابة الروسية الأولى في الأراضي الأوكرانية، ستكون روسيا قد فُصلت عن النظام المالي العالمي. وحلف شمال الأطلسي الذي خبا بريقه بعد الهزيمة في أفغانستان عاد الآن ليتصدر مشهد الدفاع عن أوكرانيا، وخفتت بالموازاة تلك الأصوات التي إرتفعت في القارة بعد الإنسحاب الأميركي “الفوضوي” من أفغانستان، مطالبة بـ”إستقلالية” أوروبية في مجال الأمن والدفاع، بعد الشعور بالتجاهل الأميركي لقادة أوروبا في القرارات المصيرية.
تبدُد الآمال بالتوصل إلى حل ديبلوماسي، يضع أوروبا على شفير مرحلة من عدم اليقين، علق عليها السفير الأميركي لدى منظمة الأمن والتعاون في أوروبا مايكل كاربنتر قائلاً:”أصوات طبول الحرب تدوي عالياً، ولهجة الخطاب باتت أكثر حدة”، ليلاقيه وزير الخارجية البولندي زبيغنيف راو الذي حذّر أيضاً من “خطر الدخول في حرب”.
وشبه الأستاذ المشارك في دراسة طريقة الحروب الروسية بمركز جورج مارشال، الكولونيل الأميركي المتقاعد جيف هارتمان، في مقال نشره بمجلة “ذا ناشيونال إنترست” الأميركية، التدريبات العسكرية الروسية المتواصلة منذ أشهر على حدود أوكرانيا، بتلك التدريبات التي أجرتها القوات الحليفة بقيادة الولايات المتحدة في الخليج بين تشرين الأول/أكتوبر وكانون الثاني/يناير 1991، قبل أن تشن هجومها على قوات صدام حسين التي كانت تحتل الكويت.
وفي الولايات المتحدة، يتوقع الكثير من المسؤولين حصول الغزو الروسي في الفترة من الآن وحتى منتصف شباط/فبراير المقبل، أي في غضون شهر. أما صحيفة “النيويورك تايمز”، فقد ذهبت أبعد عندما قالت إن الحكومة الأوكرانية بدأت تدريب وحدات من جيشها على حرب العصابات التي ستنشب بعد دخول القوات الروسية إلى أراضي أوكرانيا.
وإذا ما عطفت هذه التوقعات على الفشل الديبلوماسي، فهل يعني ذلك، ان الغزو الروسي حاصل لا محالة؟ تصر موسكو اليوم على الحصول على ضمانات خطية من الولايات المتحدة لوقف زحف الحلف شرقاً في مؤتمره الصحافي السنوي الذي عقده في كانون الأول/ديسمبر الماضي، قال فلاديمير بوتين إن الولايات المتحدة لم تكتفِ بتفكك الإتحاد السوفياتي، وهي لا تزال تنظر إلى روسيا على أنها “أكبر مما ينبغي”.
طبعاً، تُفسّر هذه العبارة الكثير من الخلفيات التي ينطلق منها بوتين في صوغ سياساته ليس في أوكرانيا فحسب وإنما في جمهوريات الإتحاد السوفياتي السابق. ودائماً ما يُذكّر المسؤولون الروس بأن المسؤولين في الإتحاد السوفياتي السابق، تلقوا مقابل موافقتهم على توحيد المانيا عام 1990 وبقائها ضمن حلف شمال الأطلسي، تطمينات من المسؤولين الأميركيين بأن واشنطن لن توسع الحلف شرقاً.
وقد اكد السفير الأميركي السابق إلى الإتحاد السوفياتي جاك مالتوك، أن آخر الزعماء السوفيات ميخائيل غورباتشيوف تلقى تطمينات بأن حدود الأطلسي لن تتمدد شرقاً. كما أن وزير االدفاع الأميركي السابق روبرت غيتس الذي كان نائباً لمستشار الأمن القومي في فترة إنهيار الإتحاد السوفياتي كان من منتقدي توسيع الحلف شرقاً، وفق ما كتب لورنس كورب مساعد وزير الدفاع الأميركي السابق إبان رئاسة رونالد ريغان.
لكن التطمينات الأميركية ذهبت أدراج الرياح مع إنضمام بولندا وتشيكوسلوفاكيا (سابقاً) والمجر في عام 1999 إبان عهد بيل كلينتون، ثم إنضمام سبع دول أخرى بينها جمهوريات البلطيق الثلاث عام 2004 في عهد بوش الإبن. ولهذا تصر موسكو اليوم على الحصول على ضمانات خطية من الولايات المتحدة لوقف زحف الحلف شرقاً.
وزاد توسع الحلف شرقاً من عدم ثقة روسيا بالوعود الأميركية. وبات بوتين يرى في “الثورات الملونة” في جمهوريات سوفياتية سابقة على أن الغاية منها إضعاف روسيا وحرمانها من عمق يسمح بالدفاع عنها ويمنع تطويقها إستراتيجياً من قبل الغرب.
لذلك، تحرك بوتين بسرعة في كازاخستان الأسبوع الماضي، ومن قبلها في بيلاروسيا، وسعى إلى وقف حرب القوقاز بين أرمينيا وأذربيجان، وخاضت روسيا حرباً مع جورجيا عام 2008، وللغاية نفسها يحشد اليوم على حدود أوكرانيا من دون أن يعني بالضرورة أنه إتخذ قرار الغزو، الذي قد تحين لحظته في الساعة التي تلي قبول حلف شمال الأطلسي إنضمام أوكرانيا إلى الحلف، وهذا القرار بيد أميركا وحدها. فإذا كانت أميركا تريد حرباً في أوكرانيا فإنها هي التي ستحدد ساعة الصفر. الحرب ليست حتمية طالما لم تنضم أوكرانيا رسمياً إلى الأطلسي. وفي الوقت نفسه يستفيق الغرب على حقيقة أن سياساته التي يطبقها منذ 30 عاماً حيال روسيا وأراضي الإتحاد السوفياتي السابق، قد تتسبب هذه المرة بحرب فعلية والولايات المتحدة تعلم علم اليقين إن إنضمام أوكرانيا إلى الأطلسي لن يضيف شيئاً إلى قوة الحلف.
وهي تعتمد سياسة الغموض في شأن أوكرانيا منذ القمة الأطلسية في بوخارست عام 2008، التي وجهت الدعوة إلى أوكرانيا وجورجيا للإنضمام إلى الحلف إبان رئاسة بوش الإبن، وسط معارضة فرنسية وألمانية. لكن الرئيس الأميركي السابق أضاف بذلك خطأ إستراتيجياً آخر إلى حربيه على أفغانستان والعراق. وأمام سياسة الغموض التي تنتهجها أميركا وحلف الأطلسي حيال مسألتي أوكرانيا وجورجيا، ذهب بوتين إلى الحشد العسكري، كي يرغم الغرب على الجلوس إلى طاولة المفاوضات.
وهذا ما حصل فعلاً. والشهر الماضي عقد بوتين قمة إفتراضية مع بوتين تلاها مكالمة هاتفية مطولة. وهذا ما كان ليحصل لولا الحشد العسكري. صحيح أن الديبلوماسية وصلت إلى طريق مسدود. لكن الحرب ليست حتمية طالما لم تنضم أوكرانيا رسمياً إلى الأطلسي. وفي الوقت نفسه يستفيق الغرب على حقيقة أن سياساته التي يطبقها منذ 30 عاماً حيال روسيا وأراضي الإتحاد السوفياتي السابق، قد تتسبب هذه المرة بحرب فعلية. ومن هنا يتعين التفكير كثيراً قبل إتخاذ قرارات قد ينجم عنها تغييرات جيوسياسية في القارة الأوروبية.. والعالم.
180Post-سميح صعب
اقرأ ايضاً:الإدارة الأمريكية سنسهّل تمديد خط الغاز المصري عبر سوريا دون التعرض لعقوبات قيصر