وحدات أميركية إلى شرق أوروبا.. كيف سيناور الروس؟
شارل أبي نادر
قد يكون مضمون التصريح الأخير للمتحدث باسم البنتاغون، جون كيربي، أوضح ما يمكن استنتاجه حول اتجاه الأمور حالياً في شرق أوروبا بين الروس والناتو، وذلك حين قال إنَّ بلاده “قلقة للغاية بشأن الوضع في أوروبا، وتواصل دعم الجهود الدبلوماسية لوقف التصعيد، وإننا رفعنا مستوى التأهب والجاهزية لوحدات عسكرية أميركية في حال صدور قرار بشأن الانتشار، وخلال فترة لا تتجاوز 10 أيام، ووزير الدفاع سيواصل مع الرئيس البحث في أيّ قرار يتعلق بنشر قوات أو إرسالها إلى أوروبا”، وقال أيضاً: “بتوجيه من الرئيس، اتخذت الولايات المتحدة خطوات لزيادة جاهزية قواتها. لذا، فهي مستعدة للردّ على مجموعة من الحالات الطارئة، والتزامنا صارم بشأن أمن حلفاء الناتو والمادة الخامسة من نظام الحلف”.
عملياً، ليس غريباً أن نرى انتشاراً عسكرياً لوحدات أميركية في شرق أوروبا، فهذه المنطقة لم تفرغ بتاتاً من التواجد العسكري الأميركي منذ نهاية الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي على أثر تفكك الأخير وبدء انخراط دول حلف وارسو المنحل مع الناتو تباعاً، ومؤخراً في المواجهة الحساسة بين روسيا والناتو، ولكن لماذا يمكن القول إن دخول هذه الوحدات الأميركية اليوم يحمل أبعاداً مختلفة عن السابق، ويمكن أن يشكل وضعاً غير طبيعي في المنطقة الحساسة بين غرب روسيا وشرق أوروبا؟
صحيح أنَّ هذه الوحدات العسكرية الأميركية لم تنتقل بعد من قواعدها المختلفة إلى دول معينة في شرق أوروبا، ولكن، عملياً، بمجرد أن تصبح جاهزة للانتقال، وهو ما حصل فعلاً، فهذا يعني أن أمر انتقالها اكتمل، وهو الذي يتضمن عادة من الناحية العسكرية (أمر الانتقال) أمكنة الانتشار والتوقيت ووسائل النقل والوحدات المعنية بالمهمة والعدد المفصول منها، إضافة إلى تحديد المهمة بشكل واضح.
كما أن الوصول إلى هذه المرحلة، بالنسبة إلى قدرات الوحدات العسكرية الأميركية، يعني أن المهمة أصبحت منتهية، لأن نقل هذه الوحدات كمرحلة أخيرة يستغرق بحده الأقصى ساعات محدودة، تماماً كما حصل مع الوحدات الروسية التي تدخلت في كازاخستان على وجه السرعة أثناء الأحداث الأخيرة التي وصلت إلى أماكن التوتر، وانتشرت وعالجت الوضع قبل وصول العسكريين ورجال الأمن الكازاخيين.
في الواقع، تتضارب وتتداخل التصريحات والمواقف المرتبطة بمشكلة أوكرانيا وروسيا والناتو وشرق أوروبا، والتي يذهب أغلب المتابعين إلى أنها لن تجري في النهاية على خير أو على الأقل من دون حدوث تغيير ما يترجم المواقف المتشددة للأطراف المتواجهة، وأهمها المطالب الروسية كما حددها الرئيس بوتين بكل وضوح وجدية وحزم، ومن بينها منع أوكرانيا من الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، والطلب من الأخير التخلي عن التدريبات العسكرية والتوقف عن إرسال أسلحة إلى أوروبا الشرقية، معتبراً ذلك تهديداً مباشراً لأمن موسكو، الأمر الذي لم يحصل منه شيء حتى الآن، بل العكس، ازداد إدخال الأسلحة الغربية إلى أوكرانيا وغيرها من دول أوروبا الشرقية، وخصوصاً بولندا، كرأس حربة المواجهة اليوم ضد روسيا وحليفتها الأخيرة في شرق أوروبا (بيلاروسيا)، ليأتي تصريح المتحدث باسم البنتاغون اليوم حول قرار أميركي بدعم تلك الدول من أوروبا الشرقية ويصبّ الزيت على نار التوتر.
وبدلاً من أن يردّ الأميركيون على مطالب الروس عملياً بوقف إدخال الأسلحة والجنود إلى دول أوروبا الشرقية المواجهة مباشرة للغرب الروسي، ها هم يجهزون وحدات تدخل سريع خاصة لنشرها في تلك الدول.
إذا انطلقنا من العبارات التي صاغها كيربي في تصريحه، والتي سوف نبني عليها لكي نستنتج ما يمكن أن يحدث، نبدأ من عبارة: “اتخذت الولايات المتحدة خطوات لزيادة جاهزية قواتها، وهي مستعدة للرد على مجموعة من الحالات الطارئة، والتزامنا صارم بشأن أمن حلفاء الناتو والمادة الخامسة”، لنذكر عبارة أخرى من التصريح: “لا يبدو أنَّ هناك نية لدى روسيا من أجل خفض التصعيد. لذا، نريد أن نكون مستعدين في حال تم تفعيل الاستجابة السريعة لحلف الناتو، ونحن نحتفظ بقوات قتالية كبيرة وقادرة على التقدم في أوروبا لدحر أي عدوان”.
من هنا، يمكن الاستنتاج أنّ الأميركيين جاهزون للتدخل في دول تابعة للناتو، التزاماً بأمن الحلفاء وبالمادة الخامسة من نظام الحلف، والمقصود بهذه الدول بولونيا ورومانيا وبلغاريا، إضافة إلى دول البلطيق الثلاث، لاتفيا وإستونيا وليتوانيا، وحتماً ليس التدخل في أوكرانيا، التي ليست عضواً في الناتو، مع الإشارة إلى أن الأميركيين لديهم اقتناع شبه كامل بأن لا نية لروسيا بخفض التصعيد، أي أن الأخيرة ذاهبة نحو عمل ما يدخل ضمن “تصعيد الوضع”، فكيف يمكن تحديد ماهية هذا العمل الذي أصبح واضحاً أنه يجيب عن النقاط التالية؟
استبعاد شبه مؤكد للمواجهة المباشرة بين الناتو وروسيا، مع إجراء يضمن أمن الأخيرة أولاً، ويضمن عدم دخول أوكرانيا في الناتو، وعدم توسع الأخير شرقاً أبعد مما وصل إليه حالياً في الدول الست المذكورة، بولندا ورومانيا وبلغاريا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا، وماذا سوف يستنبط الرئيس بوتين من أفكار تجيب عن هذه النقاط وتترجم مواقفه المتشددة، والتي لن يتراجع عنها لكونها تشكل خط الأمان النهائي لأمن روسيا وسيادتها وموقعها التاريخي والحاضر بمواجهة الغرب والناتو!
بالعودة إلى العام 2014، وصف الرئيس بوتين حينها ما حدث في أوكرانيا بأنَّه انقلاب غير دستوري وسيطرة للجيش على السلطة، وأكَّد أنَّ الرئيس الأوكراني السابق، فيكتور يانوكوفيتش، نفّذ كل شروط اتفاق 21 شباط/فبراير مع المعارضة، وتنازل فعلياً عن السلطة، ولا يوجد سوى تقييم واحد لما حدث في كييف وأوكرانيا ككل، وهو أن ما حصل هو استيلاء غير دستوري ومسلّح على السلطة.
في مقارنة ما قاله الرئيس بوتين في العام 2014 مع ما يقوله البريطانيون اليوم حول اتهامهم الرئيس الروسي بالتخطيط لتمكين شخصية سياسية موالية لروسيا من قيادة الحكومة في أوكرانيا، وإقدام الحكومة البريطانية في خطوة غير مسبوقة على الإشارة إلى اسم عضو البرلمان الأوكراني السابق، يفين مورايف، كمرشح محتمل يفضّله الكرملين لاستلام السلطة في أوكرانيا، يمكن البدء بتلمُّس مناورة معينة يخطط لها الرئيس بوتين، وتقوم على السيناريو التالي:
دعم رئيس موالٍ لروسيا في أوكرانيا يؤمّن مطالب بوتين التي رفض الناتو مباشرة تأمينها، وذلك بعد أن يستلم السلطة بالتزامن مع أعمال أمنية بمستوى مرتفع من التوتر ومن المواجهات الدموية بين السلطات الأوكرانية ومجموعات ذات جذور قومية روسية في الدونباس، وفي مناطق غير الدونباس أيضاً، مع إثارة مشاكل أمنية وعسكرية بمستوى مقبول على الحدود بين بيلاروسيا وأوكرانيا من اتجاه شمال الأخيرة، الأقرب جغرافياً إلى العاصمة الأوكرانية، لرفع مستوى الضغط على كييف، وتشتيت تركيزها بين الدونباس الذي سيكون ملتهباً وشمال أوكرانيا بمواجهة بيلاروسيا، والذي سيكون أكثر التهاباً أيضاً.
كل ذلك بواسطة عناصر ذات جذور قومية روسية، تحظى أساساً برعاية ودعم من موسكو، مع تواجد عسكري روسي حاسم ومؤثر وضاغط، بعديد يتجاوز 150 ألف جندي، مع كامل تجهيزات التدخل السريع من 3 جهات أساسية؛ شرق أوكرانيا وجنوبها من اتجاه شبه جزيرة القرم، وشمالها من اتجاه بيلاروسيا.
الميادين