العامل المفاجئ لقيادة حلف “الناتو” جاء من ألمانيا التي امتنعت عن تزويد أوكرانيا بالأسلحة.
“غزو أوكرانيا”، افتراضياً، أصبح وشيكاً في السرديات الأميركية، الرسمية والإعلامية، بل ذهبت إلى تحديد الزمن، شهر شباط/فبراير المقبل، وذلك لسببين: الأول افتتاح الألعاب الأولمبية الشتوية في الصين، ما بين 4 و20 شباط/فبراير، بحضور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (مع ملاحظة عدم توجيه بكين دعوة حضور إلى الرئيس الأميركي)؛ والآخر، انتظار ظروف طوبوغرافية مؤاتية تتجمّد فيها مستنقعات بريبيت، وهي مساحة كبيرة من الأراضي تغطي أجزاء من بيلاروسيا (روسيا البيضاء) وشمال أوكرانيا، لتسهّل حركة المركبات والمعدات الثقيلة والقوات المدرعة.
وأجرى الرئيس جو بايدن مكالمة هاتفية مع نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، في الـ 27 من كانون الثاني/يناير الحالي، محذّراً من وجود “إمكانية واضحة” لغزو روسيا لأوكرانيا الشهر المقبل، بحسب بيان البيت الأبيض. وفي اليوم التالي للمحادثة، جرت تظاهرة معادية للحرب بين الجارتين أمام مبنى البرلمان الأوكراني، الرادا، في العاصمة كييف.
كما أكدت نائبة وزير الخارجية الأميركي ويندي شيرمان توقعات الطاقم السياسي الأميركي بأن مؤشرات “الغزو” المحتمل لأوكرانيا “في وقت ما، ربما الآن أو بحلول منتصف شهر شباط/فبراير المقبل” (مقابلة أجرتها عن بُعد مع “منتدى استراتيجية يالطا الأوروبية”، الـ 26 من كانون الثاني/يناير 2022).
بيد أن المفاجأة الكبرى كانت في تصريح منسوب إلى الرئيس الأوكراني نفسه، معرباً عن عدم توافقه مع تقييم/تحذير الرئيس الأميركي، نافياً حتمية نشوب حرب مع روسيا، ومطمئناً مواطنيه بسعيه إلى تفادي وقوع حرب بكل السبل المتاحة، الأمر الذي دفع بعض النخب الاستراتيجية الأميركية إلى الاعتقاد بأن أيامه معدودة، وعليه دفع ثمن معارضة تباين موقفه مع واشنطن في أدق الظروف السياسية.
وسبق ليومية “فورين بوليسي” أن نقلت انتقاد مدير الأمن الوطني ومجلس الدفاع الأوكراني، أوليكسي دانيلوف، الدول الغربية للترويج للحرب، وأن ما يتردد عن غزو روسي وشيك لا يعبّر إلا عن “رُعب” داخل الأوساط الغربية، كما أن “المؤشّرات الراهنة تدل على توجّه روسيا إلى المفاوضات، لا إلى الغزو” (موقع “فورين بوليسي”، الـ 24 من كانون الثاني/يناير 2022).
الخلاف الأميركي- الأوكراني بشأن حتمية ما يُسمى الغزو الروسي، بدأ يأخذ منحًى تصاعدياً من قبل صنّاع القرار السياسي في واشنطن وامتداداته. وأوضحت يومية “نيويورك تايمز” المسألة تحت عنوان مثير: “أوكرانيا توبّخ أميركا”، مشيرة إلى أن “تبايناً حادّاً في وجهات النظر برز على السطح، والأجواء كانت تغلي ببطء منذ بضعة أسابيع”، على خلفية آلية تقييم نيّات روسيا.
وفاقم المسألة بين الطرفين إصدار واشنطن تعميماً بلغة التحذير لرعاياها بمغادرة أوكرانيا، ما قطع شك كييف باليقين بأن واشنطن تدفع بها دفعاً إلى الاشتباك مع موسكو. (صحيفة “نيويورك تايمز”، الـ 29 من كانون الثاني/يناير 2022).
أما معسكر الحرب، الأقوى تأثيراً ونفوذاً في القرار السياسي الأميركي، فله اليد الطولى في دق طبول الحرب، وخصوصاً أنها (قد) تجري بعيداً عن الأراضي الأميركية، وبعدم مشاركة قوات أميركية كبيرة.
فقد حدّد موقع “ناشيونال انترست”، المتخصّص في الشؤون العسكرية والاستراتيجية الأميركية أبرز الاحتمالات في مخطط الحرب المفترضة وفحواها “شنّ روسيا هجوماً إلكترونياً هائلاً على أوكرانيا، ثم تقطع مصادر الطاقة عنها، وتقضي على قواتها الجوية والبحرية الضئيلة، وتدمّر أي مخابئ أسلحة رئيسية وإمداداتها من طائرات الدرونز”. وأضاف أن روسيا ستحتاج إلى 200 ألف جندي كحد أدنى لتنفيذ الغزو (مقال بعنوان “كيف يتعيّن على بايدن الاستجابة لغزو روسي لأوكرانيا”، موقع “ناشيونال إنترست”، الـ 25 من كانون الثاني/يناير 2022).
أما الخيارات المتاحة أمام الرئيس جو بايدن، بعد سلسلة نقاشات معمّقة مع كبار الخبراء العسكريين والاستراتيجيين والأمنيين، فهي “لا تتضمن نشر قوات أميركية إضافية في أوكرانيا”، وتقتصر على نحو 8،500 جندي للتموضع في دول أوروبا الشرقية، في بولندا أو ليتوانيا “إن استدعت الحاجة ذلك”. أوساط مسؤولة في البنتاغون أضافت أن تلك القوات ستُستخدم في “إجلاء عشرات الآلاف من الأميركيين المقيمين في أوكرانيا” (صحيفة “نيويورك تايمز”، الـ 23 من كانون الثاني/يناير 2022؛ وصحيفة “وول ستريت جورنال”، الـ 24 من كانون الثاني/يناير 2022، على التوالي).
يثير معسكر الحرب الأميركي مسألة العودة إلى تفعيل “مبدأ مونرو”، في عام 1823، الذي اعتبر القارة الأميركية الجنوبية برمّتها حديقة خلفية لواشنطن “يُمنع” على أيّ من القوى الأخرى منافستها فيها أو عليها. وجاء في رسالة الرئيس مونرو للكونغرس آنذاك قوله: “يجب علينا اعتبار أي محاولة للتمدد (الأوروبي) في أي مكان من نصف الكرة الأرضية (الغربي) خطراً على سِلمِنا وأمنِنا”. وأضاف موضحاً أن البيت الأبيض يعتبر أي “عدوان ضد دولة في أميركا اللاتينية عدواناً على الولايات المتحدة نفسها”.
ويضيف المؤرّخون الأميركيون أن “مبدأ مونرو” الأصلي شهد عدة تعديلات وإضافات تناسب تطورات العصر الحديث ومتطلبات الهيمنة الأميركية، منذ بداية القرن العشرين، ترمي بمجملها إلى “تعزيز المبادئ بالقوة القاهرة، لكنها كانت تحت سقف النص الأصلي، وتعالج مستقبل الاستراتيجية الأميركية على حدة في حال انتهاك روسيا أو الصين أو تعدّيهما على الشطر الغربي من الكرة الأرضية” (مقال بعنوان “هل سيُحيي الغزو الروسي مبدأ مونرو؟”، “ناشيونال انترست”، الـ 28 من كانون الثاني/يناير 2022).
المناسبة كانت تعثّر المفاوضات الثنائية بين واشنطن وموسكو لطلب الأخيرة سحب قوات حلف الناتو من الفضاء الحيوي لروسيا، أتبعتها بتصريح لنائب وزير الخارجية، سيرغي ريابكوف، مهدّداً بنشر روسيا صواريخ متطورة وقوات عسكرية في كل من كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا، ما أعاد إلى الأذهان “أزمة الصواريخ الكوبية”، 1962، والتي أسفرت عن تنازل متزامن للطرفين، الأميركي والسوفياتي، وامتناعهما عن نشر صواريخ استراتيجية كل منهما بالقرب من حدود الآخر، أطلق عليها الاستراتيجيون الأميركيون مصطلح “نموذج كنيدي – خروتشوف في إدارة العلاقات بين قوتين عظميين متساويتين” (جيمس هولمز، رئيس كلية الاستراتيجية البحرية في جامعة الحرب البحرية، الـ 28 من كانون الثاني/يناير 2022).
في البُعد العسكري الصرف، لا يشكّ أحد في أفضلية روسيا على أوكرانيا، تسليحاً وعديداً. لكن القوات الأوكرانية، بمساعدة غربية، استطاعت تحديث ما لديها من قطع عسكرية متآكلة، منذ اشتباكات عام 2014، مع القوات المدعومة من روسيا في شرقي البلاد. كما حصلت أوكرانيا على بعض العتاد الغربي المتطور في الآونة الأخيرة، خصوصاً في السلاح وقاذفات الصواريخ ضد المدرعات، إضافة إلى مرابطة عدد من القوات الخاصة “الأميركية والبريطانية” على أراضيها، ونحو 150 عسكرياً من فصيلة الحرس الوطني “اللواء 53 مشاة قتالي” الأميركي.
جدير بالذكر أن القسم الأكبر من القوات العسكرية الأوكرانية يرابط في الجزء الشرقي من البلاد، في إقليم دونباس. أما القوات الروسية فقد تموضعت داخل أراضيها بالقرب من حدودها المشتركة، وكذلك في أراضي روسيا البيضاء المجاورة، ما يمثّل عامل ضغط إضافياً على الطرف المقابل، حلف الناتو، ملوّحة بإمكان فتح جبهة واسعة أخرى، فضلاً عن أسطول القوات البحرية الروسية المتطور في مياه البحر الأسود، والذي يستطيع فرض حصار بحري، من ناحية المبدأ.
يتوقّع بعض العسكريين الأميركيين قيام قوات حلف الناتو وأوكرانيا معاً باحتلال إحدى القنوات المائية في شبه جزيرة القرم، لحرمان القوات الروسية من التزود بها واضطرارها إلى سحب مياه الشرب من مناطق بعيدة. يقابل تلك الخطوة ردّ روسيّ مباشر بالسيطرة على جسر برّي يربط القرم بالمناطق التي تسيطر عليها القوات المناوئة لكييف، في إقليم دونيتسك، والتموضع هناك، ما سيؤدي إلى تفسخ البلاد بالنظر إلى تطلعات مواطنيها في غاليتسيا غربي أوكرانيا إلى التعلق ببولندا لدواعٍ تاريخية، حيث تمّ اقتطاعها من الأخيرة إبان الاحتلال النازي.
العامل المفاجئ لقيادة حلف الناتو جاء من ألمانيا التي امتنعت عن تزويد أوكرانيا بأسلحة، مباشرة أو عبر دول البلطيق، وأرسلت وزيرة خارجيتها، آنالينا بيربوك، زعيمة حزب الخضر الألماني، إلى موسكو للقاء نظيرها الروسي سيرغي لافروف، مؤكّدة “أهمية العلاقات” بين بلديهما، وأن حكومتها الجديدة في برلين “تبحث عن إرساء علاقات متينة ومستقرّة مع روسيا” (الـ18 من كانون الثاني/يناير 2022).
وعرّجت بيربوك على أوكرانيا للقاء نظيرها وزير الخارجية ديميترو كوليبا، قبل لقائها في موسكو. وقالت في مؤتمر صحافي مشترك: “نحن مستعدون لحوار جادّ مع روسيا، لأن الدبلوماسية هي السبيل الوحيد لنزع فتيل هذه الأزمة الخطيرة للغاية”.
في خلفية القرار الألماني، استثمارات برلين العالية في خط السيل الشمالي-2، لنقل الغاز الروسي مباشرة إلى الأراضي الألمانية، والذي تعارضه واشنطن بشدة. وما زالت ترسل تهديداتها بمنع تشغيل الخط “في حال أقدمت روسيا على غزو أوكرانيا”، والذي تعتبره برلين شمّاعة واشنطن لديمومة هيمنتها على قرار استيراد الطاقة بمعزل عن توجهات الولايات المتحدة.
أمام الاصطفافات الجديدة في القارة الأوروبية، وخصوصاً النشاط الدبلوماسي الذي تبذله ألمانيا في موازاة فرنسا، لنزع فتيل الاشتباك وتخفيف حدة التصعيد، يلاحظ لجوء واشنطن إلى استعادة “الخيار الدبلوماسي” مع روسيا، في خطابها السياسي، على الرغم من استمرار تدفق شحناتها من الأسلحة والمعدات والأموال إلى أوكرانيا. هذا إضافة إلى ثبات بريطانيا على توريد أسلحة ومعدات متطورة مباشرة إلى أوكرانيا، برضى أميركي.
في نهاية المطاف، فإن قرار الحرب من عدمه تفرضه موازين القوى لدى الطرفين، ومدى استعداد جميع أعضاء حلف الناتو تحديداً لتحمّل تبعات قرار قد يجلب وبالاً عليها وتدميراً لاقتصاداتها. بل هل ستبقى واشنطن متمسّكة بـ”الحل الدبلوماسي” أم ستعيد إحياء “مبدأ مونرو” بصيغته الجديدة؟
عدد من دول أميركا اللاتينية انشق عن “مبدأ مونرو” والهيمنة الأميركية على ثروات هذه الدول، الطبيعية والبشرية. وتؤكّد كلّ من كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا وبوليفيا سيادتها الكاملة على أراضيها وحرية خياراتها السياسية، تلبية لمصالح شعوبها ورفاهيتها. وليس من المستبعد استجابة روسيا لطلب بعض تلك الدول مساعدتها عسكرياً لتعزيز قدراتها الدفاعية أمام محاولات واشنطن المستدامة لإحداث انقلابات تؤدي إلى سيطرة حلفائها على مقدّرات البلاد.
الخبير الاستراتيجي الأميركي، جيمس هولمز، يرجّح حلاً ينطوي على تعهّد موسكو بعدم الوجود العسكري في حوض البحر الكاريبي، مقابل قبول واشنطن تصرّفها بحرية في دول أوروبا الشرقية سابقاً.
بيد أن مسار الوصول إلى صيغة مماثلة أو قريبة من ذلك يستدعي تعديلاً أساسياً في سياسة الولايات المتحدة واستراتيجيتها، لقبول الطرف الآخر على قدر من المساواة، والتي نادى بها المرشح الرئاسي الأسبق عن الحزب الجمهوري، باتريك بيوكانين، مناشداً البيت الأبيض والكونغرس معاً “إبداء احترام مخاوف” الرئيس الروسي، والتعهّد بعدم تمدّد حلف الناتو شرقاً، بل طالب بحلّه نظراً إلى المتغيرات الدولية، وتوجّه صنّاع القرار إلى مواجهة الصين.
منذر سليمان – الميادين
اقرأ أيضا: مبادرة “الحزام والطريق” بعيون الأمريكيين: الصين تسعى لتعزيز نفوذها وإخراج دمشق من عزلتها