من أوكرانيا إلى سوريا والرهانات الخاطئة
أحمد الدرزي
أثار التصريح، الذي أطلقه بوليانسكي، النائب الأول لمندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة، في اجتماع لمجلس الأمن الدولي، التساؤلات بشأن تغيير طبيعة السياسات الروسية المتَّبَعة في سوريا. قال: “نطالب بالانسحاب الفوري من سوريا لجميع القوات الأجنبية الموجودة هناك بصورة غير قانونية… من الواضح أن الولايات المتحدة لا تتعامل مع مكافحة الإرهاب حتى على المستوى المحلي، ناهيك بالنطاق العالمي”. فهل يمكن لموسكو أن تتعاطى بصورة مغايرة مع الملف السوري؟
كان من الواضح أن الصراع الأميركي الروسي في أوكرانيا، له ظلال واسعة على العالم أجمع، بما في ذلك الملف السوري، الذي شهد، من قبلُ، توافقاً أميركياً روسياً على وضعه، كما عبَّر عنه بيترسون، المسؤول الأممي عن إدارة مفاوضات اللجنة الدستورية، وتنفيذ القرار 2254، ضمن استراتيجية “خطوة في مقابل خطوة”.
اكتسب الصراع في أوكرانيا بُعداً حدياً، لا تستطيع فيه موسكو التراجع عن قرارها القاضي بالذهاب بعيداً في استعادة ما تعدّه أصل التأسيس للإمبراطوريات الروسية المتتابعة، بالإضافة إلى ما تعدّه الخط الدفاعي الأخير أمام تمدُّد حلف “الناتو”، الذي سيُصبِح، على بُعد دقائق عن موسكو، صاروخياً، في حال استطاعته ضم أوكرانيا إليه، ونصب قواعد صاروخية بالقرب من الحدود الغربية لروسيا.
في المقابل، فإنّ واشنطن تتعاطى مع هذا الملف باعتباره فيصلاً، في سعيها لمحاصَرة روسيا والصين، وهي التي تعاني انقساماً سياسياً داخلياً كبيراً، على مستويَي الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وعلى مستوى كل حزب منهما، وخصوصاً بعد تنامي التيار الشعبوي اليميني، المناهض لسياسات العولمة، التي انعكست سلباً على الولايات الصناعية، في وسط الولايات المتحدة وغربيّها، الأمر الذي دفع الحزب الديمقراطي، المعروف بعدائه الشديد لروسيا، إلى العمل على تحقيق إنجاز كبير، قبل الانتخابات النصفية للكونغرس، والتي ستحدّ سياسات الديمقراطيين العدوانية تجاه موسكو، بعد انحسار التأييد لهم داخل الولايات المتحدة.
يُضاف إلى ذلك إدراك واشنطن عاملَ الزمن، الذي لم تعد وحدها المُتَحكّمةَ فيه، وهي تشهد الصعود المتنامي للصين وروسيا، وتحوّل التزامات استمرار هيمنتها على العالم، إلى أعباء أكبر من قدرتها على تحملها حالياً، وهي مرشحة للازدياد في السنوات المقبلة، الأمر الذي يجعلها تعمل في أقصى طاقتها، من أجل الفصل بين الشراكة الروسية الصينية.
تترقّب أنقرة بحذر شديد ما يجري في أوكرانيا، فهي تخشى، بقلق واضح، عجز واشنطن عن حسم الملف الأوكراني، والضغوط الأميركية عليها لتولي إدارة الحرب، بالإضافة إلى عوامل الترغيب لها، بعد انسحاب واشنطن من منتدى شرقي المتوسط للغاز لمصلحتها، وهي التي استطاعت تحقيق مكاسب كبرى في تاريخ تركيا الحديث، عبر قدرتها على استثمار موقعها الجيوسياسي، ودورها التاريخي، وقدراتها الاقتصادية والديمغرافية، من خلال التأرجح بين موسكو وواشنطن، الأمر الذي دفع الرئيس التركي إردوغان، بعد التصريح الروسي الشديد اللهجة، والذي يستهدف تركيا أيضاً كقوات احتلال غير شرعية، إلى محاولات التوسط بين كييف وموسكو، ونزع فتيل الحرب المحسومة لروسيا، خشية الاستدارة الروسية على تركيا، وإخراجها من سوريا والعراق والقوقاز وليبيا، الأمر الذي يجعل إردوغان في موقف ضعيف في مواجهة خصومه في الداخل التركي، وسقوطه في الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2023.
تلقَّفت دمشق، بأمل، تصريحات بوليانسكي، كدليل على ارتفاع حدة المواجهة الروسية الأميركية في أوكرانيا، وهي تأمل في أن تنتهي المسألة الأوكرانية بانتصار كبير لموسكو، وهزيمة كل من واشنطن وأنقرة فيها، الأمر الذي ينعكس على رؤية موسكو مستقبلَ سوريا، التي دخلت في نفق التجميد، بعد التوافق الروسي الأميركي السابق، والذي استند إلى وقف إطلاق نار غير معلَن، وإعلان انتهاء المعارك، وإبقاء وضع القوى العسكرية كما هو حالياً، تمهيداً لإيجاد تسوية دولية وإقليمية، قد لا تكون لمصلحة دمشق، التي تعمل على إعادة الوضع السوري إلى ما كان عليه عشية “الثورة” الملوَّنة بالدم عام 2011، وهي قد تشهد ليونة تركية قريبة مع روسيا، كدليل على صواب رؤيتها، عبر افتتاح طريق M4 كبادرة حسن نية تركية، بعد أن امتنعت عن تطبيق اتفاق 5 آذار/مارس 2019 مع روسيا.
يسود الحذر والترقب منطقةَ الجزيرة السورية، حيث تسيطر قوات “قسد” على ثلث الأراضي السورية، وخصوصاً بعد التصلب الروسي في وجه المشروع الأميركي في أوكرانيا، على الرغم من الدعوة الموجَّهة إلى قيادتها من أجل الاجتماع بها في موسكو خلال الأيام المقبلة، مع وفود متعددة من قوى المعارضة الممثِّلة للدول الإقليمية في الملف السوري، وهي تدرك أن نتائج المواجهة في أوكرانيا قد لا تكون لمصلحة الولايات المتحدة، كما أن عدم تراجع واشنطن فيها سينعكس على الموقف الروسي، الذي قد يتحوّل إلى دعم إخراج القوات الأميركية عبر المقاومة العسكرية الشعبية، على نحو يرفع الغطاء الأميركي عنها، على الرغم من معرفتها أن واشنطن لم تعترف بها، وتم استثناؤها من اللجنة الدستورية، بتوافق دولي، كما عبَّر عن ذلك بيترسون في تصريحاته الأخيرة، الأمر الذي يجعلها وحيدة ومجرَّدة من أي أوراق في مواجهة دمشق، التي تقف معها طهران وموسكو، وفي ظلّ غضّ نظر تركي.
لم يصدر أي تصريح أو إعلام من جانب المجموعات المسلَّحة في إدلب والشمال السوري، لكن مشهد اغتيال زعيم تنظيم “داعش”، أبي إبراهيم القرشي، على أيدي القوات الأميركية، يختزل حجم القلق لدى هذه المجموعات، التي تراهن على استمرار المشروع التركي في سوريا، واعتماده عليها في تنفيذ تحوُّل المناطق السورية المحتلة إلى أراضٍ تركية. وما كان للقوات الأميركية أن تغتال زعيم التنظيم من دون مساعدة كبيرة من الاستخبارات التركية و”هيئة تحرير الشام”، في منطقة أطمة، التي لا تبعد عن الحدود التركية سوى 7 كم، وفي الوقت نفسه تترقَّب تراجع أنقرة عن ممانعتها افتتاح الطريق الدولي، وخروجها من جبل الزاوية وسهل الغاب الغربي، والابتعاد عن الطريق إلى الشمال مسافةَ 6 كم.
على الرغم من محاولة الولايات المتحدة عدمَ الخروج من المنطقة، قبل ترتيبها على نحو يخدم مصالحها، فإن نتائج المواجهة في أوكرانيا، ستنعكس على قواعد الصراع في سوريا، وفقاً لنوعية المواجهة والمتدخِّلين فيها. وكل المؤشرات تؤكد قدرة موسكو على حسمها لمصلحتها، سلماً أو حرباً. وطريقة الحسم هي التي سترسم آليات تحوُّل المشهد السوري الداخلي، ومداه الزمني، وخصوصاً إذا ما ترافق مع العودة إلى الاتفاق النووي، الذي سيغيّر مشهد المنطقة بأكمله. وإلاّ، فإن الصراع والدمار سيستمرّان فيما بين قواها.
الميادين