النقلة الأخطر على رقعة الشطرنج.. أربع حقائق ترجح الغزو الروسي لأوكرانيا
تكرس التوقعات بغزو روسي لأوكرانيا أربع حقائق وترسم معالم سيناريو الغد:
(1) روسيا تصعد فعليا بالتجهيز لعمل عسكري ضد أوكرانيا كرد فعل على ما وجدته موسكو من اختراق عسكري أمريكي لأوكرانيا ونشر أسلحة ومستشارين غربيين يمكنهم إعادة توازن القوى في هذه البلاد وطرد روسيا من البحر الأسود واستعادة القرم لسلطة كييف. وقد قال بوتين بلهجة شديدة يملؤها الانفعال (انظر الفيديو في أول تعليق) إن روسيا ستواجه ذلك بحرب تستخدم فيها أسلحة نووية هي الأكثر خطورة في العالم.
(2) أن الردع الذي تهدد به الولايات المتحدة في حال غزو روسي لأوكرانيا لا يخيف روسيا على ما يبدو. إذ ترفع الولايات المتحدة عقابا يعتقد النظام الرأسمالي الغربي أنه سيضر روسيا فعليا ، ألا وهو “العقوبات الاقتصادية الشديدة”. يؤمن بوتين – ولديه خبرة فعلية من سنوات العقوبات السابقة – أن هناك دوما ثغرات في نظام العقوبات الدولية لأن العالم نفسه شبكة فساد كبرى، فضلا عن أنه بدون شك قد استعد لهذه الخطوة منذ عام 2014.
(3) تتيح البنية السياسية للنظام الروسي الاطمئنان إلى الجبهة الداخلية، سواء لأسباب وطنية اقتناعا بالعداء التاريخي مع الغرب (لا سيما منذ الغزو النازي وقبله غزو نابليون) وهو مبرر له جمهوره ومتجذر في الثقافة الروسية، ومن ناحية أخرى هناك اطمئنان لدى بوتين من أن نظام الحزب الواحد والرأي الواحد لن تعاكسه معارضة داخلية، فكل شيء في يد الكرملين.
(4) الوزن الجيوسياسي لروسيا وموقفها العسكري وتجاربها السابقة في الدول التي مرقت من تحت سيطرتها (أنزلت موسكو بالفعل عقابا فادحا بجورجيا لنفس الأسباب). تشير تجارب روسيا السابقة ان الغزو الروسي – إن حدث – لن يصل إلى درجة احتلال العاصمة كييف بل سيقوم بغزو شطر شرقي من الأراضي الأوكرانية الأكثر قربا في اللغة والثقافة والوجود العسكري. وقد أعلنت وسائل الإعلام الروسية قبل ساعات قليلة أن الإقليم الشرقي في أوكرانيا قد يطلب الانضمام إلى روسيا حماية له من الناتو.
وبغزو روسي للإقليم الشرقي من أوكرانيا ستكون روسيا قد فصلت إقليمين من هذه البلاد: الشرق (دونيتسك) والجنوب (القرم) وهي خسارة فادحة لوحدة الأراضي الأوكرانية تحول دون انتقالها إلى رأس حربة لقوات الناتو ضد موسكو.
في الخريطة المرفقة التي نشرتها BBC يمكنك توقع النقلة الأخطر على رقعة الشطرنج، فالدوائر الحمراء هي القوات الروسية المتمركزة على الحدود الشرقية والجنوبية لأوكرانيا.
أما السيناريو الذي يمكننا تخيله هو وقوع اشتباكات مجهولة المصدر بين قوات منطقة شرق أوكرانيا (دونيتسك) وبقية القوات الأوكرانية المدعومة من الغرب وهنا سيطالب إقليم دونيستك بنجدة من الجيش الروسي الذي سيلبي ذلك ويغزو الإقليم دعما للأصدقاء ويصبح من الناحية الفعلية ذلك الإقليم جزء من روسيا أو على الأقل دعمه بشكل نهائي لتحديد المصير والانفصال تماما عن أوكرانيا ليكون نطاقا عازلا جديدا مسلوخا من أوكرانيا.
ضم دونيستك بعد غزوه عسكريا ليس خطة وليدة الأمس بل سيناريو جاهز منذ 8 سنوات ونادى به بعض علماء الجغرافيا السياسية والجيوبولتيك في روسيا كخطوة استباقية لنزع كل فرص أوكرانيا لإلحاق ضرر بروسيا.
والحقيقة أن أوكرانيا وقعت منذ انفصالها عن الاتحاد السوفيتي في فخ حتمي كبير. فمن ناحية كان شعبها يتوق إلى اللحاق بالحياة الغربية والاقتصاد الرأسمالي والتعاون مع الولايات المتحدة والانفلات من الماضي الشيوعي.
ومن ناحية أخرى تغافل هذا الطموح عما قد يسببه ذلك من ضرر لروسيا في صراعها العسكري التقليدي مع الغرب. والأحرى أنه لم يتغافل بل استهان بروسيا وأخطأ في الحسابات التي بالغت في الاعتماد على القوى الغربية.
أوكرانيا إذن تدفع ثمن ما يسمى في الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيكا “المصير المشؤوم للمناطق العازلة والتي تقع دوما في نطاق تكسر القوى وصدام العمالقة”.
وحين نقول أوكرانيا نظلم الشعب الأوكراني كله، فالحرب الوشيكة المدمرة التي تنتظر هذه البلاد – فضلا عن المآسي التي تعيشها منذ ضم روسيا للقرم في عام 2014 – تسبب فيها صراع الطبقة السياسية والأحزاب واختلاف انتماء كل فصيل منهم: إلى الغرب أم إلى روسيا.
الحل السحري صعب وإن كان ممكنا: وهو أن تعود أوكرانيا مجددا إلى دولة عازلة فاصلة بين الناتو غربا وروسيا شرقا، ومن أسفٍ أن ذلك قد فات موعده ولا مفر من خسائر لكل الأطراف.
تزداد هذه الأيام فرص النقة الأخطر على رقعة الشطرنج بأن تقوم روسيا بتنفيذ الغزو الذي اجتمع له 100 ألف جندي على الحدود. ويفاقم من خطورة هذه النقلة أنه ليس لدى الولايات المتحدة نقلات فورية تخيف روسيا، ومشهد الانسحاب المفاجئ من أفغانستان وفوضى وإهانة الإنسان الأفغاني وتدمير بلاده لم تغب عن أذهان المراقبين بعد.
كلما اعتقد الناس أن مصطلحات “لعبة الأمم” و “رقعة الشطرنج” قد غابت وصارت من تراث الحرب الباردة تعود بكل أسف من جديد في العوالم التي منحتها الجغرافيا “نعمة” أعظم المواقع الفريدة ذات القدرات الاستراتيجية المذهلة، ومنحتها في نفس الوقت “نقمة” استغلالها كرؤوس حراب ضد المنافسين الكبار، وما أوكرانيا إلا ضحية الموقع العبقري في أوربا الشرقية وضحية تحول نعمة الموقع وقدراته إلى نقمة في مرحلة تحولات كبرى بدأت منذ تفكك الاتحاد السوفيتي قبل 30 سنة أو يزيد.