نشرت مجلة «ناشيونال إنترست» الأمريكية تقريرًا شارك في إعداده زاكاري كيك، مدير تحرير المجلة، والمحلل والكاتب أخيليش بيلالاماري، تحدثا فيه عن أقوى ستة جيوش عرفها التاريخ، والعوامل التي جعلتها كذلك.
أقوي جيوش التاريخ
يستهل الكاتبان تقريرهما بالقول: إن النقطة الأساسية في حديثنا هي أن الجيوش تُعد العامل الأكثر أهمية في قياس قوة الدولة، وفي نظام فوضوي كما هو حال العلاقات الدولية، نجد أن القوة العسكرية هي العملة الأكثر أهمية، فمهما امتلكت الدولة من ثقافة وفن وفلسفة وبريق ومجد، فإن كل ذلك ليس مهمًّا ما لم تكن تمتلك الدولة جيشًا قويًّا يدافع عنها، وكما قالها مؤسس جمهورية الصين الشعبية، ماو تسي تونج صراحة، إن: «القوة تزدهر من فوهة البندقية».
ومن بين جميع أنواع القوى العسكرية، يمكن القول إن الجيوش هي الأهم، وذلك بسبب الحقيقة البسيطة أن الناس يعيشون على الأرض، وغالبًا سيبقى هذا هو الحال في المستقبل، وكما أوضح العالم السياسي الشهير جون ميرشايمر أن: «الجيوش، إلى جانب القوات الجوية والبحرية المساندة لها، هي الشكل الأهم للقوة العسكرية في العالم الحديث».
وفي الحقيقة ووفقًا لميرشايمر، كانت حرب المحيط الهادئ ضد اليابان هي «الحرب الوحيدة بين القوى العظمى في التاريخ التي لم تكن فيها القوة البرية وحدها مسؤولة بالأساس عن تحديد نتيجة الحرب، حيث لعبت المعدات الاضطرارية الأخرى من القوة الجوية والبحرية دورًا أكثر من مجرد قوة مساندة»، ومع ذلك، يؤكد ميرشايمر أن «القوة البرية لعبت دورًا حاسمًا في هزيمة اليابان»، وعلى ذلك، فإن الجيوش هي العامل الأكثر أهمية في تقييم القوة النسبية للدولة.
ولكن كيف لنا أن نحكم على الجيوش بأنها كانت هي الأقوى في عصرها؟ يجيب الكاتبان بأن ذلك ممكن من خلال قياس قدرة الجيوش على كسب المعارك بحسم واتساق، ومعرفة الحد الذي سمحت به لدولها بالسيطرة على دول أخرى، وهذه وظيفة الجيوش البرية؛ إذ إن الجيوش فقط هي التي يمكنها تحقيق هذا النوع من السيطرة والغزو، ومن هنا، تعالوا بنا نتعرَّف إلى بعض أقوى الجيوش في التاريخ.
الجيش الروماني
يلفت التقرير إلى أن الجيش الروماني اشتهر بغزو العالم الغربي على مدى بضع مئات من السنين، وكانت الميزة الأهم للجيش الروماني هي الإصرار والقدرة على العودة إلى القتال مرارًا وتكرارًا حتى عندما يواجه هزيمة عظمى، وظهرت هذه الميزة جلية في الحروب البونيقية عندما تمكنوا، على الرغم من نقص المعرفة والموارد، من هزيمة القرطاجيين بانتظارهم أولًا في الخارج، ثم استخدام تكتيكات المفاجأة (عبر إنزال جيش في داخل قرطاج نفسها)، وأعطى الجيش الروماني جنوده عديدًا من المكافآت من أجل القتال في الجيش بقوة وحزم.
وفيما يخص أولئك الجنود الفقراء، فقد كان النصر في المعركة يعني الحصول على قطعة أرض، وفيما يخص أصحاب الأراضي، فكان ذلك يعني حفاظهم على ممتلكاتهم وكسب ثروات إضافية، أما فيما يخص الدولة الرومانية ككل، فكان النصر يعني الحفاظ على أمن روما.
وكل هذه المكافآت دفعت جنود الرومان إلى القتال بقوة أكبر، وباتت المعنويات المرتفعة عنصرًا مهمًّا للغاية في أداء الجيوش، وبالقدر نفسه من الأهمية، كان استخدام الجيش الروماني لتشكيلات متعددة الخطوط، والتي من أحد مميزاتها العديدة أنها ساعدت الجيش على تجديد خطوطه الأمامية أثناء المعركة، الأمر الذي يسمح للجنود المنضمين حديثًا بأن ينقضُّوا على جنود العدو المنهكين، واستخدم الجيش الروماني بقيادة جنرالاته اللامعين في كثير من الأحيان القدرة على التنقل لتوليد مزايا هجومية، خاصة ضد أعدائهم ذوي العقلية الدفاعية.
ونتيجةً لذلك، وعلى مدار 300 سنة، توسَّعت روما من قوة إيطالية إقليمية إلى سيد يحكم البحر الأبيض المتوسط بأكمله والأراضي المحيطة به، وكانت فيالق الرومان، فرق الجيش الروماني التي ضمَّت جنودًا محترفين خدموا لمدة 25 عامًا، مدربة تدريبًا عاليًا ومسلحة جيدًا بالحديد، وكانت موزعة على جميع أنحاء الإمبراطورية في مواقع إستراتيجية، الأمر الذي أدَّى إلى توحيد الإمبراطورية وإبقاء أعدائها بعيدًا عنها، وبعيدًا عن بعض النكسات، لم يكن للجيش الروماني منافسين بالقوة نفسها في أي مكان في الجوار.
الجيش المغولي
يشير التقرير إلى أن المغول، الذين كان عددهم يبلغ مليون رجل عندما بدأوا غزوهم عام 1206، تمكنوا من غزو معظم أوراسيا وإخضاعها في غضون مئة عام، واستطاعوا أن يهزموا الجيوش والدول التي كان لديها عشرات أو مئات الأضعاف من القوة التي كان يمتلكها المغول، ويمكن القول إن المغول كانوا ببساطة قوة لا يمكن إيقافها ظهرت من العدم للسيطرة على الشرق الأوسط والصين وروسيا.
ويرجع نجاح المغول إلى الإستراتيجيات والتكتيكات العديدة التي استخدمها جنكيز خان، الذي أسس الإمبراطورية المغولية، والأهم من ذلك هو قدرة المغول على التنقل والتحمل؛ إذ كانت حياة المغول هي حياة البدو الرحَّل، وهو الأمر الذي مكَّنهم من تحريك جيوش ضخمة عبر مسافات كبيرة في وقت قصير.
والحقيقة أن قدرة المغول على التنقل عززها اعتمادهم الشديد على الخيول؛ إذ كان لدى كل فارس من فرسان المغول ثلاثة أو أربعة خيول للتناوب فيما بينها في الحروب، والفرسان الذين كان بإمكانهم إطلاق الرماح أثناء ركوبهم الخيل أعطوا المغول ميزة إضافية على المقاتلين المشاة أثناء القتال، وهذه القدرة على التنقل التي ساعدت فيها الخيول إضافة إلى الانضباط الصارم سمح أيضًا للمغول باستخدام تكتيكات مبتكرة بما فيها هجمات الكر والفر والشكل البدائي للحرب الخاطفة، واعتمد المغول أيضًا كثيرًا على الإرهاب، وألحقوا بأعدائهم المهزومين أضرارًا وخسائر جسيمة عمدًا لتدمير الروح المعنوية لأعدائهم المستقبليين.
الجيش العثماني
فتح الجيش العثماني معظم مناطق الشرق الأوسط والبلقان وشمال أفريقيا في أوج عظمته، وقام بغزو واحدة من أكثر المدن التي لم يكن من الممكن اختراقها في العالم وهي القسطنطينية عام 1453، ولمدة خمسمئة عام، كان الجيش العثماني هو اللاعب الوحيد في منطقة كانت تتألف في السابق من عشرات الدول حتى القرن التاسع عشر، وتمكنت الإمبراطورية العثمانية من الحفاظ على وحدتها ضد كل جيرانها، فكيف فعل الجيش العثماني ذلك؟
يروي الكاتبان أن الجيش العثماني بدأ بالاستفادة جيدًا من المدافع والبنادق قبل أعدائه، الذين كان كثير منهم لا يزالون يقاتلون بأسلحة العصور الوسطى، فأعطى ذلك الإمبراطورية العثمانية ميزة حاسمة عندما كانت لا تزال فتية. وبالمدفع استطاعت الإمبراطورية الاستيلاء على القسطنطينية وهزيمة الفرس والمماليك في مصر، وكانت إحدى المزايا الرئيسية للعثمانيين هي استخدام وحدات مشاة خاصة من النخبة تسمى الإنكشاريين، ودُرِّب الإنكشاريون منذ الصغر على أن يكونوا جنودًا ولذلك، كانوا مخلصين للغاية وفاعلين في ساحات المعركة.
الجيش الألماني النازي
يلفت التقرير إلى أنه بعد الجمود المطول الذي أعقب الحرب العالمية الأولى، صدم الجيش الألماني النازي، الفيرماخت، أوروبا والعالم باجتياحه معظم وسط أوروبا وغربها في غضون أشهر، وفي مرحلة ما، بدا أن القوات النازية مستعدة لغزو الاتحاد السوفيتي الضخم.
وكان الجيش الألماني قادرًا على تحقيق هذه الإنجازات الهائلة من خلال استخدامه لمفهوم الحرب الخاطفة أو حرب البرق المبتكر الذي يستخدم تقنيات جديدة في الأسلحة والاتصالات، ويجمع بين السرعة والمفاجأة وتركيز القوات ليحقق كفاءة مروعة، وبالتحديد، كانت وحدات المشاة المدرعة والميكانيكية، بمساعدة الدعم الجوي القريب المدى، قادرة على اختراق خطوط العدو وتطويق القوات المعارضة، وفي المعارك الافتتاحية في الحرب العالمية الثانية، غالبًا ما كانت القوات المعارضة السابقة الذكر مصدومة ومرهقة لدرجة أنها لم تُبدِ سوى الحد الأدنى من المقاومة.
وكان تنفيذ هجمات الحرب الخاطفة يتطلب قوات مدرَّبة تدريبًا عاليًا وقادرة على التعامل مع تكتيكاتها، وهو ما كان متوفرًا لدى جنود برلين، وكما أشار المؤرخ أندرو روبرتس: «في قتال الجندي مقابل الجندي تفوق الألماني المقاتل وجنرالاته على البريطانيين والأمريكيين والروس هجوميًّا ودفاعيًّا على حدٍّ سواء، من خلال عامل واحد تقريبًا طوال الحرب العالمية الثانية»، ومع أن أيديولوجية النازية وزعيمها المهووس قد أعاقا الجهود التي بذلها الفيرماخت، فإن الموارد والقوى البشرية غير الكافية هي التي أدَّت إلى سقوط ألمانيا النازية.
الجيش السوفيتي
كان الجيش السوفيتي (الذي عُرف باسم الجيش الأحمر 1946) مسؤولًا أكثر من غيره من الجيوش عن قلب مجرى الأحداث في الحرب العالمية الثانية؛ إذ يُشار عالميًّا إلى معركة ستالينجراد، التي انتهت باستسلام الجيش الألماني السادس بأكمله، على أنها نقطة تحول رئيسة في المسرح الأوروبي في الحرب العالمية الثانية.
إن انتصار الاتحاد السوفيتي في الحرب، وقدرته على تهديد بقية أوروبا على مدار العقود الأربعة التي تلَت توقف القتال، لم يكن له علاقة تُذكر بالتكنولوجيا المتفوقة (بعيدًا عن الأسلحة النووية) أو العبقرية العسكرية (في الحقيقة، كانت قيادة ستالين العسكرية كارثية، خاصة في بدايات الحرب العالمية الثانية، وتخلص أيضًا من عديد من القادة الأكثر قدرة ومعرفة في السنوات التي سبقت ذلك).
بل كان الجيش السوفيتي قوة عسكرية هائلة، وذلك بفضل حجم الدولة الكبير من حيث المساحة والسكان والموارد الصناعية. وكما أوضح ريتشارد إيفانز، المؤرخ البارز حول ألمانيا النازية، قائلًا: «وفقًا لتقديرات الاتحاد السوفيتي، بلغ إجمالي خسائر الجيش الأحمر في الحرب أكثر من 11 مليون جندي وأكثر من 100 ألف طائرة وأكثر من 300 ألف قطعة مدفعية، وما يقرب من 100 ألف دبابة ومدافع ذاتية الدفع. بينما قدَّرت السلطات الأخرى الخسائر في أفراد العسكر برقم أعلى من هذا بكثير يصل في الحقيقة إلى 26 مليونًا».
وبالطبع كانت هناك لحظات من العبقرية العسكرية، خاصة عندما مكَّن ستالين قادته القلائل البارعين والتكنولوجيا المتفوقة لا سيما دبابات T-34، إلا أنها لم تكن هي العوامل الحاسمة في نجاح الاتحاد السوفيتي، حيث استمرت تضحياته الهائلة في معركة برلين.
وباستثناء الأسلحة النووية، لم يكن الجيش السوفيتي في الحرب الباردة مختلفًا كثيرًا عن خصومه، وبينما كان لدى حلف شمال الأطلسي (الناتو) كثير من المزايا التكنولوجية خلال الصراع الذي دام أربعة عقود، تمتع الاتحاد السوفيتي بمزايا عدديَّة في عديد من الفئات خاصة في القوة البشرية، ونتيجةً لذلك، خططت الولايات المتحدة والناتو للتوجه إلى الأسلحة النووية في وقت مبكر في حالة حدوث صراع في أوروبا.
جيش الولايات المتحدة
تجنبت الولايات المتحدة في معظم تاريخها الاحتفاظ بجيش كبير، وكان هذا أمرًا مقصودًا؛ إذ يسمح دستور الولايات المتحدة للكونجرس بتجهيز سلاح البحرية وصيانته، بينما يعطيه سلطة تكوين الجيوش ودعمها حسب الحاجة فقط.
ووفَّت الولايات المتحدة بهذا النموذج حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث جمعت جيوشًا كبيرة خلال الحرب، إلا أنها سرعان ما فككتها بعد انتهائها، ومع ذلك، لا يزال الجيش الأمريكي منذ بداية القرن العشرين فعالًا للغاية، لا سيما في المعارك ضد الدول القومية. فقد كان دخول الولايات المتحدة في الحرب العالمية الأولى والثانية هو ما أسهم في ترجيح كِفَّة ميزان القوى لصالح الحلفاء، كما دمَّرت الولايات المتحدة جيش صدام حسين في الكويت عام 1991 وفي العراق عام 2003.
ويختم الكاتبان بالقول: والأكثر دلالة على قوة الجيش الأمريكي هو أن الولايات المتحدة هي القوة الوحيدة في التاريخ التي تنشر مجموعات هائلة من القوة العسكرية، بما فيها القوة البرية، بطريقة سريعة وفعالة، وهذا يسلط الضوء على أحد العوامل الرئيسة في نجاح الجيش الأمريكي، خاصة وأنه ليس كبيرًا من حيث العدد كما هو الحال مع دول مثل الاتحاد السوفيتي، ولكن الجيش الأمريكي يتمتع بقوات قتالية مدربة تدريبًا عاليًا وتستخدم تقنيات فائقة، كما أنه مدعوم بأعظم قوة بحرية وجوية عرفها العالم على الإطلاق.
المصدر: ساسة بوست
اقرأ أيضا: الملكة فيكتوريا.. تعرف إلى أقوى امرأة في تاريخ بريطانيا