عام 1997 أنتجت هوليوود فيلمًا يصور لنا غرق السفينة «آر إم إس تيتانيك» التي كانت واحدة من أضخم السفن وأفخمها وأكثرها تقدمًا من الناحية التكنولوجية آنذاك، لكن ذلك لم يشفع للسفينة تيتانيك أمام الجبل الجليدي الذي أنهى رحلتها الأولى والأخيرة ليهبط بها في قاع المحيط الأطلنطي عام 1912.
غرقت السفينة التي كان على متنها حوالي 2200 من الركاب، لم ينجُ سوى نصفهم تقريبًا. وفي حين أن الحادث يعد واحدًا من أكبر المآسي على الإطلاق، إلا أن هذه المأساة الملحمية تلتها مأساة أشد فتكًا وقعت أحداثها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، عندما غرقت السفينة الألمانية «فيلهلم جوستلوف»، التي كانت أشبه بسفينة نوح، وكان امتلاك تذكرة للوصول إلى متنها كأن تملك تذكرة خلاصك.
في السطور التالية نتقفى أثر السفينة الألمانية المنكوبة، ونتتبع قصة غرقها التي تعد أكبر كارثة بحرية في التاريخ؟
البداية: عمال هتلر المخلصين في إجازة فاخرة على متن «فيلهلم جوستلوف»
بوزنها الذي يبلغ 25 ألف طنًا استخدمت سفينة «فيلهلم جوستلوف» قبل الحرب في منح العاملين النازيين إجازات فاخرة في المحيط، كجزء من برنامج أطلقه هتلر في ثلاثينات القرن الماضي يسمى «القوة من خلال المتعة»، ويهدف إلى مكافأة العمال المخلصين.
ولم يكن من السهل حجز رحلة على متن سفينة «فيلهلم جوستلوف»، بل كان يجري اختيار الأشخاص الذين يسُمح لهم بالسفر على متنها من قبل الحزب النازي، وسميت السفينة تكريمًا لزعيم نازي يحمل الاسم نفسه، اغتيل على يد طالب يهودي في الرابع من فبراير (شباط) عام 1936، وقال أدولف هتلر في جنازته إنه «سيكون في صفوف شهداء أمتنا الخالدين»، وقد جرى تشغيل السفينة في حضور أدولف هتلر في الخامس من مايو (أيار) عام 1937.
ومع اندلاع الحرب تغيرت مهام الباخرة الفاخرة، فتحولت إلى سفينة مستشفى في بحر البلطيق والنرويج، ومن نوفمبر (تشرين الثاني) 1940 فصاعدًا استقرت في مرساة في (جدينيا-بولندا)، لتكون بمثابة ثكنة لقسم تدريب الغواصات الثاني، وشاركت أيضًا في عملية «هانيبال»، التي تضمنت إجلاء عسكريين ألمان ولاجئين مدنيين من موانئ شرق بروسيا، الواقعة بين الاتحاد السوفيتي وبولندا، والتي عزلت عن ألمانيا بسبب تقدم الجيوش السوفيتية في عمق مقاطعة بروسيا الشرقية.
تذاكر الخلاص إلى «سفينة نوح»
مع تقدم الاتحاد السوفيتي على الجبهة الشرقية لألمانيا في يناير (كانون الثاني) عام 1945 كان من الواضح أن كفة الحرب تميل ناحية الحلفاء، وبدا سقوط الرايخ الثالث في هذه المرحلة حتميًا وصمود برلين لن يطول.
وفي تلك الأثناء انتشرت بين الجماهير الألمانية قصص الاغتصاب والقتل على يد القوات السوفيتية الانتقامية، وبثت الرعب في النفوس؛ ما دفع العديد ممن يعيشون في طريق الجيش الأحمر إلى هجر منازلهم طلبًا للنجاة.
وفي مدينة جوتينهافن الساحلية (في بولندا حاليًا)، حيث رست السفينة الفاخرة، اصطف اللاجئون الداعمون لدول المحور (ألمانيا، وإيطاليا، واليابان) في طوابير كبيرة من الرجال، والنساء، والأطفال لحجز تذاكرهم هربًا من تقدم السوفيت، وانتشرت شائعات أنه سيجري إجلاؤهم إلى الغرب.
قصة غرق «فيلهلم جوستلوف».. أكبر كارثة بحرية عرفها التاريخ
قال هاينز شون، أحد ركاب سفينة «فيلهلم جوستلوف» في إحدى حلقات سلسلة «Unsolved History» على قناة «ديسكفري»: «كانت مثل سفينة نوح… وكان امتلاك تذكرة للصعود على متنها كأن تملك نصف خلاصك»، وقد سارع المدنيون الألمان وغيرهم من اللاجئين في حجز تذاكر خلاصهم كما ظنوا، غير مدركين أنهم على وشك استلام تذاكرهم الأخيرة، حيث الذهاب بلا عودة.
في البداية، حاول الطاقم الحفاظ على النظام، وعدم قبول صعود الركاب دون تذاكر، لكن سرعان ما خرج الوضع عن السيطرة، وتدفقت الحشود على السفينة التي لم تكن تكفي مساحتها سوى لاستيعاب ما يقرب من 1900 شخص فقط، ومع ذلك اكتظت بحوالي 10 آلاف شخص، من بينهم نحو 5 آلاف طفل.
سفينة المتعة تتحول إلى سفينة الموت
في المياه المظلمة لبحر البلطيق انطلقت السفينة «فيلهلم جوستلوف» بطاقمها وركابها في ظروف قاسية وسط درجات حرارة دون الصفر، وعواصف ثلجية، تتربص بها غواصة «S-13» السوفيتية بقيادة الكابتن الكسندر مارينسكو. وبينما كانت السفينة تبحر ببطء إلى الغرب، ظل مارينسكو يتتبعها، ثم في الساعة التاسعة مساءً أطلقت مجموعة من أربعة طوربيدات، أصاب ثلاثة منها السفينة.
وحملت الطوربيدات الثلاثة التي أطلقتها «S-13» رسائل تنقل رغبة السوفيت في الانتقام من المعاناة، التي سببتها القوات النازية للسكان السوفيت في وقت سابق من الحرب. وتسببت هذه الانفجارات في ضربات مميتة السفينة، ومحاصرة العديد من الركاب دون أي وسيلة للهروب وسط الانفجارات، والحرائق، وتطاير الأطفال في البحر، وانزلاق الركاب، والسقوط في البحر مع صعوبة توفر أيدي المساعدة.
ومن ناحية أخرى كان معظم الطاقم الفعلي للسفينة محاصرين خلف أبواب مانعة لتسرب الماء، جرى قفلها تلقائيًا عند الاصطدام. وسرعان ما أصبحت السفينة مسرحًا لتزاحم مجنون من أجل البقاء، يقول الناجي هورست ويت، الذي كان يبلغ من العمر 10 سنوات فقط حينها: «رأيت أشخاصًا – كثير منهم أطفال – يُداسون حتى الموت في محاولة لصعود الدرج، والصعود إلى قارب نجاة متاح».
كان ويت واحدًا من القلائل المحظوظين الذين نجوا على متن قارب ابتعد عن السفينة التي حولها الجيش الأحمر من سفينه المتعة إلى سفينة الموت التي لقي معظم ركابها حتفهم بعد ساعات فقط من صعودهم على متنها في 30 يناير (كانون الثاني) 1945، وتجمد الذين لم يلقوا حتفهم في الانفجار حتى الموت، في بحر البلطيق الجليدي؛ إذ تجاوز العدد الهائل للركاب قدرة طوافات النجاة المتوفرة بكثير.
وتراوح عدد القتلى بين ستة إلى 9 آلاف قتيل، من بينهم نحو 5 آلاف طفل في أسوأ مأساة بحرية في التاريخ، تفوق عدد ضحايا حادثة غرق تيتانيك بنحو ست مرات على الأقل، والذي بلغ عددهم نحو 1500 قتيل.
جدير بالذكر أن ضحايا «فيلهلم جوستلوف» لم يكونوا من الألمان فحسب، بل كانوا أيضًا من البروسيين، والليتوانيين، واللاتفيين، والبولنديين، والإستونيين، والكروات، ولم تتمكن سفن الإنقاذ إلا من انتشال حوالي 1200 ناجٍ فقط.
وكما خلدت السينما قصة تيتانيك الملحمية، تناولت عديد من الأفلام والأعمال الروائية قصة السفينة الألمانية المنكوبة، التي سميت بـ«تيتانيك ألمانيا النازية» مثل أفلام «جوستلوف (die Gustloff)» و«المحيط القرمزي (The Crimson Ocean)»، ورواية «في ممشى السلطعون Im Krebsgang)، إلى جانب عدد من الأفلام الوثائقية مثل فيلم «فيلهلم جوستلوف: أخطر كارثة بحرية في العالم (Wilhelm Gustloff: World’s Deadliest Sea Disaster)».
ساسة بوست
اقرأ أيضا: دولة للأثرياء فقط.. لا يوجد بين سكانها فقراء وضرائبها لا تُذكَر!!