روسيا للغرب: هنا تبدأ الحرب
كسرت روسيا حال المراوحة التي كانت دخلتها الأزمة الأوكرانية، مُنفّذة ما كانت توعّدت به من اعتراف أحادي باستقلال إقليم دونباس. اعترافٌ سرعان ما استدعى ردود فعل غربية مندّدة ومهدّدة، لتنفتح بذلك الأزمة على فصل جديد يبدو أنّه لن يُخطّ إلّا بالنار. إذ على رغم الحرص الروسي إلى الآن، على عدم الانجرار إلى «الغزو» الذي ملأ الغربيون الفضاء العالمي بالتحذير منه، إلّا أنّ إصرار هؤلاء على تجاهُل مطالب موسكو وفق ما تتّهمهم به الأخيرة، توازياً مع استمرار التصعيد العسكري لصالح كييف، سيكون من شأنهما تسهيل الانزلاق إلى معركة ربّما لم يكن يتمنّاها طرفاها، ولكن الأكيد أنّ يد الولايات المتحدة وحلفائها لن تكون هي العليا فيها
أخيراً، رسم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الخطّ الفاصل الذي يبدو أن الأزمة الأوكرانية ستنتقل منه إلى مرحلة الحسم، بعد حال المراوحة التي شهدتها، في ظلّ التخبُّط الذي يَسِم الأداء الأميركي حيالها. وهو تخبّطٌ ظلّت الولايات المتحدة حتى يوم أمس تحاول تمويهه بضخّ كمٍّ كبير من المعلومات والتصريحات بشأن «غزو روسي كبير وعنيف» لأوكرانيا، وفق ما كان جاء على لسان مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، الذي تحدّث عن «(أنّنا) رأينا في الساعات الـ24 الماضية تحرّكات أخرى للوحدات الروسية على الحدود في وضع يسمح لها بالهجوم». وفي قبالة استراتيجية التهويل تلك، لم يكن من الرئيس الروسي إلّا أن أعلن الاعتراف باستقلال المنطقتَين الانفصاليتَين في شرق أوكرانيا، في خطوة من شأنها تصعيد النزاع مع الغرب، الأمر الذي ظهرت أولى تجلّياته في التصريحات الصادرة عن المسؤولين الأوروبيين والأميركيين، الذي لوّحوا بـ»التكاتف» في ما بينهم من أجل وضع عقوبات على روسيا.
وفي خطاب بثّه التلفزيون الرسمي، قال بوتين: «أعتقد أنه من الضروري اتخاذ قرار تأخّر كثيراً، بالاعتراف فوراً باستقلال وسيادة كلّ من جمهورية دونيتسك الشعبية وجمهورية لوغانسك الشعبية». وجاء خطابه قبل أن يبثّ التلفزيون الرسمي لقطات لتوقيعه في الكرملين مع زعيمَي المنطقتَين الانفصاليتَين على اتفاقيات للتعاون المشترك. كذلك، طالب بوتين كييف بوقف «عملياتها العسكرية» في شرق البلاد «فوراً»، تحت طائلة تحميلها المسؤولية عن أيّ سفك للدماء.
قرار بوتين تلى ترؤّسَه اجتماعاً مطوّلاً لمجلس الأمن التابع للكرملين، استمع خلاله إلى كبار المسؤولين، الذين أكّدوا أن الوقت قد حان لتعترف روسيا باستقلال دونيتسك ولوغانسك. وفي الاجتماع الاستثنائي والموسّع الذي عقده المجلس المذكور لمناقشة الوضع في دونباس، جدّد بوتين اتّهام سلطات كييف بأنها لا تنوي تطبيق «اتفاقيات مينسك»، متحدّثاً عن «تهديد حقيقي بأن تبدأ أوكرانيا في استعادة أراضيها بالوسائل العسكرية… ثمّ سيتعيّن على حلف شمال الأطلسي بأكمله أن يشارك في هذه الأحداث»، ما يعني تهديداً مباشراً للأمن الروسي. وهو ما أكده أيضاً وزير الدفاع، سيرغي شيوغو، الذي اعتبر «الحشود الأوكرانية على حدود دونباس مؤشّراً إمّا إلى التحضير للاجتياح أو إلى محاولة استفزاز روسيا»، مضيفاً أنّ «لدى أوكرانيا إمكانيات لتصنيع أسلحة نووية». على أنّ أكثر ما لفت في اجتماع المجلس، الذي بُثّ على الهواء مباشرة، هو توافق أعضائه على ضرورة الاعتراف باستقلال دونباس، الأمر الذي أيّده كلّ من شويغو، ووزير الخارجية سيرغي لافروف، ونائب رئيس «الأمن الروسي»، ديمتري مدفيديف، الذي قال إنه «إذا استمرّ تطوّر الأوضاع على هذا النحو، فستكون ثمّة ضرورة للاعتراف باستقلال الإقليم»، في حين كان مجلس الاتحاد الروسي يصوّت بالفعل على قرار يطلب من السلطة التنفيذية اعترافاً من هذا النوع. ومع حلول مساء أمس، أعلن الكرملين أن بوتين أبلغ نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني أولاف شولتز، أنه بصدد توقيع مرسوم يعترف باستقلال دونيتسك ولوغانسك قريباً، وهو ما جرى خلال ساعات.
بات بإمكان موسكو تحريك قوّاتها لحماية مئات آلاف السكان في المنطقتين
ومن شأن هذا الاعتراف أن يطيح خطّة سلام هشّة ترمي إلى إنهاء النزاع الانفصالي المستمرّ منذ عام 2014، بعدما ضمّت موسكو شبه جزيرة القرم الأوكرانية. فعلى إثره، بات بإمكان موسكو تحريك قوّاتها لحماية مئات آلاف السكان في المنطقتين، بعدما منحهتم جوازات سفر روسية، كما بات بإمكانها أن تبرِّر تدخّلها هذا بأنّه يهدف لتأمين مواطنيها. وبالتالي، سيكون على أوكرانيا، إمّا القبول بخسارة جزء كبير من أراضيها، أو الدخول في نزاع مسلّح مع جارتها الأقوى.
وفي انتظار ما ستتمخّض عنه الأيام المقبلة على هذا الصعيد، تدافعت التصريحات الأوروبية والأميركية الشاجبة للخطوة الروسية. وبعد صدور القرار، أعلن البيت الأبيض أن الرئيس جو بايدن سيصدر أمراً تنفيذياً يحظر على الأميركيين أيّ تعاملات تجارية أو مالية مع دونيتسك ولوغانسك، موضحاً أن الأمر التنفيذي يخوّل فرض عقوبات على أيّ شخص يعمل في تلك المناطق من أوكرانيا. وبدوره، أعلن الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، أنه ناقش مع نظيره الأميركي، اعتراف روسيا بالمنطقتين الانفصاليتين المواليتين لها. ومن ثمّ عقد اجتماعاً لمجلس الأمن القومي التابع لكييف، تركَّز على الرد على إقرار بوتين أحادي الجانب باستقلال جزء من شرق أوكرانيا.
كذلك، ندّد الاتحاد الأوروبي بالخطوة الروسية، واصفاً إياها بأنها «انتهاكٌ صارخ للقانون الدولي»، ومتوعّداً الكرملين بردّ «حازم» عليها. واعتبر الأمين العام لـ»حلف شمال الأطلسي»، ينس ستولتنبرغ، بدوره، أن قرار موسكو «يمثّل انتهاكاً لاتفاقيات وقّعت روسيا عليها»، و»يقوّض بشكل إضافي سيادة أوكرانيا وسلامة أراضيها ويضعف الجهود الرامية لحلّ النزاع، وينتهك اتفاقيات مينسك التي تُعدّ روسيا طرفاً فيها». أمّا رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، فقد ندّد أيضاً بالاعترف الروسي، معتبراً إيّاه «انتهاكاً صارخاً لسيادة أوكرانيا وسلامة أراضيها»، في حين طالبت ألمانيا، روسيا، بالتراجع عن قرارها.
من جهته، ألغى الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، في اللحظات الأخيرة، زيارة كان مقرراً أن يقوم بها إلى جمهورية الكونغو الديموقراطية. وقرّر العودة سريعاً إلى نيويورك بسبب التأزّم في أوكرانيا، وفق ما أعلن المتحدث باسمه. وقال ستيفان دوجاريك، إنّ «الأمين العام، ونظراً لتدهور الأوضاع في ما يتعلق بأوكرانيا، ألغى زيارته إلى جمهورية الكونغو الديموقراطية. وهو عائد الثلاثاء إلى نيويورك».