الأحد , نوفمبر 17 2024
“السلطان” يتموضع قُبالة “القيصر”

“السلطان” يتموضع قُبالة “القيصر”

“السلطان” يتموضع قُبالة “القيصر”

يُصرُّ الرئيس رجب طيّب أردوغان على أن يكون لتركيا قُبالة “المسكوب”، الدور الذي يفرضه موقعها الجيوسياسي في إدارةالنزاع الروسي – الأوكراني. لذلك رأينا أردوغان منذ اندلاع الحرب على مشارف البحر الأسود، ينتقل من عرض التوسّط والتحكيم بين الطرفَين المتنازعَين، إلى إغلاق الممرات الحيويّة للبحر الأسود (مضائق البوسفور والدردنيل) بحجّة العمل لوقف تصعيد النزاع.

كأنَّ الرئيس التركي يريد توجيه رسالة قويّة لمَنْ تجاهل دعوته السلميّة، أي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بأنَّ حوض البحر الأسود الذي يضم قاعدة استراتيجيّة للبحريّة الروسيّة، هو محور أساسي للأمن الإقليمي لتركيا التي تتحكم بدورها بالممرات المائية الحيويّة، وهي بالتالي مفتاح القناة المُوصِلة بين البحر الأسود والبحر المتوسط حيث القاعدة الأماميّة للأسطول الروسي في طرطوس على الساحل السوري.

ويمكن لهذه الرسالة أن تحمل أيضاً معنى التموضع السياسي في مواجهة جيواستراتيجيّة كبرى بين روسيا والغرب، من شأنها تغيير صورة العالم، وبالتالي لا يسع تركيا القطب الإقليمي البارز سوى أن تحجز مكاناً لها فيها. ولقد تسنّى لأردوغان بفضل حنكته العمليّة (البراغماتية) التي تنسجم مع متطلبات مرحلة انتقاليّة فوضويّة في العلاقات والتوازنات الدوليّة، التوفيق بين علاقة إيجابيّة حسّاسة بالزعيم الروسي فلاديمير بوتين، (بعد سلسلة من خيبات الأمل والتوترات مع الغرب)، ومصالحه الاقتصاديّة والجيوسياسيّة مع أوكرانيا، والتي تشمل دعمها بالسلاح بعيداً عن الأضواء. وفي إطار هذه المعادلة الدقيقة، بذل أردوغان جهوداً كبيرة للقيام بوساطة بين موسكو وكييف في الأيام الأولى للحرب، كما توجّه إلى أوكرانيا للقاء الرئيس فولوديمير زيلينسكي.

وكرَّر أردوغان مرّات عدّة دعوته بوتين للقائه من دون أن يتلقى “السلطان” الردّ الذي يستحقه من “القيصر”. في تاريخ العلاقات الروسية – العثمانية، ثمَّ العلاقات التُركيّة – السوفياتيّة، أدلّة كافية على أهميّة الكتلة الجيوسياسيّة الضخمة لبلاد الأناضول المتّصلة بالعتبات القوقازيّة والبحر الأسود في حسابات “المسكوب”، بينما تفرض الحتميّة الجيوسياسيّة أن يكون لروسيا تأثير هائل في المصالح التركيّة ولتركيا العضو المشاكس في حلف شمال الأطلسي، حدودٌ بحريّةٌ مشتركةٌ مع كل من روسيا وأوكرانيا في حوض البحر الأسود الذي يُمثّل المنفذ الوحيد للأسطول الروسي إلى المياه الدافئة عبر مضائق البوسفور والدردنيل. وتنْظُم حركة الملاحة في المضائق اتفاقية مونترو (1936)، وهي تسمح لتركيا بإغلاق هذه الممرات الحيويّة في حال نشوب حرب في الجوار. وقد استدعت الترجمة الحرفيّة للاتفاقيّة تصريحاً لوزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو يُحدّد فيه النزاع الأوكراني – الروسي بأنَّه “حرب”.

ويعني قرار إغلاق ممرات البحر الأسود السفن الحربية فقط، أي عمليّاً الأسطول الروسي الذي يؤمّن الارتباط بين قاعدته الأساسية في شبه جزيرة القُرم وقاعدته المتوسطيّة على الساحل السوري. وهكذا رفضت أنقرة مرور ثلاث سفن حربيّة روسيّة في 21 و28 شباط/ فبراير بعد ثلاثة أيام على بدء العمليّة الروسيّة في أوكرانيا، علماً أن اتفاقية مونترو لا تنطبق على السفن الحربيّة العابرة إذا كانت مُسجلّة في البحر الأسود.

إلّا أن تركيا لم تُغلق مجالها الجوّي أمام الطائرات الروسيّة، وامتنعت عن الانضمام إلى حملة العقوبات الغربية ضدّ المصالح الروسيّة، كما امتنعت في المجلس الأوروبي عن التصويت على تعليق عضويّة روسيا. ويُشير هذا السلوك إلى أنَّ أنقرة التي يعتمد اقتصادها المُنهك إلى حدٍّ كبير على الغاز والقمح الروسي إلى جانب مواد أخرى، حريصة على عدم وضع كل أوراقها في سلّة واحدة.

يبقى أنَّ أردوغان يواصل بقلقٍ واضح جهداً ديبلوماسيّاً متعدّد الاتجاهات، يُركّز في المقام الأول على استمرار المفاوضات بين الجانبين المتنازعين سعياً إلى وقف الحرب. لكن مُعضلة أردوغان تكمن في صعوبة إقناع الجانب الروسي “باحترام سلامة أراضي أوكرانيا ووحدتها السياسيّة ضمن إطار القانون الدولي”، وإنْ كان مُنفَتحاً “على البحث في المطالب والمخاوف التي أعربت عنها روسيا”، كما قال الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالِنْ.

بل أنَّ المُعضلة التركيّة الأساسيّة تتمثّل في التحرّر من ضغوط المنظومة الأطلسيّة الغربيّة للبناء على قاعدة متوازنة للعلاقة مع موسكو تحلُّ مكان التقاطعات المُلتبسة في سوريا وليبيا ومنطقة القوقاز وآسيا الوسطى. وفي غياب ذلك لا شيء يمنع بوتين من إعادة طرح مسألة السيادة على ممرات البحر الأسود “كما فعَلَ ستالين وقبله القياصرة”، سوى الرهان على “حصان طروادة” التُركي في الكتلة الأطلسيّة. وفي تاريخ العلاقات الروسية – العثمانية، ثمَّ العلاقات التُركيّة – السوفياتيّة، أدلّة كافية على أهميّة الكتلة الجيوسياسيّة الضخمة لبلاد الأناضول المتّصلة بالعتبات القوقازيّة والبحر الأسود في حسابات “المسكوب”، بينما تفرض الحتميّة الجيوسياسيّة أن يكون لروسيا تأثير هائل في المصالح التركيّة.

لذلك تظل تركيا على الدوام معنيّة باحتمال عودة نزعة التوسع القيصريّة في روسيا. وإذا كانت العلاقة الإستراتيجيّة بين موسكو وأنقرة تتخذ منذ تفكك الاتحاد السوفياتي منحىً متعرّجاً، فإنَّ لا فِكاك للترابط الناتج من التداخل العميق بين العالَم الروسي (الأورثوذوكسي)، والعالَم التركي (الإسلامي) ومنه تتارستان وبشكيريا داخل الاتحاد الروسي، والجمهوريات الناطقة بالتركية في “الجوار القريب” الآسيوي، حيث حقّقت السياسة التركيّة في الآونة الأخيرة اختراقاً حقيقيّاً. ومن العبث الافتراض أن روسيا كقوّة عظمى لن تكون لها مصالح في تركيا، أقلّه لاعتبارات تتعلق بالأهميّة الحيوية للجوار السياسي.

وغنيّ عن القول أن عوامل مثل سيطرة تركيا على مضائق البوسفور والدردنيل ووجودها الكبير في البحر الأسود تُرسي مصالح مشتركة بين الجانبين. في وقت تُعيد روسيا النظر في مفهوم مصالح أمنها القومي، وتُعيد تحديدها لهذه المصالح، لم يعُد من مفرّ أمام تركيا لأن تُراجع حاجاتها الأمنيّة في البيئة العالميّة الجديدة، بل أن تُعيد صوغ بعض مصالحها القوميّة في ضوء الظروف الجديدة حتى وقت قريب، كان انتشار الأفكار المتعلّقة بجامعة الشعوب التركيّة يقتصر على قطاع ضيّق من المجتمع التركي، أي أقصى اليمين الحالم بعظمَةِ العِرق وأوساط المهاجرين الذين يشدّهم الحنين إلى “الوطن المفقود” في آسيا الوسطى. وكان هذا الموضوع يُعتبر من المُحرّمات في أوساط النُخب إجمالاً.

أمّا اليوم فالشعور بالهُوية الثقافيّة التركيّة الجامعة صار أمراً عاديّاً. للمرّة الأولى في تاريخهم يتحدّث الأتراك بحُرّية، ومن دون أن يُنعتوا بالشوفينيّة، عن وجود “عالَمٍ تُركي” على الطريقة التي نتحدث فيها عن عالم عربي، والحال أنَّ آليات الدفاع الروسيّة في مواجهة الاختراق التُركي لخطوط التماس بين العالمَين الإسلامي والسلافي الأورثوذوكسي في أوراسيا لم تقف مكتوفة الأيدي، وإليها يُمكن أن يُنسب التدخل العسكري الروسي الأخير في كازاخستان، وبها تُفسَّر مسارعة موسكو إلى الانقلاب على الأرمن في الحرب مع الآذريين لضبط الأوضاع في منطقة القوقاز بعيداً عن النفوذ التُركي.

وفي وقت تُعيد روسيا النظر في مفهوم مصالح أمنها القومي، وتُعيد تحديدها لهذه المصالح، لم يعُد من مفرّ أمام تركيا لأن تُراجع حاجاتها الأمنيّة في البيئة العالميّة الجديدة، بل أن تُعيد صوغ بعض مصالحها القوميّة في ضوء الظروف الجديدة. طبعاً، إنَّ صوغ مفهوم المصالح القوميّة ليس عمليّة موضوعيّة، بل يتصل غالباً برُؤى متناقضة، سياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة، لمجموعات متنافسة عدّة: قوميّون وأوراسيّون وإسلاميّون وليبراليّون.

180Post
ميشال نوفل

اقرأ ايضاً:بكلمات “تستفز” موسكو.. دول أوروبية تغير أسماء الشوارع التي تضم سفارةً لروسيا، والأخيرة تعلق