ضابط استخبارات رفيع داخل CIA لكنه يعمل لحساب روسيا.. قصة العميل الأمريكي جيم نيكلسون
بعد الحرب العالمية الثانية بدأت الحرب الباردة بين قطبي العالم آنذاك: الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وفي صلب تلك الحرب كانت المعركة بين أجهزة مخابرات الدولتين في أشدها، وفي إطار تلك المعركة سعت كل من الدولتين لتجنيد عملاء لها، لاسيما في أجهزة استخبارات الدولة العدو، سواء في أجهزة المخابرات الأمريكية أو الروسية.
ورغم انتهاء الحرب الباردة ورغم تفكك الاتحاد السوفييتي وتربُّع الولايات المتحدة على رأس النظام العالمي، فإن محاولات تجنيد العملاء داخل الولايات المتحدة وفي القلب منها وكالة المخابرات المركزية (CIA) من طرف روسيا ظلت مستمرة، بل وصلت إلى ذروتها بعد تفكك الاتحاد السوفييتي بعدة سنوات قليلة، في تسعينيات القرن الماضي، حيث تمكنت روسيا من تجنيد أحد كوادر وكالة المخابرات المركزية، والذي كان يعد أعلى ضابط استطاعت روسيا تجنيده في تاريخ صراعها مع الولايات المتحدة، وهو مثَّل وقتها ضربة مؤلمة للولايات المتحدة وأجهزة استخباراتها.
أحد هؤلاء، كان جيم نيكلسون، وهو ضابط استخبارات رفيع داخل المخابرات الأمريكية لكنه كان يعمل لصالح روسيا.
جيم نيكلسون.. من الحياة العسكرية إلى وكالة المخابرات الأمريكية
بدأت القصة في عام 1950، حيث وُلد جيم نيكلسون في 17 نوفمبر/تشرين الثاني من ذلك العام بولاية أوريغون الأمريكية، لأب يعمل ضابطاً في سلاح الجو الأمريكي، لينشأ جيم نيكلسون حياة حافلة اعتاد فيها على التنقل واحترام القيم العسكرية، لذلك التحق بمدرسة ديزرت الثانوية العسكرية في قاعدة إدواردز الجوية بكاليفورنيا، ليبدأ حياته العسكرية باكراً.
كان جيم يُوصف بأنه “الطفل المستقيم” من قِبل زملائه في المدرسة، إذ لم يكوّن معهم صداقات، وكان انطوائياً كما يذكر بعض زملائه. وفي الجامعة، ظل جيم على طبعه، إذ لم يحظَ بصداقات في جامعة أوريغون، إلا أنه تعرَّف على لورا سو كوبر التي كانت تجمعهما بعض الاهتمامات والطبائع المشتركة، مما قرَّبهما من بعضهما البعض لتصبح فيما بعدُ زوجته، كما أشارت صحيفة Los Angeles Times الأمريكية.
عندما تخرج جيم، في عام 1973، تركت لورا الدراسة ولم تكملها، لتلحق بجيم وتتزوجه، بينما كان قد التحق بالجيش وأصبح ضابطاً فيه. وبسبب كثرة تنقلات جيم من قاعدة عسكرية إلى أخرى في العديد من الولايات الأمريكية، كانت لورا مصدومة من ذلك الأمر ولم تستطع التكيف معه، في حين كان هذا الأسلوب من الحياة مألوفاً بالنسبة لجيم، الذي اعتاد على أجوائها منذ أن كان طفلاً، بسبب تنقلات والده الطيار.
في غضون ذلك، أخذ جيم يرتقي في الرتب العسكرية حتى ارتقى إلى رتبة نقيب وأصبح قائد سرية في الجيش، كما اهتم بتعلم بعض التقنيات الرقمية العسكرية، فتعلم التشفير وتدرب عليه وهو ما جعله يحظى بفرصة في المخابرات العسكرية، إذ حصل على منصب مرموق فيها.
وبحلول عام 1978، وُلد الابن الأول لجيم ولورا، ولم تستطع لورا الاستمرار في حياة التنقل تلك، ما جعلها تلح على جيم لترك وظيفته بالجيش، فاستجاب لها جيم وترك الجيش وانتقل بأسرته إلى كانساس سيتي وعمل بوظيفة عادية بعيدة كل البعد عن خبراته السابقة، كما عملت لورا في أحد البنوك، إلا أنها لم تستطع الاستمرار في تلك الوظيفة.
لم يستمر هذا الوضع كثيراً، إذ لم يطِق جيم حياته الجديدة تلك، وسرعان ما أصبح يتوق إلى العودة من جديد لعمله السابق، فتقدم إلى وكالات المخابرات المركزية (CIA) ليُقبل في أكتوبر/تشرين الأول 1980، وليبدأ تدريبه في كامب بيري في فيرجينيا، في الوقت الذي كانت فيه إدارة ريغان تضخ المليارات لوكالة المخابرات المركزية؛ لتعزيز تقدم الولايات المتحدة على الاتحاد السوفييتي في الحرب الباردة التي كانت قد وصلت لذروتها، ما مهَّد صعود جيم السريع في عالم الاستخبارات.
ضابط استخبارات يترقى بسرعة
جاءت أول مهمة تجسس خارجية لنيكلسون في عاصمة الفلبين؛ مانيلا، حيث وُظف كضابط بوكالة المخابرات المركزية من عام 1982 إلى عام 1985 في مانيلا، وبدلاً من قبول وظيفة بمقر وكالة المخابرات المركزية في لانجلي في فيرجينيا بعد انقضاء مدته في مانيلا، ذهب نيكلسون على الفور من مانيلا إلى العاصمة التايلاندية بانكوك ليبقى فيها عامين آخرين، ومن هناك إلى عامين آخرين في طوكيو باليابان، وهكذا كان جيم منهمكاً تماماً في حياته المهنية الاستخباراتية، إذ ظل يقبل المهام الأجنبية الصعبة مهمةً تلو الأخرى، وبهذا أصبح جيم مدمناً للعمل المكثف، مما جعله يلغي كثيراً من الإجازات العائلية.
بحلول ذلك الوقت، كان لدى جيم ولورا ثلاثة أطفال، وكانت لورا ترى أن الأطفال يتأذون من تلك التحركات المستمرة، واشتكت من أنه “منذ انتقالهم من مانيلا أخبرها الأطفال بأنهم ليسوا سعداء بالانتقال كثيراً من بلد إلى آخر، بسبب الاضطرار إلى ترك الأصدقاء، والاضطرار إلى الذهاب إلى مدارس جديدة، والاضطرار إلى الذهاب إلى بلد جديد، وتغيير دواليب الملابس والاعتياد على المناخات الجديدة”، وهو ما جعلها تلجأ إلى رفع قضية طلاق وحضانة للأطفال، وحصلت على الانفصال في نهاية الأمر.
رغم ذلك، لم يغيّر جيم من طبيعة حياته وظل مستمراً في التحرك حول العالم لأداء المهام الاستخباراتية الخارجية، إلا أنه في عام 1990 جاءت أول استراحة كبيرة لنيكلسون عندما عُيِّن رئيساً لمحطة وكالة المخابرات المركزية في رومانيا، حيث وصل نيكلسون إلى بوخارست في أعقاب الثورة الرومانية في عام 1989 وسقوط نظام الدكتاتور تشاوشيسكو الشيوعي، في وقت كانت فيه وكالة المخابرات المركزية الأمريكية تفقد اهتمامها برومانيا التي خفضت العمليات فيها، ما أعطى لنيكلسون فرصة للراحة والاستقرار هناك.
بعد أن استقر جيم في بوخارست، قام برحلة إلى الولايات المتحدة في عام 1992 هو والأسرة، إلا أن لورا لم تستطع الرجوع إلى رومانيا حيث لم ترُق لها الحياة هناك، فذهبت للعيش مع أهلها من جديد في ولاية أوريغون بعد أن حصلت على الطلاق من جيم، في حين بقي الأطفال معه وعادوا إلى بوخارست.
استمرار الترقي رغم التحذيرات من استهدافه ليكون عميلاً!
بعد عودة جيم نيكلسون إلى بوخارست عاد الاستقرار من جديد لحياة جيم، حيث عاد ليباشر عمله في رومانيا، وذلك بعد أن انهار الاتحاد السوفييتي الذي كانت رومانيا تُعتبر جزءاً منه سابقاً، إذ تواجد الجيش السوفييتي على الأراضي الرومانية لفترة طويلة بعد الحرب العالمية الثانية؛ وهو ما ساهم في قيام جمهورية رومانيا الشعبية الاشتراكية الموالية للاتحاد السوفييتي.
وعلى الرغم من انهيار الاتحاد السوفييتي أيضاً، عبَّر بعض المسؤولين الأمريكيين في بوخارست عن قلقهم من أن جيم قد يكون في بيئة تسمح بتجنيده من قِبل عملاء المخابرات من بقايا الكتلة الشيوعية المتداعية، فيما أُرسلت تلك المخاوف إلى رؤساء نيكلسون في مقر وكالة المخابرات المركزية.
يقول جون ديفيس سفير الولايات المتحدة لدى رومانيا في ذلك الوقت، عن جيم نيكلسون: “تقليدياً، يُنظر إلى الناس على أنهم عرضة للتجنيد إذا كانوا يعانون من مشاكل عاطفية في ميدان العمل الاستخباراتي”، ويكمل حديثه عن جيم: “لابد أنه كان يعاني من مشاكل نفسية حادة ليفعل ما فعله، فبعد أن أمضى جيم كل تلك السنوات كضابط مخابرات مثالي، لا يُعقل أن ينقلب فجأة هكذا دون مشكلة نفسية ضخمة”.
مع ذلك، أكد كبار المسؤولين الأمريكيين أنه لا يوجد دليل على أن نيكلسون بدأ التجسس لصالح روسيا وهو في رومانيا، إذ إن التحقيقات فيما بعد أظهرت أن جيم لم يبدأ التعاون مع الروس إلا بحلول عام 1994 في الوقت الذي كان فيه في كوالالمبور.
فرغم التحذيرات التي أُرسلت إلى رؤساء نيكلسون، رُقِّي نيكلسون في عام 1994، حيث أُرسل إلى العاصمة الماليزية كوالالمبور ليصبح نائب رئيس الدائرة الاستخباراتية هناك، والتي كانت محطة أكبر من بوخارست، وهو ما كان يعني ترقية نيكلسون.
وفي يونيو/حزيران 1994، دخل نيكلسون إلى السفارة الروسية في كوالالمبور؛ ليحصل على أول دفعة من المال مقابل ما قدَّمه إلى الروس من معلومات، والتي كان قدرها 12 ألف دولار، بينما لم يكن أحد بالسفارة الأمريكية في كوالالمبور، أو الدائرة الاستخباراتية من زملائه يعلم ما يحدث من قبل جيم، الذي كان يُنظر إليه على أنه ضابط له مستقبل ذهبي.
بحكم وظيفته، كان لدى جيم تصريح أمني يضمن له وصولاً منتظماً ومتكرراً إلى معلومات الأمن القومي الأمريكية والوثائق الاستخباراتية الأمريكية السرية والحساسة، وهو ما جعله عنصراً ذا قيمة عاليةً جداً للمخابرات الروسية.
وفي أعلى منصب له، عُيِّن جيم نيكلسون رئيساً لفرع بمركز مكافحة الإرهاب في مديرية العمليات بمقر وكالة المخابرات المركزية في لانجلي، بفيرجينيا، وذلك في يوليو/تموز 1996، ما جعله على اطلاع على معلومات أكثر حساسية من ذي قبل، في تجاهل تام من قيادات نيكلسون للتحذيرات المرسلة إليهم منذ عمله في بوخارست. وهكذا، استمر جيم في التواصل مع الروس لأكثر من سنتين قبل أن يُعتقل.
ففي مطار دالاس الأمريكي كان جيم متجهاً إلى إحدى سفرياته المعتادة إلى الخارج، في إطار مهام عمل له بعلم الـCIA، والتي كان يقابل خلالها ضباط المخابرات الروسية ليمدهم بالمعلومات المتوافرة لديه، إلا أنه في هذه المرة كان في انتظاره بالمطار أحد ضباط الـFBI الذي كان متخصصاً في الكشف عن احتمالية تجنيد بعض ضباط المخابرات الأمريكيين من قِبل أجهزة أجنبية، ليدور بحث آنذاك عن جيم نيكلسون، ما أظهر العديد من علامات الاستفهام التي تدور حوله، ليقبض عليه في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1996.
100 ألف دولار من الاستخبارات الروسية!
في هذا الإطار، صرح مايكل لونيرجان، وكيل مكتب التحقيقات الفيدرالي الخاص، والمسؤول عن قضية نيكلسون، بأن جيم قد حصل على أكثر من 100 ألف دولار من جهاز الاستخبارات الروسي (SVR) مقابل ما قدمه من معلومات تتعلق بالأمن القومي الأمريكي، منذ عام 1994.
وأظهرت أدلة مكتب التحقيقات الفيدرالي أن جهاز الكمبيوتر المحمول المملوك لجيم، كان يحتوي على العديد من الوثائق السرية لوكالة المخابرات المركزية، المتعلقة بروسيا والتي حُذفت كلها من على القرص الصلب وأدلة البرامج داخل الجهاز، مما يشير إلى أنها نُسخت على قرص آخر ونُقلت إلى المخابرات الروسية، وفقاً لتحليل الـFBI.
كان من بين تلك الوثائق، معلومات حول ضابط تابع لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية بمنصب رفيع في موسكو، فيما علَّق الـFBI بأن الكشف عن هذا الضابط يؤدي بالضرورة إلى خسائر في المصادر الاستخباراتية البشرية الأمريكية، وهو ما تسبب في أضرار جسيمة لقدرات المخابرات الأمريكية، وهذه عينة واحدة من مجموع ما أرسله جيم نيكلسون إلى المخابرات الروسية، حسب الرواية الأمريكية.
وقال تحقيق الـFBI إن نيكلسون كان مسؤولاً عن منشأة لتدريب عملاء المخابرات الأمريكية في فيرجينيا خلال سنوات عمله الأخيرة بالولايات المتحدة، وهو ما منحه إمكانية الوصول إلى معلومات حساسة للغاية، من ضمنها بما الوصول إلى معلومات السيرة الذاتية والمهام لكل المسؤولين التابعين لوكالة المخابرات المركزية الذين دُرِّبوا خلال فترة عمله.
نتيجة لذلك؛ صرح مكتب التحقيقات الفيدرالية أنه سيكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، على وكالة المخابرات المركزية أن تضع بعض هؤلاء الضباط المدربين في مناصب وأماكن أجنبية حساسة معينة، وذلك لبقية حياتهم المهنية. علاوة على ذلك، ستكون طرق التدريب والأساليب التي دُرست في عهد نيكلسون لضباط الاستخبارات، بمثابة معلومات قيمة جداً لوكالات الاستخبارات الأجنبية وعلى رأسها الـ SVR، حسب موقع USA Today الأمريكي.
وبعد اعتراف من جيم بما فعله؛ حصل على عقوبة بالسجن لمدة 23 عاماً، في حين ذكرت لائحة اتهام جديدة ضد جيم أن الروس يعتقدون أن جيم نيكلسون قد يكون قادراً على تزويدهم بمعلومات قيمة من مكانه – أي في محبسه – وهو ما جعل السلطات الأمريكية تمنع تحدث أي شخص إلى نيكلسون إلا 6 أشخاص فقط، وصرح قاضي القضية أنه من المحتمل أن يظل جيم في الحبس الانفرادي حتى عام 2025 على الأقل، حسب موقع قناة Fox News الأمريكية.
ولا شك أن نجاح الـ SVR في تجنيد جيم نيكلسون كان صفعة كبرى للولايات المتحدة وأجهزة استخباراتها وفي القلب منها CIA أكبر جهاز مخابرات في العالم، وهو الأمر الذي لا يجعل المخابرات الأمريكية تخسر مصادرها البشرية والتقنية وخططها فقط، بل أيضاً سمعتها في العالم كقوة عظمى.
عربي بوست
اقرأ ايضاً:صحيفة فرنسية: ما نوع التهديد الذي قد يدفع بوتين إلى استخدام الأسلحة النووية؟