سيناريو “يوم القيامة”.. حرب إستئصال روسيا!
سميح صعب
يُهدّد طول الحرب الأوكرانية وغياب أفق الحل السلمي، بمحوٍ متزايدٍ للخط الفاصل دون تطورها إلى مواجهة مباشرة بين روسيا من جهة والولايات المتحدة وحلفائها من جهة ثانية، برغم تهيب الجميع الإنزلاق إلى هاوية تقود إلى حرب عالمية ثالثة بين قوى مسلحة نووياً هذه المرة. إنه سيناريو “يوم القيامة” بإمتياز.
في تورط مقنّع بالحرب، لا تزال الولايات المتحدة ودول حلف شمال الأطلسي تُغرق أوكرانيا بالسلاح وفق وتيرة متصاعدة، من الصواريخ المضادة للدروع إلى البحث عن أنظمة صواريخ سوفياتية-روسية من طراز “إس-300″، وكان لافتاً للإنتباه سؤال أميركا لتركيا عما إذا كانت مستعدة لإرسال صواريخها من طراز “إس-400” إلى أوكرانيا. وتعتزم أميركا تعزيز شحنات أوكرانيا “الفتاكة” بمليارات جديدة من الدولارات، من دون صرف النظر نهائياً عن إحتمال إيصال المقاتلات البولندية والبلغارية من طراز “سوخوي-29” إلى الداخل الأوكراني، ونشر صواريخ “الباتريوت” الأميركية في سلوفاكيا، مقابل نقل الأخيرة صواريخها من طراز “إس-300” إلى الجوار الأوكراني. بدورها، ألمانيا التي كانت تحاذر في بداية الحرب إرسال خوذ إلى الجيش الأوكراني، ترسل آلاف الصواريخ المضادة للدروع وللطائرات يومياً. أما بولندا، فقد ذهبت أبعد من ذلك، إلى حد المناداة بإرسال قوة أطلسية من مئة ألف جندي لحفظ السلام في أوكرانيا؛ وبقدر ما يبدو هذا الإقتراح غير واقعي بقدر ما يعبّر عن الحنين إلى أيام الكومنولث البولندي – الليتواني الذي كان يحتل أوكرانيا في القرن السادس عشر!
الحملة “الصليبية” المتبعة حيال روسيا، لا تترك فسحة لبوتين كي يتراجع، ولا تبعث بإيماءة ولو من بعيد لزيلينسكي كي يدخل في مفاوضات جدية لوقف الحرب، وهذا يعني أن الغرب يعتقد اليوم أنه أوقع روسيا في الفخ
شحنات الأسلحة المتدفقة تترافق مع خطاب غربي يهيء لعالم، لا مكان فيه لروسيا. هكذا أوحت مداولات القمم الغربية الثلاث في بروكسيل الأسبوع الفائت، وما رافقها من مواقف وتصعيد. والرئيس الأميركي يعد أوروبا بتعويضها الغاز الروسي بغاز أميركي من الآن وحتى العام 2030، ويعتبر أن الإستمرار في الإعتماد على الطاقة الروسية لم يعد يستقيم “أخلاقياً” بعد هجوم روسيا على أوكرانيا، وكذلك الأمر بالنسبة إلى عضوية روسيا في مجموعة العشرين، وأنه لا بد من طرد روسيا وإستبدالها بأوكرانيا.
تقود الولايات المتحدة حملة سياسية وإقتصادية وثقافية لإستئصال كل ما يمت بصلة إلى روسيا. وهي حملة تستنفر الغرب للدفاع عن النظام العالمي القائم، في ما يتجاوز أوكرانيا بكثير. من هنا هذه الجذرية في المواقف الأميركية. فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليس أقل من “مجرم حرب” و”ديكتاتور قاتل” في نظر بايدن، والسناتور الجمهوري ليندسي غراهام يدعو إلى إغتياله لوقف الحرب. وزير المال الفرنسي برونو لومير لا يقبل ثمناً لغزو أوكرانيا بأقل من “تدمير وإنهيار” النظام الروسي. وناطق باسم رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون يقول صراحة إن الغاية من العقوبات غير المسبوقة على روسيا هي “إسقاط نظام بوتين”.
وسائل إعلام وكتّاب غربيون لا يستطيعون كبح جماح حماستهم في الدعوة إلى “محو روسيا عن الخريطة” السياسية. كاتب العامود في صحيفة “الواشنطن بوست” ديفيد إغناتيوس، يدعو إلى المضي في الحملة على روسيا حتى تُوقّع على إتفاق إستسلام مماثل لإتفاقي إستسلام ألمانيا واليابان في الحرب العالمية الثانية. ويستفظع أستاذ العلاقات الدولية في جامعة تكساس كريستوفر لاين في مقال بمجلة “ذا ناشيونال إنترست” الأميركية هذا الخطاب ويقول إن المناشدة العاطفية للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أمام الكونغرس ووسائل الإعلام ومجموعات الضغط الموالية لأوكرانيا في الولايات المتحدة نجحت في تصوير أوكرانيا وكأنها خط الدفاع الأول عن الديموقراطية في العالم، علماً أن منظمة الشفافية العالمية صنفتها في المرتبة 122 في سلم الأنظمة الفاسدة من أصل 180 بلداً تراقبها المنظمة. لكن ألم يُقسّم بايدن العالم إلى “فسطاطين” أنظمة ديموقراطية ضد مستبدة.
ويستغرب الخبير في الدراسات الدفاعية والسياسية في معهد كاتو الأميركي للأبحاث تيد غالن كاربنتر، سياسة واشنطن التي “تتميز بالعاطفة المفرطة والحدة ووصول العداء لروسيا إلى مستويات سامة” ليصل إلى إستنتاج بأنه لا يمكن الولايات المتحدة التعامل مع روسيا وكأنها كوريا الشمالية، علماً بأن السياسة الأميركية حيال بيونغ يانغ، لم تؤدِ إلى نتائج إيجابية. هل من قبيل الصدف أن يختبر كيم جونغ-أون أقوى صاروخ لديه عابر للقارات في الوقت الذي كان قادة حلف شمال الأطلسي مجتمعين في بروكسيل في قمة إستثنائية لمناقشة كيفية تصعيد الضغط على روسيا.
من قال إن بوتين سيقف غير مبالٍ أمام شحن الغرب السلاح إلى أوكرانيا لقتل الجنود الروس؟
الحملة “الصليبية” المتبعة حيال روسيا، لا تترك فسحة لبوتين كي يتراجع، ولا تبعث بإيماءة ولو من بعيد لزيلينسكي كي يدخل في مفاوضات جدية لوقف الحرب. وهذا يعني أن الغرب يعتقد اليوم أنه أوقع روسيا في الفخ وأن الإستراتيجية الغربية تقوم على دعم أوكرانيا بالسلاح والمال كي تُنهك الجيش الروسي وتُؤسس لمناخ في داخل روسيا يصير فيه من المتعذر على بوتين الإستمرار في سدة القيادة، وتالياً الوصول إلى وهم خروج الروس في تظاهرات عارمة إلى الشوارع في “ثورة ملونة” تخرج أليكسي نافالني من السجن إلى الكرملين!
مثل هذه السياسة تنطوي على مخاطر تصعيد النزاع إلى خارج الحدود الأوكرانية. إذ من قال إن بوتين سيقف غير مبالٍ أمام شحن الغرب السلاح إلى أوكرانيا لقتل الجنود الروس. إن القصف على قاعدة عسكرية أوكرانية لا تبعد سوى 12 كيلومتراً عن الحدود البولندية/الأطلسية، هي رسالة لا لبس فيها عن إمكانات تمدد الحرب، وعن قدرات الجيش الروسي. وفي تغطية وسائل الإعلام الغربية لوقائع الحرب، كان ثمة تساؤل يتردد كثيراً على ألسنة خبراء عسكريين غربيين، حول سبب عدم ظهور الأنواع المتقدمة من الأسلحة الروسية في الحرب الأوكرانية. قد يكون الجواب على ذلك هو التحسب لإحتمالات توسع النزاع.
وقبل بايدن، رؤساء أميركيون كثيرون قطعوا تعهدات بعدم التورط في حروب في الخارج، ثم وجدوا أنفسهم في قلب آتونها. والمضي في إرسال السلاح و”الفرق القتالية” إلى تخوم روسيا يتجاوز عامل الردع، ومناورات “الرد البارد” التي يجريها حلف شمال الأطلسي بمشاركة عشرات آلاف الجنود في النروج غير بعيد عن الحدود الروسية، قد تتحول “رداً ساخناً” في أي لحظة.
بخطى ثابتة يقترب الغرب من الصدام المباشر مع روسيا، وهو قد هيّأ لهذه اللحظة منذ الشروع في ضم دول أوروبا الشرقية إلى حلف شمال الأطلسي. وهذا يطرح سؤال: هل تأخرت روسيا في الرد؟
كل ذلك، يُقلّص المسافة الفاصلة بين عدم التدخل، والتدخل المباشر. وعندما يُهدّد بايدن بأنه سيرد إذا استخدمت روسيا الأسلحة الكيميائية في أوكرانيا، ماذا يعني هذا؟ وما لم يقله بايدن، قاله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عندما أورد مثالاً عما فعلته فرنسا وأميركا وبريطانيا عام 2018 في سوريا عقب تقارير عن إستخدام الجيش السوري السلاح الكيميائي في خان شيخون، في تذكير بقصف صواريخ من البحر شنّته الدول الثلاث على مواقع سورية عامذاك.
ويقول مدير التحليلات السابق في وكالة الإستخبارات الأميركية “سي أي إي” للشؤون الروسية جورج بيبي، إن “جون كينيدي إستخلص درساً أساسياً من أزمة الصواريخ الكوبية ألا وهو أن زعماء القوى النووية يحتاجون إلى نزع فتيل الأزمات، من طرق مساعدة بعضهم البعض على إيجاد تسويات متبادلة تحفظ ماء الوجه”.
هذا لا ينطبق أبداً على واقع أميركا اليوم التي تستميت في الدفاع عن النظام العالمي الذي أرست أسسه بعد إنهيار جدار برلين وتفكك الإتحاد السوفياتي قبل أكثر من ثلاثين عاماً.
إن المسألة تتجاوز أوكرانيا. وفي كلام الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية نيد برايس قبل أيام ما يُفصح عن الهدف الأوسع بقوله “إن النقطة الأساسية تكمن في أن ثمة مبادىء تتعرض للخطر هنا (أوكرانيا) ويمكن تطبيقها عالمياً في كل مكان”.
وبخطى ثابتة يقترب الغرب من الصدام المباشر مع روسيا، وهو قد هيّأ لهذه اللحظة منذ الشروع في ضم دول أوروبا الشرقية إلى حلف شمال الأطلسي. وهذا يطرح سؤال: هل تأخرت روسيا في الرد؟
180 بوست