ودَّع السوريون شتاء هذا العام بعبارة “روحة بلا رجعة” أو على الأقل هذا ما قاله لنا جهاد الشاب العشريني الذي باتت رؤيته فوق مكبات القمامة أمراً روتينياً. فهو ينهي عمله الصباحي في معمل قريب من سكنه لتبدأ رحلته بين الحاويات والمكبات. حيث يجمع منها ما تيسر له من عبوات بلاستيكية وكرتون وورق أو حتى الثياب القديمة والخبز اليابس لبيعهم لاحقاً لأحد المعامل أو للاستفادة منهم كوقود لما يشبه مدفأة الحطب كان قد عثر عليها سابقاً في إحدى الحاويات. والتي يعدها جهاد “غنيمة محرزة” على حد قوله.
ويروي لنا أخوه الصغير جمال وهو متباهياً بنفسه كيف يساعد أخوه فور عودته من المدرسة بجمع البلاستيك وفرزه بعد ذلك عن باقي الأشياء التي يجمعها كل يوم هو وأخوه وأصدقائهم أيضاً. غير آبهين لا بالبرد ولا بالروائح الكريهة ولا بما تحمله هذه المهمة من مخاطر. حتى أن “النبش في القمامة” أصبحت مهنة قائمة بذاتها. يقوم بها كل أفراد العائلة المكونة من خمسة أشخاص فهم يأكلون من القمامة ويلبسون منها أيضاً.
أزمات متتالية
وإن ظن البعض أن ما مضى في السنوات السابقة من حرب وعنف وقتل كان الصعب، فإن ما حدث هذا الشتاء هو الأقسى على الإطلاق. ويقول ” أبو محمد” لايوجد أصعب من أب يعجز عن إطعام أطفاله وتدفئتهم” فشتاء هذا العام حلّ مترافقاً مع أهوال التدهور الاقتصادي الخانق محمَّلاً بسيل من الهموم يواجهها السوريون باللحم الحيّ. ويتابع أبو محمد وهو ناطور في إحدى بنايات العاصمة:” صرنا نترحم على أيام القذائف والتفجيرات، لأن الجوع والبرد بيكسر الظهر”.
مثله مثل عدد كبير من المواطنين لا يستوعب ولا يعرف بأي وسيلة سيتدفأ. ففقدان المازوت وانقطاع الكهرباء وغلاء الأسعار بشكل لا يصدقه عقل، جعلت من الشتاء ضيف ثقيل لا يحتمل.
وإن كان السوريون سابقاً قد اعتادوا على جمع مؤونة الشتاء وتخزينها في بيوتهم، فإنهم وعلى مدى الأعوام القليلة الماضية بالكاد استطاعوا تأمين قوتهم اليومي. كما أن الحالة المعيشية لا تتيح لناديا (55 عاماً) المجال للتفكير بالغد. فتشتري مكونات طبختها كل يوم بيومه. إذ لا مجال لوضع المؤونة، أو زيادة كمية الطبخة لتكفي أكثر من يوم.
ولم يستطع الثلج الأبيض البارد أن يطفئ نار الأسعار بل زادها تأجيجاً. فأضحى للسلع الغذائية التموينية بورصة. كل يوم سعر وفي ارتفاع مستمر، هذا عدا عن فقدان بعض المواد.
رفع الدعم
جاءت محاولة الحكومة السورية لإنقاذ طبقة الفقراء وإنصافها برفع الدعم عن الميسورين وتوجيه دعم المحروقات والخبز للمحتاجين مخيبة للآمال. كما وصفها خبراء الاقتصاد في أكثر من مناسبة، هذا عدا عن “الهرج والمرج” الذي رافق هذه العملية والأخطاء التقنية التي اعترف بها بلسانه وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك عمرو سالم. والتي لم نرَ حتى الآن أي نفع اقتصادي لها على أرض الواقع، بالعكس تماماً زادت الأمور سوءاً.
الحرب الروسية الأوكرانية
وكأن الوضع لا ينقصه سوى حرب خارجية تذرع فيها كل من هب ودب لرفع الأسعار واحتكار المواد، والتي قابلها عجز حكومي واضح عن تقديم حلول إسعافية تنتشل البلاد من مستنقع التدهور الاقتصادي. الذي ينعكس بدوره على الواقع المعيشي للمواطن.
وبينما كلّلت الطبيعة رؤوس الجبال ببياض الثلج، بقيت الأجواء السوداوية تخيّم على مصير آلاف السوريين الذين يصطدمون يومياً بمفاجأة جديدة. ووفق تقارير دولية عديدة، نحو ٩١٪ من السوريين. يعيشون تحت خط الفقر، فيما يواجه ٨٠٪ منهم صعوبة في تأمين رغيف الخبز.
هذا التدهور الاقتصادي البائس، بات يهدّد بتفسّخ العلاقات الاجتماعية، وانهيار المنظومة القيمية والأخلاقية. وليس أدل من ذلك سوى قصص الأطفال المرمية هنا وهناك. فعندما تتحول “قضية رمي الأبناء” من حادثة عابرة لحالات يومية، فهذا يتطلب حلول سريعة وليست إعلامية فقط .
وكان قد وصف عمران رضا منسق الأمم المتحدة ومنسق الشؤون الإنسانية في سوريا الوضع سابقاً بأنه سلسلة من الأزمات. وقال لرويترز “نشهد مستويات من الفقر والعوز لم نشهدها من قبل”. وأضاف “ترى كثيرين يتحركون صوب آليات تكيف سلبية: المزيد من تشغيل الأطفال والمزيد من زواج الأطفال ومستويات عالية جداً من الدّين الآن. الناس يبيعون متعلقات أساسية من البيوت”.
سنسيريا – سهى شوفان
اقرأ أيضا: السوق المفتوح أفضل موقع لبيع وشراء السيارات في الإمارات