مقاتل من الجيش الأوكراني يحمل صاروخ “نلاو” المضاد للدروع ويقف بجانب دبابة روسية مدمرة شمال كييف، مارس 2022 (وزارة الدفاع الأوكرانية، تويتر)
منذ بدء الهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا، الخميس 24 فبراير/شباط 2022، لم تستطع القوات الروسية اقتحام كييف، أو حتى محاصرتها بشكل كامل؛ الأمر الذي جعل العديد من المحللين يتكلمون عن فشل العملية العسكرية وتعثرها.
كما انتشرت أنباء كثيرة عن تعثر هذه القافلة العسكرية، تتضمن مشاكل لوجستية تواجهها، بالإضافة إلى انخفاض معنويات الجنود الروس، والمقاومة الأوكرانية الشرسة لمحاولات التقدم الروسية.
لكن وفي المقابل تمكنت القوات الروسية من تحقيق منجزات مهمة في الجنوب، متمثلة بالسيطرة على كامل سواحل بحر آزوف، وربط القرم بإقليم دونباس، ومحاصرة مدن أوكرانية كثيرة في جبهات أخرى غير العاصمة.
يعتبر ذلك مهماً لروسيا، ضمن مشروع “روسيا الجديدة”، الذي يضمن تشكيل جمهورية مكونة من إقليم دونباس في الشرق، ويمتد حتى حدود مولدوفا، بالسيطرة على مدينة أوديسا الساحلية في الجنوب الغربي، ويعني ذلك عزل أوكرانيا تماماً عن موانئها البحرية الأهم، وجعلها “دولة حبيسة”.
فحتى الآن تفرض القوات الروسية حصاراً على كل من سومي في الشمال الشرقي، وخاركيف، التي تعتبر ثاني أكبر مدينة أوكرانية في الشرق، وتشيرنيهيف في شمالي البلاد، إلى الشرق من العاصمة كييف، وأخيراً ماريوبول في الجنوب، والتي تعتبر النقطة الأخيرة غير المسيطر عليها في الخط الواصل بين دونباس والقرم.
فكيف يتمكن نفس الجيش المتعثر حول العاصمة في الشمال من تحقيق هذه الإنجازات على الأرض في محاور أخرى؟
هل “القافلة العسكرية” تكتيك لتثبيت القوات الأوكرانية؟
بطبيعة الحال تمثل العاصمة أهمية كبرى بالنسبة للقوات الأوكرانية، ولا يمكنها بحال من الأحوال المخاطرة بفقدانها من قبل القوات الروسية، ولكن روسيا لا تمتلك حدوداً تجمعها بشكل مباشر بكييف.
لذلك كان الهجوم الروسي في الشمال الأوكراني معتمداً أساساً على التقدم من الأراضي البيلاروسية، والقريبة جداً من العاصمة الأوكرانية كييف.
دفع ذلك إلى تجهيز العاصمة الأوكرانية لمعارك طاحنة، وحشد قوات أوكرانية فيها وحولها. قوات كان يمكن إرسالها لإمداد جبهات أخرى تشهد تقدماً روسياً أكبر من جبهة كييف، ولكنها مضطرة للبقاء في العاصمة، لصدّ أي خطر من محاولات روسية لاحتلالها.
خلال أيام الحرب لم تصدر روسيا بشكل رسمي وواضح تصورها عن سير العمليات العسكرية على الأرض، مع ذلك بقي الغرب يتنبأ بالأهداف الروسية على الأرض، ويجزم مثلاً برغبته في السيطرة على كييف، مع مقارنة هذه الأهداف بما يحصل فعلياً على الأرض.
لكن روسيا في الأيام الماضية أعلنت أنها حققت الأهداف المرجوة من المرحلة الأولى للهجوم، رغم أنها لم تكن أوضحت هذه الأهداف مسبقاً، مع تصريحات توضح أهداف روسيا في المرحلة القادمة.
فقد صرح جنرال روسي رفيع، أن “أهداف المرحلة الأولى تم تحقيقها بالكامل”، ولخص ذلك بأن القدرة القتالية للقوات الأوكرانية خُفضت بشكل كبير، وهو أحد الأهداف العامة التي صرحت بها روسيا منذ بداية هجومها.
كما أضاف الجنرال أن هذا التخفيض الكبير في القدرة القتالية، يسمح ببدء تركيز جهود الجيش الروسي على “هدفه الأساسي”، وهو “تحرير دونباس بشكل كامل”، ما يعني أن جهود روسيا العسكرية ستتركز الآن على الشرق.
فماذا لو لم تكن هناك قوات روسية في الشمال حول العاصمة كييف؟ ألم تكن القوات الأوكرانية تستطيع تركيز جهودها أيضاً في الشرق الأوكراني؟ ألا يمكن أن نفترض أن القافلة العسكرية الضخمة في الشمال تؤدي مهمة استراتيجية كبرى، بإجبارها القوات الأوكرانية على توزيع جهودها على جبهات مختلفة، وأنها تؤدي هذه المهمة بنجاح؟
قد يفسر ذلك المشاكل التي واجهتها القوات الروسية حول كييف بشكل كبير، فقد تكون روسيا عمدت إلى إرسال قوات ضعيفة إلى محيط كييف، لأنها لا تنوي أن تدخل بهذه القوات معارك ضخمة في ذلك المحور، على الأقل ليس خلال المراحل الأولى من الحرب.
الانتشار الواسع مناسب للجيش الروسي أكثر من القوات الأوكرانية
لا شك أن الانتشار الواسع، والقتال على عدة جبهات أمر مرهق بالنسبة للجيوش، ولكن كلما كبُر حجم الجيش كانت القدرة أكبر على الانتشار، والقتال على عدة محاور في نفس الوقت.
في المقارنة بين الجيشين الروسي والأوكراني نجد أن الجيش الروسي يفوق الجيش الأوكراني بمراحل، فالجيش الروسي يضم 350 ألف جندي من القوات البرية، كما يملك 13 ألف دبابة ونحو 27 ألف مدرعة، و6540 مدفعاً ذاتي الحركة، و4465 مدفعاً ميدانياً، و3860 راجمة صواريخ.
وقد حشد قوات أساسية لعمليته العسكرية في أوكرانيا تقدر بـ190 ألف جندي، هم أكبر بـ45 ألفاً من القوات البرية الأوكرانية، والبالغ عددهم 145 ألفاً فقط، أغلبهم من المتعاقدين، كما تمتلك أوكرانيا 11.435 مركبة مدرعة، و2430 دبابة، و2815 مدفعاً، و550 راجمة صواريخ، وهي أقل بكثير من قدرات الجيش الروسي.
وعليه فإن أوكرانيا محتاجة أكثر من روسيا لتركيز قواتها في جبهات محددة، وفي مناطق أكثر ضعفاً وهشاشة، وهي محتاجة أكثر لتوفير القدرة على نقل هذه القوات حسب احتياجات المعارك على الأرض، بحيث تحرك قواتها من الجبهات الآمنة إلى جبهات أضعف.
مثل هذا التكتيك مشهور جداً في الحروب والمعارك، فمن مهمات القوات الأساسية والمتحركة أن تثبت قوات العدو أو جزءاً منها وتستنزفها، بينما تؤدي قوات أخرى مهماتها دون القلق من إمكانية وصول إمدادات، أو احتمالية المناورة حولها وتطويقها.
فإذا صح فرض أن كييف ليست هدفاً لروسيا، أو على الأقل ليست هدفها الحالي، فهذا يعني أن القوات حول كييف قد تكون تؤدي واجبها بنجاح، بتثبيت جزء كبير من القوات الأوكرانية، كان يمكن أن تستخدم لتطويق أجزاء من الجيش الروسي، وحصارها بدلاً من أن تتمكن من حصار المدن الأوكرانية.
القوات الروسية قد تدخل كييف في مرحلة لاحقة أو لا تدخلها مطلقاً
لاعتبارات كثيرة، قد لا تقرر روسيا دخول كييف، أو قد تقرر دخولها في مراحل لاحقة، بناء على هذه الاعتبارات.
فقد تقرر روسيا أن تجعل إخضاع كييف ضمن المراحل الأخيرة للحرب، وبعد تحقق أهداف أخرى، مثل ربط القرم بإقليم دونباس بشكل كامل وآمن، و”تحرير” أراضي “جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك” في الشرق.
كما أن روسيا قد تكون منتظرة لإخلاء كييف من سكانها قبل البدء بالهجوم الهادف للسيطرة عليها، فليس من مصلحة روسيا أن تدخل في حرب شوارع كبيرة في ظل وجود ملايين المدنيين، وفي حال خروج عدد كبير من سكان العاصمة، ستصبح المهمة أسهل.
أخيراً فإن على روسيا التفكير مسبقاً لمرحلة ما بعد السيطرة على الأرض، والسيطرة على كييف ستعني قصفاً مكثفاً وعمليات عسكرية ضخمة في المدينة المليئة بالسكان، وهو ما يعني استعداء سكان العاصمة بشكل قد يجعل مهمة حكمها مستحيلة لاحقاً.
ستالينغراد: الخطة السوفييتية لتثبيت الجيش السادس الألماني
ليس هذا التكتيك غريباً بالنسبة للروس، فإحدى أهم محطات تاريخهم في الحرب العالمية الثانية، شهدت استخدام تكتيك مشابه له، في معركة ستالينغراد الشهيرة، جنوب الاتحاد السوفييتي.
لم يكن التقدم النازي في جنوب الاتحاد السوفييتي هدفه التوسع في السيطرة على الأراضي، فحينها كان الجيش الألماني مسيطراً على مساحات شاسعة أصلاً، كما أن المدن الأهم سياسياً بالنسبة للسوفييت مثل موسكو وسان بطرسبرغ لا تقع في الجنوب.
لكن الأهمية المطلقة للحملة على الجنوب السوفييتي كانت للوصول إلى القوقاز، وتحديداً إلى آبار النفط فيها، لقطع إمدادات النفط عن باقي الاتحاد السوفييتي، وفي المقابل توفير النفط للجيش الألماني، وعلى مختلف محاور القتال.
لذلك لم تكن مدينة ستالينغراد هدف الحملة الألمانية في الجنوب، بل القوقاز، لكن الألمان قرروا لاحقاً أن يتوجهوا لمهاجمة المدينة وحصارها، في المقابل رأى السوفييت أن من المفيد استدراج الألمان لمعركة كبرى في المدينة، تؤخر الجيش الألماني عن التقدم نحو القوقاز، وتضعفه في الجنوب، حتى يستطيع الجيش السوفييتي إعادة تنظيم صفوفه، وإيصال الإمدادات لهزيمة الجيش السادس الألماني، والذي كان رأس الحربة الألمانية في المعركة.
وبحسب كتاب “النصر في ستالينغراد Victory at Stalingrad”، تمكن السوفييت من الصمود في المدينة، وتمكنت قوات سوفييتية أخرى لاحقاً من تطويق الجيش الألماني الذي كان يوجد جزء منه داخل المدينة، وجزء آخر خارجها.
بينما كان الجيش الألماني يستطيع تجاهل الفولغا وستالينغراد، والتوجه بكامل قواته نحو القوقاز، وعاصمة أذربيجان الحالية باكو بدلاً من ذلك، ثبتت القوات السوفييتية جزءاً ضخماً من الجيش الألماني في معركة طويلة ومنهكة في ستالينغراد، وبدلاً من أن تنجح القوات الألمانية في السيطرة على المدينة بعد حصارها، تمكن السوفييت من حصار الجيش السادس الألماني، وإجباره على الاستسلام نهاية.
فهل تعيد القوات الروسية حول كييف التاريخ نفسه؟ وهل يظهر لاحقاً أن هذه كانت خطة روسية منذ البداية؟ هذا ما قد تكشفه الأيام القادمة.
عربي بوست
اقرأ ايضا: ليست أوكرانيا.. ساحة صراع جديدة تشتعل بين روسيا والناتو