بعد أن شهد الروبل انخفاضات كبيرة في قيمته أمام الدولار بسبب بدء الهجوم العسكري على أوكرانيا، والعقوبات الغربية على روسيا بسبب ذلك، عاد مرة أخرى بشكل ملحوظ ليحقق أرباحاً وارتفاعاً أمام الدولار، وحدث ذلك تحديداً بسبب الإجراءات الاستثنائية للبنك المركزي الروسي.
حيث انخفض الروبل من أقل من 80 روبل مقابل الدولار الواحد، إلى أن وصل إلى 150 روبل مقابل الدولار، وظل يُتداول على سعر أعلى من 100 روبل مقابل الدولار حتى قبل أمس.
ومع أن الروبل غير محصّن أمام رؤية انخفاضات كبيرة في وقت قصير خلال الفترة القادمة؛ إلا أن نجاح البنك المركزي الروسي في رفع قيمة الروبل من 150 روبل مقابل الدولار الواحد -القمة التي وصل إليها في 7 مارس/آذار 2022- إلى قيمته الحالية حول 90 روبل مقابل الدولار، هو إنجاز لا يمكن التغاضي عنه بشكل من الأشكال.
فكيف عملت العقوبات الغربية على تخفيض قيمة الروبل؟
العملة اليوم هي مثل أي منتج آخر يتم تداوله في السوق العالمية، فما لم تقرر الدولة تثبيت سعرها إلى عملة أخرى، فإن سعرها سيتحدد بناءً على عوامل العرض والطلب بشكل حر في السوق، وتحديداً مدى أهميتها في السوق العالمية، والرغبة في شراء هذه العملة واستخدامها.
وبعيداً عن العملات الصعبة الرئيسية، والتي تُجرى غالبية التعاملات المالية بها في العالم، فإن أهمية عملة ما تعتمد على جاذبية الاستثمار داخلها، وأهمية صادراتها بالنسبة للدول الأخرى في العالم؛ لكون من يريد الاستثمار في بلد ما أو الاستيراد منه، عليه أن يتعامل بعملته، ولو بشكل غير مباشر.
قبل العقوبات الغربية، كان الروبل أكثر استقراراً في السوق المالي، فحتى مع وجود عقوبات غربية مستمرة منذ عام 2014، كانت روسيا تستطيع إجراء تبادلات تجارية مع دول العالم، وبيع منتجاتها للخارج، واستيراد منتجات من مختلف بلدان العالم، وكان يمكن للمواطن الروسي أن يشعر باستقرار نسبي في سعر الروبل، وأسعار المنتجات المختلفة، فلم تكن هناك حاجة كبيرة للتخلي عن الروبل بالنسبة للمواطنين والمستثمرين والشركات.
لكن العقوبات الغربية غيَّرت هذا الواقع المستقر، ودفعت الناس إلى توقع انهيار الاقتصاد المحلي، وانخفاض ما يمكن أن تشتريه بالروبل في الداخل، وأيضاً ما يمكن أن تستورده من الخارج، لذلك بدأ الناس في روسيا بتحويل كثير من مدخراتهم من الروبل إلى الدولار، وأحياناً إخراجها لبلدان أخرى، كما بدأت الكثير من الشركات المحلية والأجنبية بنقل رؤوس أموالها إلى خارج روسيا، ما تضمن أيضاً حالة من تحويل نقودهم من الروبل إلى الدولار.
هذه العمليات جميعها تعبر عن حالة “هروب رؤوس الأموال” Capital Flight، وهي تعني فعلياً رفع عرض الروبل في السوق، بسبب الكثيرين الذين يريدون بيعه مقابل عملات أخرى، ورفعاً للطلب على هذه العملات الأخرى، مثل الدولار واليورو، وهو ما أدى بشكل مباشر للانخفاض الكبير في قيمة الروبل.
هذا الهروب لرؤوس الأموال هو ردة الفعل الطبيعية للأفراد والمستثمرين والشركات على الأزمات الاقتصادية، ولكن كيف قد ترد الدول والبنوك المركزية على هذا الهروب لرؤوس الأموال؟ وما الإجراءات التي اتخذتها روسيا لمعالجة مشكلة الروبل؟
أولاً: ضوابط رأس المال Capital Control
تستطيع الدول والبنوك المركزية فرض “ضوابط على رأس المال Capital Control”، والتي تعني الإجراءات الحكومية المقيدة لحركة رؤوس الأموال إلى داخل أو خارج البلد.
بعد بدء الهجوم العسكري بأيام، وبعد أن بدأ فرض العقوبات الغربية، وظهرت آثارها، بدأ البنك المركزي الروسي بتطبيق هذه السياسة، كـ”رد متناسب” على الإجراءات الغربية، والتي تضمنت تجميد أرصدة البلاد في الخارج.
فقد منع البنك المركزي الروسي خروج أي رؤوس أموال قد تدخل اقتصادات “دول غير صديقة”، بما في ذلك أنه منع بيع أصول مالية مملوكة من قبل أجانب داخل روسيا، فهم اليوم غير قادرين على بيعها، أو على نقل ثمنها إلى خارج البلاد، وعموماً تهدف سياسات البنك المركزي الروسي إلى منع أي تدفق لرؤوس الأموال خارج البلاد، لكن السياسة التفصيلية قد تكون قيد التطوير خلال الأزمة المستمرة.
ثانياً: الغاز الروسي كسلاح نقدي
روسيا إحدى أهم الدول المصدرة للنفط والغاز في العالم، وللأمر أهمية كبرى للدول الأوروبية خصوصاً، والتي تعتمد بشكل كبير على الغاز الروسي تحديداً.
كثر الكلام في الفترة الأخيرة عن الآثار المحتملة لانقطاع الغاز والنفط الروسيين على أسعارهما، خصوصاً مع الارتفاعات الكبيرة التي تحققت بالفعل منذ الحرب، فسعر النفط ما زال أعلى من 100 دولار للبرميل، بينما يشهد الغاز أيضاً ارتفاعاً كبيراً في سعره.
ويعاني العالم كله، وأوروبا خصوصاً من احتمالية انقطاع إمدادات النفط والغاز الروسيين، أو تقليل هذه الإمدادات، وما يعنيه ذلك بالنسبة للأسعار.
ولكن هذه ليست الطريقة الوحيدة التي تستفيد بها روسيا من سلاح طاقتها، فقد وجد البنك المركزي الروسي طرقاً أخرى أيضاً لرفع الطلب على الروبل بشكل “اصطناعي”، والمساهمة في رفع سعره مقابل الدولار، عن طريق الغاز الروسي.
فبحسب صحيفة Wall Street Journal الأمريكية، ففي نهاية فبراير/شباط الماضي، فرض البنك المركزي الروسي على الشركات الروسية المصدرة للطاقة، أن تحول 80% من قيمة مبيعاتها إلى الروبل الروسي، ما يعني أنهم سيدفعون للبنك المركزي -ولو بشكل غير مباشر- ما يمتلكونه من الدولار واليورو، وسيعطيهم البنك المركزي نفس القيمة بالروبل.
هذه العملية تعني فعلياً رفع الطلب على الروبل في السوق، وبالتالي رفع سعره، وهذا يعني أن روسيا لم تحد فقط من بيع الروبل، وتمنع ارتفاع عرضه، بل زادت الطلب عليه بشكل كبير، ولو كانت هذه الطريقة اصطناعية، ولا تعكس رغبة حقيقية من مستثمرين بشراء الروبل، أو الأصول المالية المقومة به.
لكن روسيا لم تقف عند هذا الحد فقط، فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين قال إنه سيفرض على الدول “غير الصديقة” المستوردة للغاز الروسي أن يشتروا الغاز بالروبل، بدلاً من دفع قيمته باليورو والدولار.
في ثلاثة أسابيع من الحرب استورد الاتحاد الأوروبي وحده 17 مليار دولار من الطاقة الروسية، فتخيل لو أن هذا الطلب تحول كله إلى الروبل أيضاً؟ هذا سيعني أن الروبل سيشهد ارتفاعاً كبيراً في قيمته أمام العملات الأخرى، نظراً للطلب العالي عليه في السوق العالمي، والذي سيضطر أعداء بوتين لتوفيره؛ إذا ما أرادوا استمرار تدفق الطاقة.
فهل نجحت تجارب أخرى سابقة في معالجة الأزمات الاقتصادية؛ وخصوصاً الأزمات المتعلقة بقيمة العملة؟
التجربة الماليزية والاستفادة من Capital Control
استفادت بعض الدول النامية من تطبيق إجراءات “ضوابط رأس المال” لتخفيف أثر أزمات اقتصادية، أو حتى استخدمتها كنهج اقتصادي عام، أثبت نجاحه في حماية الاقتصاد وتحقيق التنمية والنمو بشكل مستمر، ومعالجة الأزمات المرتبطة بقيمة العملة.
تعتبر ماليزيا إحدى الدول التي طبقت سياسة “ضوابط رأس المال Capital Control”، والتي ساهمت في معالجة الأزمة الاقتصادية التي ضربت الاقتصاد الماليزي نهاية التسعينيات، وأثبتت نجاحها مقارنة بتجارب دول أخرى ضربت فيها أزمات اقتصادية في نفس الفترة.
كان الرينغيت الماليزي مسموحاً بتبادله خارج البلاد قبل الأزمة والسياسات التقييدية الماليزية، لكن ماليزيا منعت مثل هذه التجارة، وأبقت على هذا التقييد لسنوات لاحقة.
ثبتت ماليزيا عملتها أمام الدولار، كما منعت المستثمرين من تحويل أصول مالية -مثل النقد والأسهم- المقومة بالعملة الماليزية من تحويلها إلى عملات أجنبية لسنة كاملة، لم يطبق ذلك فقط على الأصول المالية المقومة بالرينغيت الماليزي داخل البلاد؛ بل والموجودة خارجه أيضاً.
وبعد مرور عام على هذه الإجراءات، قررت ماليزيا رفع التجميد الكامل، وفرض ضرائب على هذه التحويلات، لمنع أي بيع كبير للأصول المالية الماليزية في الداخل والخارج بشكل مفاجئ وكبير، ما يعني رفع تحقيق صدمة متمثلة بارتفاع كبير في عرض العملة الماليزية، وبالتالي انخفاض قيمتها، لكن ماليزيا بدأت بالتخلي عن هذه الإجراءات لاحقاً بعد أن بدأت الأزمة بالانفراج.
كما أن بعض الإجراءات كانت تفضيلية للماليزيين مقابل الأجانب، لتكون مفيدة أكثر وأكثر للاقتصاد المحلي والمواطنين الماليزيين.
وتستطيع روسيا اتباع نهجها الخاص، والمقارب لهذه السياسات الماليزية، وقد تنجح من خلاله بالفعل من حماية اقتصادتها وعملتها.
توقعات الاقتصاد الروسي في المستقبل
لا يمكن التنبؤ بدقة بتوقعات الروبل في المستقبل، فهو الآن أحد العُملات غير المستقرة في العالم، ومعرض لموجات عقوبات غربية أخرى في المستقبل.
في المقابل؛ ليس مفهوماً حتى الآن مقدار الدعم الذي قد تستطيع روسيا تحصيله من الصين مثلاً، أو مدى التزام دول غير غربية بسياسة العقوبات على روسيا، فقد أعلنت الهند أنها ستستمر بشراء النفط الروسي، بل قد تزيد استيرادها منه.
لكن الاقتصاد الروسي سيضطر حتماً لتغيير بنيته كثيراً، وخصوصاً فيما يتعلق بالعلاقة مع الغرب، وأي دول أخرى حليفة له مستعدة للالتزام بالعقوبات الغربية على روسيا.
وتبعاً لما ستكشف الأيام القادمة عن مدى تأثير هذه العوامل المتضادة، سيرسم مستقبل الاقتصاد عموماً، والروبل بشكل خاص.
عربي بوست
اقرأ أيضا: عبد الباري عطوان: هل سيَحدُث العكس ويُطيح “أبو علي” بوتين بنظيره الأمريكي بايدن؟