صراع الأمبراطوريّات صرع الوجود
كان يفترض أن تنفجر. ان لم يكن اليوم، غداً. فلاديمير بوتين، بالشخصية المركبة، وحيث التقاطع بين بطرس الأكبر وايفان الرهيب، لم يعد يتصور أن يبقى الأميركيون هكذا، الحصان الوحيد الذي يقود الكرة الأرضية. ثمة أحصنة أخرى تنتظر وراء الباب …
هنا التساؤل ما اذا كان الروس يـكررون في أوكــرانيــا غلطتهم في أفغانستان. الروس يقاتلون بجنودهم، أي بأرواحهم. أي هزيمة لا بد أن تكون لها تداعيات وجودية (تفكك الاتحاد السوفياتي). الأميركيون يقاتلون، في الحالتين بجنود آخرين، أي بأرواح الآخرين. أي هزيمة قد لا تترك أي أثر في الوجود الأميركي.
كتابات كثيرة أكدت أن القيادة الأميركية، وعقب تفكك الاتحاد السوفياتي، وضعت أكثر من سيناريو لتفكيك الاتحاد الروسي. في هذا الاطار شراء سيبيريا، كمنجم للثروات، بسعر بخس مثلما اشترى أندرو جونسون آلاسكا عام 1867 من الكسندر الثاني، العائد منهكاً من حرب القرم.
ولكن ألم يعرض لينين، بطل الثورة البولشفية، على اليابان شراء جزيرة ســاخالين، وهي المزلاج الاســتراتيجي للشرق الروسي، بمليار «ين» لاســتيعاب الأزمة الاقتصادية التي هبت في وجه الثورة؟ اليابانيــون رفضوا ذلك لأن المبلغ يعادل نصف موازنة بلادهم.
بوتين، كضابط سابق في الـ «ك.ج. ب»، يعلم الكثير عن السيناريوات الأميركية. من هنا كان تركيزه على تطــوير الترسانة العسكرية، كمّاً ونوعاً. القفزة التكنولوجية في مجال الصواريخ، والأقمار الصــناعية، والقاذفات الاستراتيجية، قاربت المعجزة. الغاية تأمين نوع من التوازن العسكري مع الولايات المتحدة التي تعدً للانتــقال الى ما بعد التكــنولوجيا، البعد الرئيســي في الفلسفة الخاصـة بالانتقــال الى… ما بعد الزمــن!
ولقد انفجرت في دولة تتمتع بحساسية جيواستراتيجية فائقة كونها تقع بين روسيا وألمانيا. ما يبدو من مسار الأحداث أن القادة العسكريين الروس كانوا يراهنون على حرب صاعقة ترغم كييف على الاستسلام في غضون أيام. ما جرى على الأرض أظهر وجود ثغرات قاتلة ان في الأداء العملاني أو في الأداء اللوجيستي.
ربما الأهم من ذلك، أن القيصر لم يكن يــتوقع، قطــعاً، أن تكون ردة فعل ادارة جو بايدن على هذا المستوى الكوني، وهي الادارة التي أعطت الأولوية للقفازات الحريرية على القاذفات التي طالما قيل أنها لا تكتفي باختراق جدار الصوت بل تخترق جدار… الخيـال.
العملية العسكرية تعثرت. ظهر ذلك في تلميح فلاديمير بوتين الى الخيار النووي. هذا لا يعني أن الدببة القطبية ستعود الى ما وراء الثلوج. تصميم قاطع على نزع سلاح أوكرانيا واعلان حيادها، ولو أقتضى الأمر الصدام مع دول الأطلسي، الأمر الذي تخشاه الدول الأوروبية لأسباب شتى من بينها زئبقية السياسات الأميركية.
القيادة الروسية ترى في الصراع الحالي صراع وجود لا صراع حدود، ولا بد أن ينتهي بالتكريس الأبدي لهذا الوجود، وفي اطار نظام عالمي بديل يقوم على التعددية القطبية لا على فلسفة وحيد القرن.
من التعليقات المثيرة التي ظهرت في موسكو «على حلفائنا الصينيين أن يدركوا أننا نقاتل، ايضاً، بالنيابة عنهم، وعن وجودهم كدولة لها حضورها، ولها تأثيرها، في معادلات القوة، ونحن الذين تبين من لقاءاتنا، أننا نملك رؤية متطابقة لمستقبل العالم»!
معلومات ديبلوماسية من بروكسل تشير الى محادثات سرية جرت بين فلاديمير بوتين وشين جينبينغ، وانتهت بوعد صيني بتقديم كل أنواع المساعدات لروسيا، ولكن بعيداً عن العيون الأميركية. الأوروبيون لا يريدون مواجهة مع روسيا والصين في آن …
الأميركيون لا تعنيهم أوكرانيا، ولا يعنيهم الأوكرانيون، لكنها اللعبة الأمبراطورية. معركة أميركا لتبقى الوحيدة في ادارة الكرة الأرضية، والا لن تكون سوى جزيرة معزولة تتقاطع فيها نهاية التاريخ مع نهاية الجغرافيا.
في كلامه عن غروب الأمبراطوريات، قال بول كنيدي «يا لغباء الأمبراطوريات حين تظن أن ثمة أجنحة… للفيلة» !!
نبيه البرجي-الديار
اقرأ ايضاً:المانيا تعلن حالة “الإنذار المبكر” لاحتمال حدوث توقف في إمدادات الغاز