“بلدي ليس بخير”، هكذا عبر الكاتب الأمريكي الشهير توماس فريدمان عن وضع الولايات المتحدة بنهاية عام 2021. كرر الجملة 3 مرات بصوت ينضح بالحسرة والحزن.
فريدمان، الحائز على جائزة البوليتزر للصحافة 3 مرات وهي بمثابة الأوسكار في مجال الفن، كان يرد على سؤال بشأن ما إذا كانت الهيمنة الأمريكية على العالم قد وصلت إلى محطة النهاية.
ولم يكن فريدمان مبالغاً في حزنه، فهناك ما يشبه الإجماع بين المحللين وخبراء الاستراتيجية في الغرب والشرق على السواء بأن 2021 هو عام ضياع الهيبة الأمريكية عالمياً، لكن يبدو أن الرئيس جو بايدن وجد الحل السحري كي يحقق هدفه الرئيسي وهو “عودة أمريكا لقيادة العالم”.
ودون مقدمات، أصبحت الحرب في أوكرانيا بمثابة حبل النجاة لقوة عظمى بدأت تظهر عليها أعراض الشيخوخة؛ فالعنصرية والانقسام بين الجمهوريين والديمقراطيين والانسحاب المهين من أفغانستان وفقدان النفوذ في الشرق الأوسط واهتزاز ثقة الحلفاء والانكماش الاقتصادي وغيرها كثير، أمور شجعت الكثيرين على تحدي الهيمنة الأمريكية وأصبح الحديث عن أفول نجم العم سام ملء السمع والبصر.
وهكذا بدأت طبول الحرب في أوروبا على الحدود بين روسيا وأوكرانيا، تدق أولاً من داخل المكتب البيضاوي في البيت الأبيض. فتحذيرات بايدن للرئيس الروسي فلاديمير بوتين من أي تحرك عسكري في أوكرانيا تحولت إلى وجبة يومية يتم فرضها فرضاً من خلال الإعلام الأمريكي والغربي بطبيعة الحال.
تعاني من الشيخوخة فالجيش الروسي يواجه مقاومة شرسة في أوكرانيا وفقد كثيراً من “الهالة المرعبة” التي كانت تحيط به، بعد مرور شهر من الهجوم الروسي.
الطلب على السلاح الأمريكي ارتفع لمستويات قياسية، وأوروبا عادت للاحتماء بقوة واشنطن العسكرية، وحتى أسعار الطاقة المرتفعة تصب في صالح صناعة النفط الأمريكية، ومآرب أخرى يبدو أن الأمريكيين في طريقهم لتحقيقها.
الفزع يصيب رئيس أوكرانيا
“توقفوا عن إثارة الفزع. إذا قامت الحرب فعلاً لن يتدخل جيش أي دولة أخرى للدفاع عن أوكرانيا”.. هكذا انفعل الرئيس الأوكراني في وجه أسئلة الصحفيين المتكررة عن الحرب الروسية.
كان ذلك يوم 28 يناير/كانون الثاني 2022، أي قبل أكثر من شهر من بداية الهجوم الروسي على أوكرانيا. رسالة فولوديمير زيلينسكي كانت موجهة لبعض الزعماء الغربيين. صحيح أنه لم يحددهم بالاسم، لكنه قال: “الدبلوماسيون مثل قادة السفن، يجب أن يكونوا آخر من يغادر سفينة تغرق، وأوكرانيا ليست تيتانيك”. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية أول دولة تقرر سحب دبلوماسييها من كييف.
الآن وقد اندلعت الحرب بالفعل، كما توقعتها واشنطن أو كما خططت لاندلاعها إن شئنا الدقة، بات واضحاً أن إدارة الرئيس جو بايدن لا تريد لتلك الحرب نهاية سريعة حتى تحقق مآربها كاملة، بحسب محللين ومراقبين أغلبهم أمريكيون وغربيون.
“هل دفعت الولايات المتحدة بوتين إلى غزو أوكرانيا؟”، هذا السؤال قد يكون أحد أكثر العناوين تداولاً في الصحافة الغربية منذ بدأت روسيا هجومها على أوكرانيا، والذي تسميه موسكو عملية خاصة ويسميه الغرب غزواً، ولهذا السؤال أسبابه ومؤشراته التي كانت واضحة منذ تولى جو بايدن منصبه في يناير/كانون الثاني 2021. فقصة الحرب في أوكرانيا لا يمكن روايتها إلا انطلاقاً من واشنطن.
جو بايدن وإدارة أزمة أوكرانيا
الرئيس الأمريكي جو بايدن هو أكبر من تولى المنصب في البيت الأبيض، وينتمي الرجل إلى حقبة الحرب الباردة وانتهائها بما يراه الأمريكيون انتصاراً ساحقاً على الاتحاد السوفييتي، ثم حقبة شهدت سيطرة واشنطن على النظام العالمي الذي يهيمن عليه قطب أوحد هو بلاد العم سام.
وهذا ما عبر عنه سايمون تيسدول، المعلِّق السياسي المخضرم والكاتب في صحيفة الغارديان البريطانية، الذي رصد ما يسعى جو بايدن لتحقيقه: “الفكرة الكبرى التي يتحرك في إطارها جو بايدن هي تحالف عالمي دولي بقيادة الولايات المتحدة، يضم الأنظمة الديمقراطية الليبرالية، في مواجهة الأنظمة السلطوية والزعماء الأقوياء، تقبع في القلب من مشروع استعادة القيادة الأمريكية للعالم”.
وكانت المؤشرات الصادرة خلال حملة بايدن الانتخابية والمفردات اللغوية التي تكررت كثيراً مثل “العالم الحر” و”قيادة الولايات المتحدة للعالم” وغيرها، توحي بأن الرئيس الديمقراطي يطمح إلى إعادة ترتيب المسرح السياسي العالمي تحت قيادة أمريكا “قائدة العالم الحر”، بحسب وصفه.
وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال المنطقي الوحيد في هذه الجزئية: هل أوكرانيا دولة ديمقراطية فعلاً؟ الإجابة على هذا السؤال، وهي بالطبع كلا، تحمل في طياتها تفسير الدور الذي لعبته إدارة جو بايدن في اشتعال الحرب في أوكرانيا. فأوكرانيا واحدة من أكثر الدول فساداً في العالم، بحسب مؤشرات الفساد الغربية ذاتها، إضافة إلى وجود مستويات مرتفعة من الفقر بين سكانها، وكلا الأمرين يجعلان من المستحيل أن تنضم أوكرانيا للاتحاد الأوروبي أو حلف الناتو.
بيان البيت الأبيض حول لقاء بايدن وزيلينسكي، يوم 7 يونيو/حزيران 2021، ركز بشكل أساسي على “الدعم الأمريكي للرئيس الأوكراني في مكافحة الفساد”، كما كان الإعلام الأمريكي يشن انتقادات لاذعة على إدارة بايدن بسبب تصويرها كييف على أنها دولة “ديمقراطية”، على عكس الحقيقة. وكان تاكر كارلسون، مقدم “توك شو” يحمل اسمه على قناة Fox News الأمريكية، قد سخر حلقة كاملة لقصة ديمقراطية أوكرانيا المزعومة عنوانها “أوكرانيا ليست ديمقراطية”.
صحيفة واشنطن بوست نشرت تحليلاً قالت فيه إن كارلسون على خطأ، معتبرة أن أوكرانيا دولة ديمقراطية، فماذا قالت الصحيفة الليبرالية في وصف تلك الديمقراطية؟ “توجد في أوكرانيا كثير من مقومات الديمقراطية: الرئيس والقائد الأعلى للقوات المسلحة يتم انتخابه عبر الاقتراع المباشر، والبرلمان خليط من الانتخابات الفردية والتمثيل النسبي، ورئيس الوزراء تختاره الأغلبية النيابية، بينما أعضاء المحكمة العليا يتم تعيينهم من جانب الرئيس بعد ترشيحهم من جانب المجلس الأعلى للقضاء”.
إذا كانت هذه هي مقومات الديمقراطية من وجهة النظر الأمريكية، فالمقومات نفسها موجودة في روسيا وفي أغلب الدول التي تصنفها واشنطن بوست على أنها ديكتاتوريات، مثل مصر على سبيل المثال. لكن كون أوكرانيا دولة ديمقراطية تتعرض “لغزو روسي” غير مبرر، أصبحت العبارة الأكثر ترديداً على لسان جو بايدن ومسؤولي إدارته، ربما أكثر مما يرددها زيلينسكي نفسه.
وهذه الحقائق تفرض العودة إلى جذور الأزمة الأوكرانية، والتي تعود إلى نهاية الحرب الباردة بين المعسكر الغربي بقيادة أمريكا والشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي. فالولايات المتحدة، التي خرجت منتصرة من الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي، قدمت وعداً لروسيا الاتحادية بألا يتمدد حلف الناتو شرقاً بمقدار “بوصة واحدة”، لكن الحلف العسكري الغربي تمدد شرقا بمقدار 965 كلم، بعد أن ضم جمهوريات تابعة للاتحاد السوفييتي المنهار، وصولاً إلى بولندا، التي كانت مقراً للحلف العسكري الشرقي “حلف وارسو”.
نعم، الأزمة الأوكرانية بالأساس أزمة جيوسياسية تتمثل في إصرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على ألا يدع حلف الناتو يضم كييف إلى عضويته، فذلك يعني وجود قوات وأسلحة أمريكية– في إطار حلف الناتو– على الحدود الروسية مباشرة، فهل كانت أوكرانيا مؤهلة أصلاً للانضمام للحلف العسكري الغربي (الناتو) أو حتى للاتحاد الأوروبي على المدى القصير أو حتى على المدى البعيد؟ بالطبع لا.
لكن بايدن تولى المنصب في ظروف أقل ما توصف به هو أنها ظروف كارثية للولايات المتحدة؛ فحادثة اقتحام أنصار الرئيس السابق دونالد ترامب للكونغرس يوم 6 يناير/كانون الثاني جعلت واشنطن محط سخرية العالم أجمع، بعد أن كانت مصدراً للخوف أو الإبهار، ثم جاءت مشاهد الهرولة الأمريكية للانسحاب من أفغانستان في أغسطس/آب من نفس العام وعودة حركة طالبان إلى حكم البلاد لتضفي مزيداً من الملح على جرح الكبرياء الأمريكي الذي ينزف بالأساس.
الانقسام بين الجمهوريين والديمقراطيين والأوضاع الاقتصادية الصعبة بفعل تداعيات جائحة كورونا، وملف الاتفاق النووي الإيراني، الذي بدا واضحاً أن طهران في موقف تفاوضي أقوى بكثير من موقف الأمريكيين، وتفكير قادة الاتحاد الأوروبي في تأسيس جناح عسكري خاص بالقارة العجوز، كلها أمور اجتمعت خلال عام بايدن الأول في البيت الأبيض، أو عام ضياع الهيبة الأمريكية.
وهنا جاء دور الحرب في أوكرانيا، فمنذ قفزت الأزمة الأوكرانية إلى قمة السياسة الخارجية الأمريكية، أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2021، تحولت الأنظار تدريجياً عن مشاكل أمريكا الداخلية وأصبح تركيز إدارة بايدن منصباً بشكل كامل على ما يجري عبر الأطلسي هناك على الحدود الروسية الأوكرانية، على الرغم من أن تلك الحدود كانت على حالها منذ عام 2014، بحسب ما أكده زيلينسكي نفسه يوم 28 يناير/كانون الثاني 2022، أي قبل نحو شهر من بدء الهجوم الروسي.
وبعد أن اشتعلت الحرب، نشرت مجلة Politico الأمريكية تقريراً عنوانه “رئاسة بايدن لم تكن أبداً محمومة كما هي الآن، لكنه لم يكن أكثر ارتياحاً”، رصد كيف اتسم أداء بايدن فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية، منذ ما قبل بدء الهجوم الروسي، بالثقة والوضوح والحسم والقدرة على المناورة، وهو ما أدى إلى ارتفاع شعبية الرئيس، التي كانت قد وصلت لمستويات قياسية في التدني منذ صيف العام الماضي.
وبعد أن اشتعلت الحرب، تكشف الخطوات الأمريكية أن إدارة بايدن لا تستعجل إنهاء الحرب على ما يبدو، إذ ذكر مقال نشرته صحيفة The Washington Post الأمريكية عن الأزمة الأوكرانية، أن إدارة بايدن ليست عازمة على إجراء محادثات دبلوماسية جدية مع روسيا، ولا ترى طريقاً واضحاً لإنهاء الأزمة.
ما هي مكاسب واشنطن من الحرب؟
انتعاش سوق السلاح في أمريكا
دفعت الولايات المتحدة روسيا دفعاً نحو “غزو” أوكرانيا، بحسب التوصيف الغربي، وذلك لتحقيق عدد من الأهداف الاستراتيجية، بغض النظر عن احتمالات نجاح تلك السياسة أو فشلها. وهذه ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي تكون فيها الحرب وسيلة لتحقيق الأهداف الاستراتيجية، كما تعلمنا تجارب التاريخ الإنساني.
وقد يكون من الصعب ترتيب تلك الأهداف الأمريكية بحسب أهميتها لصانع القرار في البيت الأبيض، لكن قد يكون أبرز المكاسب الواضحة لواشنطن هي انتعاش مبيعات السلاح الأمريكية. فالحديث أصبح يتركز على تزويد أوكرانيا بما قيمته مئات الملايين من الدولارات من صواريخ ستينغر وغافلين الأمريكية الصنع، وهي مضادة للدروع وللطائرات.
كما عملت الإدارة الأمريكية مع الكونغرس لزيادة تمويل إمدادات الأسلحة للجيش الأوكراني، وتعزيز برنامج التسليح لأوكرانيا بحسب تقرير لصحيفة The New York Times، ومن ثم الإعلان عن تخصيص 800 مليون دولار إضافية لهذا الغرض، والمتوقع أن تواصل “المساعدات العسكرية” لأوكرانيا ارتفاعها بشكل متواصل كلما طال أمد الحرب بطبيعة الحال.
ونشر البيت الأبيض على موقعه الرسمي يوم 16 مارس/آذار 2022 قائمة بالأسلحة التي تم توصيلها إلى أوكرانيا بالفعل، من خلال الولايات المتحدة وحلفائها، وضمت تلك القائمة أسلحة أمريكية متنوعة من صواريخ ستينغر وغافلين لأنظمة الدفاع الجوي الآلية وقنابل يدوية وذخائر ودروع بشرية وخوذ. وبلغت قيمة المساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا مليار دولار خلال شهر من اندلاع الحرب، وإجمالاً 2 مليار دولار منذ تولى بايدن المسؤولية.
تداعيات الهجوم الروسي على أوكرانيا، والذي بات واضحاً أنه لن يكون عبارة عن حرب خاطفة بعد أن دخل شهره الثاني دون مؤشرات على قرب نهايته، تشير بوضوح إلى أن الانخفاض الحاد في مبيعات الأسلحة الأمريكية خلال عام 2021 سيتحول إلى ارتفاع في سوق السلاح الأمريكي ربما يكون قياسيا.
فخلال عام 2021، بلغ إجمالي مبيعات السلاح الأمريكية 138.2 مليار دولار، بينما كانت تلك القيمة عام 2020 175 مليار دولار، بحسب تقرير لمجلة National Defense Magazine منشور في ديسمبر/كانون الأول 2021. كانت مبيعات السلاح الأمريكية عام 2019 قد بلغت 170.1 مليار دولار.
ويمكن توقع خسارة روسيا الجانب الأكبر من حصتها في سوق السلاح العالمي خلال العام الجاري على الأقل، بسبب العقوبات الغربية الكاسحة من جهة وحاجة الجيش الروسي نفسه لتعويض خسائره من العتاد في حرب أوكرانيا، وبالتالي فإن ذلك سيصب بشكل مباشر في صالح مصنعي السلاح الأمريكيين، بحسب الخبراء العسكريين.
النقطة الأخرى تتعلق بالارتفاعات الملحوظة في ميزانيات الدفاع للدول الأوروبية بشكل عام، بعد شعور تلك الدول بالتهديد جراء الحرب في أوكرانيا، وأبرز مثال هنا هو ألمانيا، التي أعلن مستشارها أولاف شولتس تخصيص 10 مليارات يورو سنوياً لميزانية الدفاع، إضافة للميزانية الحالية، واتخاذ قرار بتخصيص 5% من الناتج الإجمالي المحلي سنوياً لميزانية وزارة الدفاع. وقد قدمت برلين بالفعل طلبات لشراء طائرات إف 35 الشبح من الولايات المتحدة.
تعرية الجيش الروسي
قبل أن تبدأ الحرب في أوكرانيا، تدفقت تقارير استخباراتية أمريكية في صورة مقارنات بين قوة الجيش الروسي ونظيره الأوكراني وتوقعات لخبراء عسكريين يتوقعون أن يتمكن الدب الروسي من ابتلاع أوكرانيا بالكامل خلال أسابيع وربما أيام. وهناك بالفعل فارق ضخم بين الجيشين الروسي والأوكراني من حيث العدد والعتاد أيضاً، كما أن الجيش الروسي يعتبر في حالة حرب مستمرة منذ عام 2014، سواء في أوكرانيا أو سوريا، وهو ما يرفع من درجة الجهوزية القتالية لديه.
لكن بعد أن دخلت الحرب شهرها الثاني، تبدلت الصورة العامة بشكل لافت، وتدفقت التقارير حول “فشل” الجيش الروسي في تحقيق أهدافه العسكرية، وأصبح خطر أن تتحول أوكرانيا إلى “أفغانستان بوتين” احتمالاً وارداً.
وقبل حتى أن يبدأ الهجوم الروسي على أوكرانيا، كان الحديث في الدوائر الإعلامية والسياسية الأمريكية يقارن بين أوكرانيا إذا ما أقدمت روسيا على “غزوها” وبين ما حدث للاتحاد السوفييتي عندما أقدم على غزو أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي.
وكان الاتحاد السوفييتي السابق قد غزا أفغانستان عام 1979 واستمر الغزو نحو عقد كامل لم تستقر الأمور خلالها للسوفييت كثيراً وتكبّد الجيش السوفييتي وقتها خسائر فادحة على يد المقاتلين الأفغان بشكل أساسي، إذ تحمل الأفغان العبء الأكبر في مقاومة الغزو السوفييتي، إضافة إلى تدفق “المجاهدين” من الدول العربية والإسلامية لدحر الغزو السوفييتي.
ودخلت الولايات المتحدة على خط المواجهات بشكل غير مباشر، ففي تلك الفترة كانت الحرب الباردة بين حلف وارسو بزعامة الاتحاد السوفييتي وحلف الناتو بزعامة الولايات المتحدة على أشدها. وشنت الولايات المتحدة حملة دعائية ضد الاتحاد السوفييتي “الكافر” في الدول العربية والإسلامية وانطلقت الدعوات “للجهاد” في أفغانستان لدعم المسلمين في مواجهة الغزاة.
وساعدت الولايات المتحدة وحلفاؤها في نقل “المجاهدين” من بلدانهم إلى أفغانستان، كما أمدت المقاومة للغزو السوفييتي بأسلحة نوعية كان أبرزها وأشهرها “صواريخ ستينغر” أمريكية الصنع والتي تسببت في أضرار فادحة للمدرعات وطائرات الهليكوبتر السوفييتية، ولعبت دوراً كبيراً في ترجيح كفة المقاومة الأفغانية على الجيش السوفييتي، رغم الفارق الهائل في الإمكانيات بين الطرفين.
وكان انسحاب الاتحاد السوفييتي من أفغانستان خلال عامي 1988 و1989 بمثابة المسمار الأخير في نعش حلف وارسو ومعه المعسكر الشرقي ككل، وبعد أقل من عامين تفكك الاتحاد السوفييتي رسمياً وانتهت حقبة الحرب الباردة لتنطلق حقبة جديدة من النظام العالمي تهيمن عليها الولايات المتحدة بشكل منفرد.
تلك كانت قصة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، ويرى كثير من المحللين والمسؤولين السابقين في الولايات المتحدة أن “غزواً روسياً لأوكرانيا سيكون بمثابة نهاية حقبة الرئيس الروسي بوتين” ويتوقعون أن تتحول الأراضي الأوكرانية إلى مستنقع يستنزف الجيش والاقتصاد الروسيين، بحسب تقرير نشره موقع معهد بروكينجز في واشنطن.
ومن هؤلاء السياسيين الأمريكيين المقتنعين بأن ما حدث في أفغانستان بالنسبة للاتحاد السوفييتي يمكن أن يتكرر في أوكرانيا بالنسبة لروسيا بوتين، مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة.
فقبل أن يبدأ الهجوم الروسي على أوكرانيا كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها في حلف الناتو يرسلون شحنات أسلحة نوعية إلى أوكرانيا، تضم بالأساس صواريخ جافلين وستينغر المضادة للدروع والطائرات، وكثفت تلك الدول من مساعداتها بصورة لافتة منذ اعترف بوتين باستقلال دونيتسك ولوغانسك، أي قبل بداية الهجوم على أوكرانيا بنحو 5 أيام.
ومع نهاية الشهر الأول من الهجوم الروسي، نشرت صحيفة The Wall Street Journal تقييماً عسكرياً، نقلاً عن مسؤولين أمريكيين، يرى أن موسكو قد حولت بالفعل استراتيجيتها العسكرية بشأن أوكرانيا إلى الخطة “ب”، بعد أن فشل الجيش الروسي في تحقيق “الخطة الأصلية. الخطة الأصلية، بحسب الأمريكيين، كانت أن يستولي الجيش الروسي على العاصمة الأوكرانية كييف ويقتل أو يقبض على الرئيس زيلينسكي وأعضاء حكومته لمحاكمتهم، وذلك خلال أيام أو أسبوعين على الأكثر.
لكن “الفشل” العسكري وتكبد الروس خسائر بشرية ومادية فادحة في أوكرانيا أجبر بوتين على اللجوء للخطة البديلة وهي إجبار كييف على قبول المطالبات الروسية بمناطق أوكرانيا الجنوبية والشرقية.
فعقب استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم ومناطق دونباس في عام 2014، تسعى موسكو إلى تأمين “جسر بري” بين غرب روسيا وشبه جزيرة القرم، وتوسيع السيطرة الروسية على منطقة دونباس. وبحسب الصحيفة الأمريكية، سيواصل بوتين ضغطه العسكري، بما في ذلك قصف المدن الأوكرانية، معتبراً أنه سيقود بذلك زيلينسكي للتخلي عن آماله في الانضمام إلى الغرب والموافقة على وضع محايد ومطالب روسية أخرى.
في كل الأحوال، ورغم عدم القدرة على تأكيد أو نفي الرواية الأمريكية بشأن “فشل” الجيش الروسي، بات واضحاً أن صورة الدب الروسي الصارم والحاسم قد اهتزت بالفعل وسقطت الهالة التي كانت تحيط بذلك الجيش، وهو أحد المآرب الأساسية للأمريكيين من تصعيد الأزمة الأوكرانية بالصورة التي حدثت، بحسب أغلب التحليلات العسكرية داخل أمريكا وخارجها.
رسالة مشفرة للصين
الصين هي التهديد الأبرز للقيادة الأمريكية للنظام العالمي. هذا التقييم ليس تحليلاً ولا توقعات، بل هو بيانات معلنة من جانب بايدن وكبار المسؤولين في إدارته منذ اليوم الأول لتوليه المسؤولية. وزير الخارجية أنتوني بلينكن، خلال جلسات الاستماع في مجلس الشيوخ لتأكيد تعيينه في المنصب، قال إنه ربما يكون الملف الوحيد الذي “نتفق فيه مع إدارة ترامب هو الخطر الذي تمثله الصين” على القيادة الأمريكية للعالم.
أمريكا تضع هذا الخطر في سياقها الخاص بالطبع، وهو تهديد “العالم الحر والديمقراطي” الذي تقوده واشنطن. وعلى الرغم من أن تلك الرسالة ربما تكون قد فقدت كثيرا من بريقها خلال رئاسة دونالد ترامب، إلا أن الحرب في أوكرانيا قدمت خدمة هائلة للأمريكيين كي يعودوا بالفعل لقيادة الجبهة الرافضة لما أقدم عليه بوتين من هجوم على أوكرانيا.
والرسالة المشفرة التي بعثت بها الولايات المتحدة إلى الصين تخص تايوان بالأساس. فالصين وتايوان انفصلتا خلال حرب أهلية في الأربعينيات، وتعتبر تايوان نفسها دولة ذات سيادة وتحظى بدعم أمريكي وغربي، لكن بكين لا تزال تصر على أنه ستتم استعادة الجزيرة في وقت ما، وبالقوة إذا لزم الأمر.
ولا يعترف بتايوان، كدولة مستقلة، سوى عدد قليل من الدول؛ إذ تعترف معظم الدول بالحكومة الصينية في بكين بدلاً عن ذلك. ولا توجد علاقات رسمية بين الولايات المتحدة وتايوان، ولكن لدى واشنطن قانون يلزمها بتزويد الجزيرة بوسائل الدفاع عن نفسها. وتواجه إدارة الرئيس جو بايدن مأزقاً حقيقياً فيما يتعلق بتايوان، في ظل تكثيف الصين من خطواتها الهادفة إلى التأكيد على أن إعادة توحيد الجزيرة مع البر الرئيسي بات وشيكاً، لتتحول تايوان بالفعل إلى سؤال إجباري على أجندة السياسة الخارجية الأمريكية.
لكن التكلفة الباهظة التي تتكبدها روسيا في أوكرانيا قد تؤدي إلى بث القلق في نفوس القيادة الصينية وفي الوقت نفسه تزيد حماس تايوان، بشأن قرار صيني كان يبدو وشيكا بإعادة ضم الجزيرة المستقلة بالقوة العسكرية.
وهذا ما عبر عنه ليانج تشي إيفانز تشين، من معهد أبحاث الأمن والدفاع الوطني في تايوان لصحيفة The New York Times الأمريكية: “بالنظر إلى أنَّ الغزو الروسي يتقلّب من سيئ إلى أسوأ، فمن المرجح أن يتحلَّى المسؤولون الصينيون بمزيد من الحذر بشأن إرسال قوات إلى تايوان”.
رسائل للأوروبيين: نحن فقط القادرون على حمايتكم
لكن الرسائل الأمريكية من الحرب في أوكرانيا لا تتوقف فقط عند الصين، بل للحلفاء أيضاً نصيب منها. والحلفاء المقصودون هنا هم الاتحاد الأوروبي بشكل عام، ودول كفرنسا وألمانيا بشكل خاص، إذ كان الحديث بشأن تأسيس جيش أوروبي قد بدأ يأخذ شكلا أقرب للجدية خلال السنوات القليلة الماضية.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أحد أبرز المقصودين بالرسالة الأمريكية، بحسب كثير من المحللين، فهو القوة الدافعة الرئيسية وراء إحياء فكرة تأسيس جناح عسكري خاص بالاتحاد الأوروبي ومستقل عن حلف الناتو، الذي وصفه الرئيس الفرنسي ذات مرة بأنه “ميت إكلينيكياً”.
الاجتياح الروسي للأراضي الأوكرانية كشف عن مدى هشاشة الدول الأوروبية من الناحية العسكرية، وبدون وجود حلف الناتو – الذي تقوده أمريكا وتتحكم في قراراته بشكل رئيسي كونها الممول الرئيسي للحلف – تصبح أوروبا بأكملها مكشوفة تماما أمام الروس، كما أصبح واضحاً منذ بدأت الحرب.
نعم، قررت ألمانيا أن ترفع ميزانية الدفاع لديها بشكل واضح، لكن برلين بالأساس أو حتى باريس لم تكن يوما مهددة من جانب موسكو، فدول أوروبا الشرقية هي الأكثر عرضة للغضب الروسي، والآن باتت بولندا في مرمى النيران الروسية، ولا يحميها إلا كونها عضوا في حلف الناتو، أي أنه بدون وهو الحلف الذي لن يكون له تأثير يذكر دون وجود الولايات المتحدة فيه، لإنه ببساطة سيتفكك.
ولا شك أن زيارة جو بايدن لأوروبا ولقاءاته مع زعماء الاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع وزعماء الناتو، ثم زيارته لبولندا تحديداً، تعيد رسم صورة الولايات المتحدة كراعي رئيسي للأمن في أوروبا وحامي دول القارة العجوز من الدب الروسي.
هذه الصورة مناقضة تماماً لما كانت عليه صورة واشنطن قبل الهجوم الروسي على أوكرانيا. فالانسحاب الأمريكي من أفغانستان في صيف 2021 ثم “طعنة” الغواصات بين بريطانيا وأمريكا مع أستراليا، والتي أغضبت فرنسا إلى حد سحب سفيرها لدى واشنطن، كانت قد جعلت الأوروبيين – وغيرهم من حلفاء أمريكا حول العالم – يتشككون في القيادة الأمريكية ومدى جدواها. أما الآن فقد تغيرت الصورة مرة أخرى وعادت أمريكا لترسل الآلاف من جنودها إلى أوروبا استعداداً للدفاع عن الأوروبيين.
صحيح أن الاتحاد الأوروبي اتخذ قراراً بتأسيس “قوات الرد السريع” وقوامها 5 آلاف عسكري فيما يقولون إنه نواةلقوة عسكرية أوروبية، لكن تلك القوة كانت موجودة بالفعل واسمها “المجموعات القتالية” منذ عام 2007، دون أن يكون لها أي دور يذكر، وهو أيضا المتوقع بالنسبة لقوة الرد السريع التي يأمل الأوروبيون أن تدخل حيز التنفيذ عام 2025!
التأكيد على استمرارية القطب الأوحد
تتسم الساحة الدولية، منذ بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا، بحالة من السيولة لا أحد يمكنه إنكارها ولا أحد يمكنه الجزم بما قد تنتهي إليه بعد أن تنتهي الحرب وينقشع ضبابها ويصمت ضجيجها الذي يصم الآذان، لكن حالة السيولة التي يعيشها العالم حالياَ أعادت الولايات المتحدة إلى واجهة الأحداث مرة أخرى بصورة لا يمكن إنكارها.
فحتى أسعار النفط المرتفعة فيها فوائد لصناعة النفط الأمريكية، إذ إن تكلفة استخراج الخام الصخري الأمريكي مرتفعة ولا يمكن التوسع فيها ما لم يكن سعر البرميل فوق 45 دولاراً على الأقل، بحسب خبراء الطاقة. ومع وصول سعر البرميل إلى ما فوق 120 دولاراً للبرميل، واحتمالات ارتفاع الأسعار أكثر في حالة حظر النفط الروسي بشكل كامل، قد تتضاعف تلك الأرقام. وهذا يعني انتعاشاً كبيراً في قطاع الطاقة الأمريكي وفرص عمل ضخمة، رغم أن أسعار مشتقات النفط بالنسبة للمواطن الأمريكي ستكون أيضاً مرتفعة.
لكن صناع القرار في الولايات المتحدة ليسوا هم الناخبين سواء كانوا جمهوريين أو ديمقراطيين، بل هم قادة الأعمال وأصحابها، سواء كانوا مصنعي السلاح أو كبار منتجي النفط، والواضح أن هؤلاء انتعشت أعمالهم بشكل لافت مع اندلاع الحرب في أوكرانيا.
وعلى المستوى السياسي، ظهرت الولايات المتحدة ورئيسها وممثلوها في المنظمات الدولية في الصدارة مرة أخرى. ففي الجمعية العامة للأمم المتحدة نجحت واشنطن في تمرير قرار يدين الهجوم الروسي بأغلبية ساحقة، رغم امتناع الصين عن التصويت، وهو في حد ذاته رسالة مفادها أن أمريكا لا تزال الأقدر على حشد التأييد الدولي للمواقف التي تتخذها.
وحتى على مستوى الإعلام أصبح واضحاً أن “الرواية الأمريكية” للأحداث هي الأكثر انتشاراً، وعلى مستوى الشركات الخاصة، التي يفترض أنها تتخذ قراراتها في ضوء مصلحة المساهمين فيها بشكل أساسي، نجد أن شركة كماكدونالدز قد أغلقت فروعها الـ850 في روسيا ما تسبب في خسائر ضخمة للشركة، وهو ما يشير إلى أن الولايات المتحدة تتحكم بشكل أساسي في كثير من أوجه الحياة على الكوكب. فشركات التكنولوجيا العملاقة، كفيسبوك وتويتر وجوجل وأبل، هي شركات أمريكية، وكذلك سلاسل الوجبات السريعة الأشهر والأكثر انتشاراً وشركات المياه الغازية وغيرها.
المشهد على المستوى الرياضي، على سبيل المثال، يدعو للتأمل فعلاً، فروسيا، كمنتخبات وفرق وحتى كأفراد، تم طردها حرفياً من جميع الاتحادات الرياضية، والأمر نفسه وصل إلى الفن والعلوم ورجال الأعمال الروس، وكل هذه الجهود تقودها الولايات المتحدة بنجاح يدعو للتساؤل بشأن إقدام روسيا على إطلاق ترسانتها العسكرية على الأراضي السورية منذ 2015، وكانت أمريكا أيضاً تعارض ذلك لكنها – أي واشنطن – لم “تنجح” في فرض تلك العزلة على روسيا، فهل هندست واشنطن الأزمة الأوكرانية بالطريقة التي كانت نهايتها الحتمية اجتياحاً روسياً لتحقيق تلك المآرب المتعددة وأهمها استمرار “القيادة الأمريكية” للنظام العالمي؟
جميع المؤشرات تؤكد أن إدارة بايدن حشرت بوتين في الزاوية ولم تترك له مجالاً للمناورة حتى أقدم على اجتياح أوكرانيا، وبعد بدء الحرب سعت واشنطن، ولا تزال، لسد الطريق تماماً لأي تسوية سياسية تنهي تلك الحرب سريعاً، لأن تلك الحرب تحقق للولايات المتحدة أهدافاً استراتيجية ومكاسب متعددة، لكن مدى نجاح تلك الاستراتيجية في نهاية المطاف قد لا يزال نتيجة من المبكر الجزم بها.
عربي بوست
اقرأ أيضا: كيف يُشكِّل جيش كوريا الشمالية الضخم سيناريو مرعبًا لأمريكا؟