السبت , نوفمبر 23 2024

الخيارات الروسية في أوكرانيا بعد إعادة الانتشار العسكري

الخيارات الروسية في أوكرانيا بعد إعادة الانتشار العسكري

شارل أبي نادر

أن تنسحب الوحدات الروسية من كامل الشمال والشمال الشرقي الأوكراني، مهما كانت تسميات هذا الانسحاب، سواء إعادة انتشار أو إعادة تنظيم أو تركيز الجهود بهدف تنفيذ عملية واسعة في دونباس، في الوقت الذي كانت تسيطر على مساحات واسعة بين شمال غرب كييف، وامتداداً نحو سومي في الشمال الشرقي، مع محيط تشيرنيغيف، حتى الحدود مع بيلاروسيا، فهذا الأمر في الظاهر يُعتبر على الأقل تراجعاً، ما لم يكن هزيمةً، وخصوصاً أن تلك الوحدات كانت كبيرة وضخمة إلى درجة ظهور امتدادها عند الدخول من جنوب بيلاروسيا ومن غرب روسيا على عشرات الكيلومترات، من أرتال الآليات المؤللة والمدرعة، والمحمية من شبكة جوية فعالة من القاذفات والمسيرات الأكثر تطوراً.

ما حقيقة هذا الأمر؟ وهل تورَط الروس ووقعوا في الفخ الأوكراني الذي استدرجهم إليه الناتو؟ وما الخيارات التي يملكونها لتحقيق الأهداف التي وضعوها لعمليتهم في أوكرانيا، أو على الأقل لإثبات عدم هزيمتهم حتى الآن، وبأنهم على الطريق الصحيح لتحقيق أهدافهم؟

في الواقع، من غير الطبيعي أو غير المنطقي أن يتراجع الروس بهذه الطريقة الغامضة، والتي ظهرت كأنها “انهزامية”، من دون أن يكون وراء ذلك مناورة أو خطة ما، وخصوصاً أن تموضعهم الأخير في شمال الأراضي الأوكرانية وشمال شرقها لم يحصل نتيجة ضغوط عسكرية لافتة بالمستوى الذي يجبرهم على ذلك.

كما أن الموقف القتالي لوحداتهم قرب كييف ومدن شمال شرق أوكرانيا الأخرى، وخصوصاً سومي وتشيرنيغيف، لم يكن ذلك الموقف الضعيف أو غير المسيطر. في المقابل، لم يكن موقف الوحدات الأوكرانية بمستوى القادر على مواجهتهم بجدارة، فيما لو قرروا الدخول إلى تلك المدن التي حاصروها منذ بداية عمليتهم تقريباً، وخصوصاً أن الوحدات الأوكرانية كانت قد فقدت النسبة الأكبر من قدراتها الأساسية كجيش متماسك، ولم تعد تملك إلا بعض الأسلحة الفتاكة من صواريخ مضادة للمدرعات والطوافات، والتي تناور بها كوحدات مقاومة، وبشكل شبه فردي، بعد أن دمرت الوحدات الجوية والصاروخية الروسية أغلب قواعدها الجوية والبرية وغرف عملياتها ونقاط إدارة معركتها وتنسيقها.

بحسب صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية، والتي تقاطعت معلوماتها مع عدة مصادر إعلامية واسعة الانتشار، فإن الانسحاب الروسي من شمال أوكرانيا وشمال شرقها يهدف إلى التركيز على منطقة دونباس.

ويبدو، من خلال متابعة أغلب المصادر، أن الوحدات الروسية، ومن خلال حشد الوحدات والآليات المناسبة وتوسيع مروحة القصف الجوي والصاروخي المركَز، بدأت تتحضر جدياً لتوسيع هجومها على كامل منطقة دونباس، بدءاً من العمل والتحرك الجدي لإنهاء السيطرة بشكل كامل على مدينة ماريوبول، مع التحضير لإكمال السيطرة على ما تبقى من إقليمي لوغانسك ودونيتسك، مع إمكانية توسيع سيطرتها غرب خيرسون وجنوب غرب نيكولايف حتى أوديسا، وانتزاع كامل الواجهة البحرية الأوكرانية على البحر الأسود، مع ما تحمل هذه المناورة الأخيرة (نحو أوديسا) من حساسية، لارتباطها بخطورة الاقتراب من وحدات الناتو في رومانيا من جهة، وبأهمية احتفاظ أوكرانيا بآخر واجهة بحرية لها على البحر الأسود من جهة أخرى، وما سيخلقه لها لذلك من تداعيات اقتصادية وتجارية لن تكون سهلةً عليها، مثلما لن تكون أيضاً سهلة على الناتو.

عملياً، أن تبدأ موسكو عمليتها لإكمال السيطرة على دونباس، فنتيجة ذلك حتماً ستكون النجاح، إذ تكثُر المعطيات العسكرية والميدانية التي تؤكد ذلك، على الرغم من بعض الصعوبات التي نشأت بمواجهة الوحدات الروسية، وخصوصاً مع تزايد حصول الوحدات الأوكرانية على مروحة واسعة من الأسلحة الفتاكة، والتي لا شك في أنها كانت مؤثرة في مواجهات الشمال والشرق الأوكراني.

ولم يعد الموضوع محصوراً بصواريخ “جافلين” ضد الدروع أو “ستنيغر” ضد الطائرات أو طائرات “بيرقدار” التركية، والتي تم استيعاب مناورتها بشكل كبير، بل بدأت الوحدات الأوكرانية والمجموعات الغريبة التي تساندها، ومنها طبعاً عناصر عسكرية غربية (أوروبية وأميركية)، تحصل على صواريخ “ستار سترايك” البريطانية الأحدث والأكثر فعالية ضد المدرعات والطوافات في الوقت نفسه.

والأهم والأخطر من هذا الصاروخ، هو أن الوحدات الأوكرانية بدأت تحصل على طائرات مسيرة أميركية من طراز “سويتش بليد 600” مضادة للمدرعات وللمدفعية، والتي أثبتت فعاليتها وتفوقها في هذا النوع من القتال والاستهداف، وقد تشكل عائقاً غير بسيط أمام حركة المدرعات الروسية.

من هنا، ومع هذه الضغوط الدولية على روسيا في كل الاتجاهات، وخصوصاً اقتصادياً، إذ تتسابق الدول المنصاعة إلى واشنطن لكي تفرض عليها عقوبات ضخمة، ودبلوماسياً، إذ قد يفرغ الغرب (أوروبا وأميركا) قريباً من أي دبلوماسي روسي بعد موجة الطرد التي يتعرض لها الدبلوماسيون الروس، والضغوط الأخيرة حالياً المتعلقة بتلفيق اتهامات للوحدات الروسية بانتهاك القانون الدولي الإنساني وقانون الحرب في بوتشا غرب كييف وغيرها، وفي الوقت الذي جاء في أحدث تصريح لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن “هدف الاستفزاز الكاذب” في مدينة بوتشا الأوكرانية هو محاولة إفشال المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا، والتي كانت الأخيرة أعلنت لأول مرة فيها استعدادها لأن تكون دولة محايدة خارج الأحلاف، وللتخلي عن نشر أسلحة أجنبية في أراضيها، لم يعد أمام موسكو إلا بعض الخيارات الضيقة التي أصبحت مُجبرة على الذهاب بها، والتي ترتبط بتوسيع الضغط العسكري، من خلال تغيير بعض بنود الخطة الأساسية والإبقاء على بعضها، وذلك على الشكل التالي:

– إكمال السيطرة على إقليم دونباس، وتثبيت ارتباطه جغرافياً وميدانياً بشبه جزيرة القرم وشمالها حتى خيرسون وزابورجيه.

– متابعة مناورة تدمير البنية العسكرية للجيش الأوكراني، إذ تم حتى الآن تدمير 125 طائرة، و93 مروحية، و403 طائرات من دون طيار، و1981 دبابة ومركبة قتالية مصفحة أخرى، و854 قطعة مدفعية ميدانية ومدفع هاون، و1876 وحدة من المركبات العسكرية الخاصة، استناداً إلى تصريح المتحدث باسم وزارة الدفاع الروسية.

– منع كل الفرص والإمكانيات المتاحة أمام الوحدات الأوكرانية للحصول على أسلحة غربية فتاكة، كتلك التي حصلت عليها بكثافة، والتي ساهمت في عرقلة تقدم الوحدات الروسية وزيادة خسائرها في العتاد والجنود، وذلك من خلال إقفال الحدود الغربية والجنوبية لأوكرانيا بالكامل مع دول الناتو من جهة، وقطع ترابطها مع البحر الأسود، عبر إكمال السيطرة على كل الواجهة الجنوبية البحرية على البحر المذكور، وضمناً مدينة أوديسا وجنوب غربها، من جهة ثانية.

– العمل على الابتعاد عن المدن، مع تنفيذ مناورة واسعة بين جنوب غرب كييف حتى ميكولايف، لشطر أوكرانيا قسمين شرقي وغربي، وعزل كل قسم عن الآخر، بما يتضمه من مدن ومناطق حيوية، واستغلال هذا الموضوع في المفاوضات مع الأوكرانيين.

– مواكبة هذه الأعمال العسكرية والميدانية مع رفع مستوى الضغوط الروسية على الأوروبيين في موضوع الغاز وغيره من المنتجات الغذائية الروسية، والتي تعتبر من الحاجات الضرورية لأوروبا، وبأن يكون الثمن بالروبل حصراً، بهدف تأزيم العلاقة بين واشنطن والدول الأوروبية المنساقة رغماً عنها مع الأميركيين ضد موسكو.
الميادين