الثلاثاء , نوفمبر 26 2024

الروبل يرتفع.. كيف قلبت روسيا طاولة «العقوبات» على الغرب؟

الروبل يرتفع.. كيف قلبت روسيا طاولة «العقوبات» على الغرب؟

هل يتغيًّر العالم بسبب الحرب في أوكرانيا؟ لا أحد يملك إجابة حاسمة عن هذا السؤال، لكن المؤكد أن روسيا أمام مفترق طرق لتغيَّر جذري في طبيعة اقتصادها، وسط وعود من الكرملين بأن يصمد الاقتصاد الروسي، وتبشير من الغرب بقرب انهياره، نتيجة للعقوبات المفروضة على روسيا عقب شنها الحرب على أوكرانيا منذ 24 فبراير (شباط) 2022.

ومنذ بداية فرض العقوبات بدا جليًا أن موسكو حضرت نفسها طويلًا وبشكل عميق لهذه الحرب، لكن الغرب أيضًا بدا مستعدًا لتنفيذ «خيارات نووية اقتصادية» لا حدود لها، فإذا كانت موسكو قد راكمت احتياطات أجنبية طوال السنوات الثمانية الماضية؛ ليصبح إجمالي احتياطاتها أكثر من 600 مليار دولار، فإن الغرب في المقابل جمد كل ما يستطيع تجميده من هذه الاحتياطات؛ إذ تمكن من وضع يده على نصف هذا المبلغ تقريبًا.

كما تجاوزت العقوبات الغربية التوقعات الروسية بالفعل، من فصل بنوك روسية عن نظام «SWIFT»، وهو النظام الذي ينقل عبره العالم القيمة ويجري تعاملاته المالية، إلى تجميد أرصدة البنك المركزي والبنوك الروسية، وملاحقة الشخصيات السياسية، ورجال الأعمال المقربين من الكرملين.

ولكن موسكو بدأت بعد شن الحرب على أوكرانيا في إجراءات اقتصادية تهدف إلى تخفيف أثر العقوبات على الاقتصاد الروسي، وتحاول الآن إحداث تغيير جذري في طبيعته، وقد تؤدي هذه الإجراءات إلى تغيير كبير في الاقتصاد العالمي؛ خصوصًا إذا ما دخلت دول أخرى على خط المواجهة بشكل أوضح؛ وتحديدًا الصين، والتي أعلنت شراكتها غير المحدودة مع روسيا قبل الحرب، ولكنها قد تقدم المزيد لاحقًا في إطار العداء المشترك للغرب، فما الإجراءات التي اتخذتها روسيا اقتصاديًا منذ بدء الحرب؟ وما الإجراءات التي قد تتخذها لاحقًا؟
ما تفعله موسكو.. جهود مضادة للعقوبات الغربية

تنوعت إجراءات روسيا الاقتصادية منذ بدء الحرب، لكن غالبها تركّز على محاولة السيطرة على معدلات التضخم التي ارتفعت بشكل غير مسبوق، ومراقبة الأسعار بما يشمل مراقبة السوق السوداء، وضمان توافر السلع الأساسية في روسيا، كما حاولت موسكو حماية الروبل، ومنع انهياره بالكامل، وإعادته إلى مسار التعافي مؤخرًا، وهو إجراء تحمل البنك المركزي الروسي عبئه بالدرجة الأولى.
أولًا: الإجراءات الرقابية الداخلية

من الطبيعي أن يتخوف المواطنون الروس من العقوبات الاقتصادية؛ وخصوصًا بسبب ما أحدثته العقوبات السابقة في اقتصاد بلادهم بعد ضم القرم في عام 2014؛ إذ تؤدي العقوبات إلى زيادة الهلع بين الناس في الغالب، وإلى التهافت على شراء السلع من المحال التجارية، والأخطر من ذلك أن يستغل بعض التجار الحالة الاقتصادية ليشتروا كميات كبيرة من السلع، ويخزنوها لبيعها لاحقًا بأسعار مرتفعة.

وتنبهت روسيا مسبقًا لهذا الخطر، وقررت باكر أن تسمح للمحال التجارية بوضع حد أعلى لكمية شراء السلع؛ وتحديدًا السلع الأساسية من المحال التجارية، خصوصًا بعد تسجيل عمليات شراء بكميات ضخمة مؤخرًا، بعضها كان بالأطنان.

كما أن الدولة الروسية بدأت عمليات رقابة للأسعار، وخصوصًا أسعار السلع الأساسية، لمنع تجاوزها لحدود معينة؛ تهدد القدرة الشرائية للمواطنين، رغم أن موسكو اعترفت أن البلاد مقبلة على ارتفاع في الأسعار، وفقدان للوظائف، لكنها في نفس الوقت تجاوزت صدمة «المعركة الخاطفة للعقوبات»، ومن المتوقع أن تسمر في الصمود أمامها.
ثانيًا: الروبل ثمنًا للديون

تُستخدم الاحتياطات الأجنبية في الخارج في الكثير من التعاملات المالية؛ وبينها دفع مستحقات الديون بالعملات الأجنبية، ولأن روسيا، مثل غيرها من دول العالم، تحتاج إلى تمويل بالدولار وغيره من العملات الصعبة؛ لسداد أثمان مستورداتها مثلًا، فإن عليها أن توفر احتياطات بالدولار واليورو؛ لأن لا أحد سيقبل بأن يصدر لروسيا ويستلم ثمن بضاعته بالروبل مثلًا.

وتوجد كثير من الاحتياطات الأجنبية الروسية داخل الدول الغربية، وبعض الدول الحليفة للغرب، مثل اليابان، وكوريا الجنوبية، والتي قررت تجميدها، وحرمان البنك المركزي الروسي من التحكم بها، بينما تحتفظ موسكو بـ35% من الاحتياطات النقدية داخلها أو في الصين حليفتها، و10% غير معلومة المكان.

وبلغ الدين الروسي الخارجي أكثر من 75 مليار دولار في عام 2021، ولكونها ديونًا خارجية فإنها مقومة بعملات أجنبية، ولكن لأن الدول الغربية جمدت أرصدة روسيا في الخارج، وبالتالي استولت على احتياطاتها من العملات الأجنبية التي كانت تستخدمها لدفع مستحقات الديون؛ فإن روسيا مضطرة لاتخاذ تدابير أخرى، أو الوقوع في «التعثر» عن دفع المستحقات؛ ما يعني تصنيفها دولةً عاجزة عن السداد، وفقدان أية ثقة باقتصادها، وتتهم روسيا الدول الغربية بأنها تحاول أن تختلق حالة تعثر اصطناعية عبر قرارات تجميد أموالها لديهم.

لذلك فإن موسكو أعلنت أنها ستحاول تسديد ديونها بالعملة الأجنبية المتفق عليها مسبقًا، لكن إذا لم تستطع ذلك فإنها ستسدد هذه الديون باستخدام الروبل الروسي، وطبعًا ألقت موسكو باللوم على الغرب في حال اضطرارها لمثل هذه الإجراءات.
ثالثًا: النفط والغاز بالروبل

بسبب العقوبات الغربية على الاقتصاد الروسي فإن مراكمة الاحتياطات الأجنبية من الدولار وغيره من العملات لم تعد ذا أهمية بالنسبة إلى روسيا كما كان في السابق، إذ لم تراكم موسكو عملات دول تفرض عليها عقوبات؟

خريطة توضح مسار خط أنابيب الغاز «نورد ستريم 2» من روسيا إلى ألمانيا

لذلك فإن روسيا قررت أن على الدول «غير الصديقة» أن تشتري الغاز بالروبل، بدلًا عن شرائه بأية عملة أخرى، أو أن تبادل الغاز بسلع ترسلها إلى روسيا، وبالتالي فإن موسكو لن تتخلى عن العملات الأجنبية فحسب، بل تدعم الروبل بهذه الخطوة، وترفع قيمته في السوق، عن طريق رفع الطلب عليه في الداخل والخارج.

منذ بدء الحرب فقط، أي خلال شهر واحد، استورد الاتحاد الأوروبي من روسيا ما قيمته 18 مليار دولار من الطاقة، وفي حال كانت بقيت مبيعات الطاقة الروسية إلى أوروبا على حالها طوال العام، فإن ذلك يعني أن أوروبا وحدها ستضطر إلى دفع ما قيمته أكثر من 200 مليار دولار لروسيا ثمنًا للطاقة، مع الاضطرار لدفعها بالروبل الروسي، والتي ستضطر إلى مبادلته مع روسيا.

كما أن هذه الخطوة تعتبر أسلوبًا روسيًا للمناورة في مواجهة العقوبات، خصوصًا أن مستوردي الطاقة من روسيا سيضطرون إلى التفاوض مع البنوك الروسية التي فُرضت عليها العقوبات الغربية، وسيضطرون إلى قبول تحويلات منها وإرسال تحويلات إليها، في خرقٍ اضطراري للعقوبات.

حتى الآن ليس من الواضح إذا ما كانت الدول الأوروبية سترضخ للشروط الروسية، ولكنها إن اضطرت إلى ذلك فسيعني هذا ارتفاعًا أكبر للقيمة عن الذي حققه الروبل عند إعلان الخطوة الروسية، والتي أدت إلى رفع قيمة العملة حتى قبل تطبيق الإجراءات، لكونها ترفع التوقعات بارتفاع الطلب على الروبل.
رابعًا: سياسات استثنائية للبنك المركزي الروسي

بعد أيام من بدء الحرب قرر البنك المركزي الروسي رفع سعر فائدته بأكثر من الضعف، لتصبح الفائدة 20%، بعد أن كانت 9%، لرفع جاذبية الأصول المقومة بالروبل، ورفع العائد من الاستثمار فيها؛ مما يحمو قيمة الروبل، كما أن رفع سعر الفائدة يساهم في محاربة التضخم في البلاد.

أيضا فرض البنك المركزي الروسي على الشركات المصدرة للطاقة، والتي تقبض ثمن صادراتها بالعملة الأجنبية، أن تحول 80% من مبيعاتها بالعملة الأجنبية إلى الروبل؛ لرفع قيمة الروبل عن طريق رفع الطلب عليه، ولو عن طريق الإجبار.

كما أن البنك المركزي الروسي يطبق قيودًا على بيع الروبل في السوق، ومبادلته بالعملات الأجنبية، مقيدًا بذلك عرض العملة في السوق، للمساهمة في منع هبوط الروبل أكثر.
الاقتصاد الروسي على مفترق طرق

كل هذه الإجراءات حصلت في الشهر الأول من الحرب، وهي ردة فعل روسية ومحاولة لامتصاص صدمة العقوبات؛ وهي إجراءات كبيرة بلا شك، لكنها غير كافية لإحداث تغييرات اقتصادية عميقة في الاقتصاد الروسي، يستطيع بتطبيقها الصمود في السنوات القادمة مع العقوبات الغربية، أو الرد بشكل أكبر على عقوبات الغرب، فما الذي يمكن لروسيا فعله في المستقبل؟ وكيف يمكن أن تتغير بنية الاقتصاد الروسي في المستقبل بسبب العقوبات والإجراءات الروسية المضادة لها؟
1- نظام مصرفي سري

تمتلك روسيا حلفاء مروا بتجربة العقوبات الغربية سابقا؛ كما أنها نفسها مرت بتجربة عقوبات أخف منذ عام 2014، لذا فإن روسيا تعلمت وتتعلم من هذه التجارب المختلفة، كي تستطيع التغلب على العقوبات الغربية القصوى حاليًا.

أهم هذه التجارب هي التجربة الإيرانية، والتي شهدت نموًا سالبًا في أربع سنوات خلال العقد الأخير، تراوحت بين -1.3 في عام 2015، و-7.4 في عام 2012، وحصل ذلك كله بسبب العقوبات الغربية، وخصوصًا سياسة العقوبات القصوى التي طبقها ترامب عام 2018، والتي تسببت في انكماش الاقتصاد عامين متتاليين بنسب تجاوزت 6%.

ومع كل الآثار الاقتصادية للعقوبات على إيران، فإن العقوبات فشلت في إسقاط النظام الإيراني، أو الإخلال باستقراره، كما فشلت العقوبات على طهران في تقليص حدة التدخل الإيراني في المنطقة، أو ضرب النفوذ الإيراني في العالم العربي.

وكانت إحدى أبرز طرق التفاف إيران على العقوبات الغربية بيع الغاز مقابل الذهب لتركيا، والذي يسْهُل لاحقًا تحويله إلى العملات الأجنبية؛ لصعوبة تتبع مثل هذه العمليات المالية، لتتمكن إيران من تصدير غازها بالفعل وتُحصّل عملات أجنبية تحتاجها لشراء الكثير من السلع، ولو عن طريق التهريب.

لكن وثيقة سربت حديثًا تتكلم عن إنشاء إيران لنظام مصرفي سري، تمكنت عبره من تجنب العقوبات الغربية، فيما وُصف بأنه « عملية تبييض أموال غير مسبوقة من طرف دولة»، ويعمل هذا النظام المصرفي السري عن طريق تعامل البنوك الإيرانية مع شركات داخل إيران، تعمل على تأسيس شركات في الخارج، لتمثل التجار الإيرانيين، دون أن تكون هناك علاقة معلنة بين هذه الشركات وإيران، لتجنب العقوبات، وتقوم الملاذات الضريبية بتقديم خدمات تُمكّن من فعل ذلك.

وتقوم هذه الشركات بالتعامل مع مُشتري المنتجات الإيرانية في الخارج، أو من يرغبون بالتصدير إلى إيران، وتستخدم الشركات العملات الصعبة، مثل الدولار واليورو في تعاملاتها، لكونها غير مشمولة بالعقوبات، لانتفاء أي علاقة معلنة بإيران، وتستخدم هذه الشركات حسابات مملوكة لها في بنوك خارج إيران.

تقوم إيران لاحقًا بإدخال جزء من العملات الأجنبية المحصلة نتيجة لتصدير العملة عن طريق المهربين، لكن أغلب هذه الأموال تبقى خارج إيران، وتستخدم في التعاملات الإيرانية من الخارج، دون إدخالها إلى البلاد.

يمكننا أن نسمي هذه الممتلكات من العملات الأجنبية بـ«الاحتياطي غير الرسمي من العملات الأجنبية»، وقد تسعى روسيا لامتلاك مثل هذا «الاحتياطي غير الرسمي» أيضًا، وقد تكون بدأت بالفعل بإنشاء نظامها المصرفي السري.
2- قطع النفط والغاز عن أوروبا قبل إيجاد البديل

قد يكون هذا هو «الخيار النووي الاقتصادي» الخاص بروسيا، وبعكس «الخيارات النووية الاقتصادية» الغربية، فإن روسيا ستتضرر بشكل كبير من اتخاذ مثل هذا الخيار، ولكنه سيؤتي أكله بدفع الاقتصاد الأوروبي نحو الكساد، وخسارة مئات آلاف الوظائف، مع احتمال انقطاعات في الكهرباء في أوروبا، وارتفاعات هائلة في أسعار الطاقة، وربما تمتد آثار هذا الخيار شهورًا أو سنوات.

إلا أن مثل هذه الإجراء العقابي لا يفيد الاقتصاد الروسي في الصمود، بل يضر الكثير بإجراءات روسيا الاقتصادية في هذا الصدد، ولذلك فهو إجراء مستبعد، ما لم تقتضيه ضرورة تصعيد كبير جدًا مع الدول الأوروبية بشكل مباشر.

ولا يمكن التنبؤ بجميع الإجراءات التي قد تعمد موسكو لاتخاذها، وقد يكون من بينها اتفاقات سرية مع دول لا تريد مواجهة عقوبات الغرب؛ لكنها تحتاج لاستمرار الاستيراد من روسيا، كما أن دولًا كثيرة كانت ضمن الاتحاد السوفيتي ما زالت تقع ضمن النفوذ الروسي، ولن تكون قادرة على ممانعة التجارة مع موسكو.
3- التوجه نحو الداخل والمساهمة في إنشاء مجال اقتصادي عالمي بديل

يعتمد إنشاء مجال اقتصاد عالمي مُنشَق عن العولمة الاقتصادية على مدى استعداد دول أخرى للقيام بذلك، وخصوصًا الصين، وسيبقى مثل هذا النهج الاقتصادي حبيس الافتراض، حتى تبدأ تجارب القيام به على الأرض، وسيحتاج ذلك إلى سنوات حتى يمكن تقييمه، وإن كانت الشهور القادمة قد تحمل مؤشرات على ذلك.

مناورات عسكرية روسية -صينية

إذ إن الغرب يجبر روسيا على التوجه نحو الداخل اقتصاديًا، فهي محرومة من التجارة مع الكثير من البلدان، ومضطرة، في ظل العقوبات الغربية، لتوفير سلعها الأساسية بنفسها، كما أنها ممنوعة من تصدير الكثير من المنتجات إلى الخارج؛ ما يعني أنها مضطرة إلى توجيه الكثير من الفوائض إلى الداخل، وربما إلى دول حليفة مثل الصين، أو دول رافضة للانضواء تحت حملة العقوبات الغربية على روسيا.

وفي مقال للمفكر الماركسي الراحل سمير أمين نشر عام 2015، توصل إلى أن التحالف الغربي المكون من الولايات المتحدة، وأوروبا، واليابان، تطبق سياسات معادية لدول الجنوب (أو دول الأطراف، الدول النامية، الاقتصادات الناشئة… إلخ)، وتقوم هذه السياسات على ركيزتين أساسيتين؛ النيوليبرالية المعولمة باعتبارها نظامًا اقتصاديًا، والتدخل السياسي والعسكري في هذه الدول.

في المقابل فإن دول الجنوب تحاول التصدي للسياسات الغربية المعادية لها ولمصالحها عن طريق رفض التدخلات السياسية والعسكرية، دون محاربة «الإمبريالية الاقتصادية»، بل إن دول الجنوب تقبل بالنيوليبرالية المعولمة نظامًا اقتصاديًا في العالم.

وتطرق سمير أمين إلى أحداث أوكرانيا في تلك الأعوام، والتي تلت ضم القرم ومعارك الدونباس شرق أوكرانيا، وقال إن التصدي الروسي لأهداف الغرب السياسية والعسكرية محكومة بالفشل إذا لم تستطع روسيا التخلي عن النيوليبرالية الاقتصادية، وبناء اقتصاد يفيد عموم الشعب الروسي باعتباره هدفا أساسيا، واقترح أمين بناء رأسمالية دولة في روسيا، تطبق سياسات اجتماعية-اقتصادية، تسمح بإدماج الشعب الروسي في إدارة اقتصاده، ودمقرطة عملية اتخاذ القرارات الاقتصادية.

في مثل هذه الحالة يمكننا أن نقول إن الحرب الاقتصادية الغربية، سيكون من الممكن أن تجابه بحرب اقتصادية يقودها الشعب الروسي ضد الغرب، معتمدة أساسًا على إدارة الاقتصاد المحلي عن طريق إدارة شعبية، تفيد مصالح عامة الشعب الروسي كما يراها أمين.

ويشمل مثل هذا النهج دعم الصناعات الروسية وتطويرها، وتوجيه منتجاتها إلى الداخل الروسي، وربما إلى دول حليفة؛ بينما يقوم الترتيب النيوليبرالي على أن يكون الدور الاقتصادي لروسيا هو تقديم المواد الخام – والطاقة خصوصًا – للغرب بالإضافة لليابان، مقابل العملات الأجنبية، بينما يحكم على الصناعات الروسية أن تظل تحت جناح الصناعات الغربية الأكبر، ومكملة لها، باعتبارها جزءًا صغيرًا فقط.

لكن لأن روسيا تُجبر اليوم على مثل هذه الخطوات، دون إعداد اقتصادي مسبق يشمل خططا للتصنيع والزراعة، والاعتماد على الذات، فإن مثل هذه الإجراءات قد تحتاج إلى تعاون وثيق جدا مع الصين، وبالتالي قد يشهد العالم تشكيل مجال اقتصادي مناوئ للغرب، يكون مركزه الأساسي الصين، ويشمل روسيا بالطبع، ودولًا أخرى معادية للغرب، مثل إيران، وكوريا الشمالية، وفنزويلا، وربما دولًا أخرى قد تدخل في هذا المجال، أو تقرر بعض الدول أن مصالحها في عدم الانحياز الكامل لمجال ضد الآخر، وتضطر إلى التعامل مع الطرفين.

يغذي احتمالية هذا السيناريو الحرب التجارية بين الصين وأمريكا؛ والتي بدأت مع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وتنامي المخاوف الغربية من تشكل جبهة مناوئة للغرب؛ عمادها الصين وروسيا، في ظل التصريحات القادمة من بكين المعادية للعقلية الغربية علنيًا، مثلما حمّل دبلوماسيون صينيون الولايات المتحدة مسؤولية الأزمة الحالية في أوكرانيا، واتهموها بالإقدام على غزو وتدمير بلدان كثيرة في العالم، فضلًا عن التصريحات الصينية عن الشراكة غير المحدودة مع روسيا.

كما قد توفر الصين صمام أمان اقتصادي لروسيا، بالسماح لها باستخدام احتياطاتها الأجنبية في الصين، ورفع الاستيراد من روسيا، بدلًا عن التصدير للغرب، وتقديم سلع فقدها الاقتصاد الروسي بعد أن كان يستوردها قبل الحرب من دول غربية.

فإذا تحولت هذه العلاقات الاقتصادية إلى تكامل اقتصادي، وتعاون شامل؛ فإن هذا لن يعني فقط فتح مجال اقتصادي جديد لا يستطيع الغرب التأثير فيه بنفس قدرته على التأثير في مجال اقتصادي معولم، بل إن ذلك يعني أن الغرب سيعيد حساباته كثيرًا قبل فرض العقوبات مستقبلًا، فتطبيق العقوبات الاقتصادية على روسيا سهل بالمقارنة بتطبيقها على الصين؛ ثاني أضخم اقتصاد في العالم، والذي يمتاز باعتماد تجاري متبادل على الغرب، ليس من مصلحة الطرفين فقدانه.

فكما أن الغرب اليوم يعيد حساباته كثيرًا قبل فرض عقوبات على روسيا في مجال الطاقة، فإنه سيعيد حساباته أكثر عند محاولة فرض عقوبات شديدة على الصين؛ فالصادرات الصينية إلى العالم أضخم وأكثر أهمية من الصادرات الروسية، كما أن النمو المرتفع في الصين محرك للنمو العالمي؛ خصوصًا بما توفره الصين من سوق ضخمة جدًا للاستيراد والتصدير.

ساسة بوست