بعد أن فشلت أميركا في الحرب الكونيّة الإرهابيّة التي قادتها على سورية، وتيقنت بعد ١١ سنة من كل ممارسات العدوان والحصار أنها لن تسقط سورية ولن تمتلك مكاناً او حتى موطأ قدم في إدارة البلاد او موقعاً مؤثراً في تحديد خياراتها الاستراتيجية او قرارتها السيادية، بعد ذلك انقلبت أميركا الي اعتماد استراتيجية انتقاميّة ترمي الى تحقيق ٣ أهداف خبيثة أولها منع سورية من استثمار انتصارها والعودة الى الحياة الطبيعية، الثاني منع سورية من إطلاق عملية إعادة البناء واستعادة ما دمّرته الحرب، والثالث منع سورية من العودة الى موقعها المؤثر إقليمياً وعربياً.
بيد أن سورية وكما واجهت الخطة الاميركية الاساسية والعدوان الكوني عليها، قررت أيضاً مواجهة الخطة العدوانية الجديدة بالقدر الممكن والذي تتيحه الظروف الذاتية والإقليمية والدولية وأطلقت استراتيجية دفاع جديدة تقوم أيضاً على أركان ثلاثة الاول استعادة من ضلّ وابتعد من الشعب الى كنف الدولة ضمن إطلاق البرنامج الوطني للتسويات عبر العفو والمصالحة، والثاني الإعداد والاستعداد الميدانيّ لاستكمال عملية التطهير والتحرير وعلى وجهيها الشعبي المقاوم والعسكري النظامي المتحشّد في محيط المناطق المحتلة، والثالث الاستفادة من الفرص الإقليمية والدولية التي تتاح لإحداث اختراقات في الحصار والعلاقات العربية الدولية.
وفي التنفيذ استندت اميركا الي عناصر ميدانية ثلاثة تعمل برعايتها ضمن حدود رسمتها لهم مع إبقاء التنافر والتضاد والخلاف الظاهر بينها لغايات أميركية تنافسية تجعل من أميركا مرجعتيهم الدائمة التي تحافظ عليهم جميعاً وتمنع أياً منهم اجتثاث الآخر. فالكل حاجة أميركية لخدمة المصالح الأميركية. ولكنها مع ذلك تتيح تغير حدود الفعالية والنفوذ بين هذه الأدوات وفقاً لمتطلبات المرحلة. وهذه العناصر هي الاحتلال التركي والحركة الانفصالية الكردية والجماعات الإرهابية الداعشية وسواها “الطليقة” أو المدخرة في “سجون او معسكرات أنشئت او تدار برعاية أميركية مباشرة علنية او محجوبة. سجون ومعسكرات أقيمت حيث تسيطر الحركة الانفصالية الكردية قسد وينتشر الاحتلال الاميركي في الشمال الشرقي من سورية وعلى مقربة من الحدود العراقية.
أما في النتائج الأولية للمواجهة، ورغم استمرار الاحتلال الأميركي والتركي في الشمال الغربي والنفوذ الانفصالي في الشمال الشرقي، فقد عجزت أميركا عن تحقيق أغراضها وتبينت لها مدى محدودية مفاعيل استراتيجيتها الجديدة البديلة. بدليل عجز العمليات الإرهابية التي تنفذها جماعات داعش بعد “الاستنهاض الأميركي لها” عن إحداث الإخلال الأمني في المناطق المحرّرة والمطهّرة، كما وعجز الضغط الاميركي عن وقف البرنامج الوطني للتسويات واستمرار عملية التسوية بخاصة في محيط دير الزور في مواجهة منطقة الاحتلال الاميركي والانفصالية الكردية، بل واستمرارها بحماس منقطع النظير، وأخيراً كانت زيارة الرئيس الأسد للأمارات العربية وتصاعد الحديث عن إمكانية مشاركة سورية في القمة العربية في الجزائر في الخريف المقبل علامات ومؤشرات تنبئ بفشل استراتيجية أميركا العدوانية الجديدة ضد سورية.
في ظل هذه النتائج السلبية من الوجهة الأميركية أطلقت روسيا عمليتها الخاصة في أوكرانيا دفاعاً عن أمنها القومي وأمن الروس عبر الحدود غرباً، عملية كانت اميركا في البدء تتمناها من أجل إغراق روسيا في حرب استنزاف تنهك قواها وتشغلها عن ميادين الصراع الدولي، ومنها سورية، وتمكن أميركا، بالتالي من المحافظة على الوضع غير الطبيعيّ في الشمال السوري بما يمكنها من الاستمرار في الوجود الاحتلالي ومن متابعة سرقة النفط والثروات الطبيعية السورية لمنع سورية من الوصول إليها واستعمالها لتخفيف آثار الحرب الاقتصاديّة التي تشنّ عليها.
لقد احدثت العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا هزة كبيرة في العلاقات الدولية، خاصة أن روسيا عرفت كيف تدير مسرح العمليات وعرفت أي استراتيجية تعتمد من أجل تحقيق أهدافها الاستراتيجية دون أن تنزلق الي حيث تتمنى وتشتهي اميركا أن تراها في مستنقع حرب الاستنزاف التي ترهقها وتقفل سبل عودتها لاعباً أساسياً قوياً من الفئة الاولى على المسرح الدولي، وبهذا خابت آمال أميركا مجدداً خيبة جعلتها في وضع لا يمكنها التحرك العسكري في أوكرانيا لمواجهة روسيا، كما لا يمكنها أن تفعل شيئاً آخر يمنع روسيا من استثمار نتائج عمليتها الخاصة سوى إطالة امد الحرب ومنع حكومة الرئيس الاوكراني زيلنسكي من الاستجابة للمطالب الأمنية والسياسية الروسية.
ويبدو أن اميركا تريد ان تعوض العجز الذي تستشعره في أوكرانيا بتحريك وتصعيد الوضع في سورية لتظهر قوتها وقدرتها المتواصلة على التأثير وإبقاء زمام الأمور والمبادرة بيدها، من خلال تحريك ادواتها الثلاث في سورية كل في المجال الذي يقدر عليه كما بات ظاهراً، ولهذا فإنها ومع استمرار احتلالها وسرقتها للنفط والثروات السورية شرقي الفرات، فإنها كما يبدو شرعت او تستعد لتحريك أدواتها تلك وفقاً لما يلي:
داعش والجماعات الإرهابية الأخرى: يبدو ان اميركا وبعد إعادة التنظيم والتسليح والتدريب لجماعات داعش وبعد إخراج القسم الكبير منهم من السجون واعادة توزيعهم ونشرهم شرقي سورية من التنف جنوباً الى دير الزور شمالاً، يبدو انها ستطلق عمليات إرهابية في البادية السورية ضد المدنيين ورجال الجيش العربي السوري المنتشرين في المنطقة من أجل إرسال رسالة واضحة بان الحرب في سورية لم تنته بعد وأن الإرهاب استعاد قدراته على العمل الإجرامي فيها.
جماعات قسد يبدو أن اميركا وبعد ان منعت قسد من اطلاق او متابعة حوار مع الدولة السورية لترتيب أوضاعها في المنطقة، تريد أن تحمل قسد على الضغط على الحكومة السورية من خلال الضغط على المدنيين السوريين في مناطق نفوذها وتعطيل حياتهم وعرقلة عجلة الاقتصاد لديهم فضلاً عن الضغط التعليمي والصحي والإنساني كل ذلك من أجل حملهم على الرحيل وإحداث تغيير ديمغرافي في المنطقة يوحي بجدية المشروع الانفصالي.
الاحتلال التركي وهو الى جانب الاحتلال الأميركي الوجه الأخطر من وجوه العدوان الأجنبي المركب بقيادة أميركية لما ينطوي عليه من قضم للأرض وانتهاك للوحدة وتغيير ديمغرافي في الشمال السوري. ويبدو ان اميركا بصدد إفساح المجال أمام هذا الاحتلال للتوسع شرقا باتجاه الحدود العراقية لتحقيق الهدف التركي القديم والمتمثل بإقامة حزام بعمق ٥٠ كلم وعرض ١٢٠ كلم في داخل الأراضي السورية دونما التوقف عند الرفض الكردي الذي هو في كل الأحوال لا يقوى على معاكسة الإرادة الأميركية خاصة أن أميركا قد تكون بحاجة الى هذه العطية لتركيا لتأخذ منها مقابلاً في القضية الأوكرانية اما ابتعاداً أكثر عن روسيا او تسليحاً لكييف او الأمرين معاً.
العميد د. أمين محمد حطيط أستاذ جامعي – باحث استراتيجي.
البناء
اقرأ أيضا: الجيش الروسي يدمر”هدية أمريكية” ثمينة لأوكرانيا وصلت من أوروبا