من الأشرفية إلى القامشلي مفاوضات بالضغوط
أثارت العمليات العسكرية التي قامت بها قوات “قسد” في مدينة القامشلي شمال شرقي سوريا، والسّيطرة على ما تبقى من المقرّات الحكومية للدولة السورية، تساؤلات عن فحوى ما جرى من عمليات، وهل هي مرتبطة بما يجري في الداخل السوري، وبما يجري على مستوى الإقليم؟
تعرَّضت العلاقة المتجذرة بين دمشق وقوات حزب الاتحاد الديمقراطي، الَّذي يمثل الوجه السوري لحزب العمال الكردستاني، لتقلبات متعددة، كانت إيجابية في أغلبها، وخصوصاً بعد انطلاق العمليات العسكرية للأوجلانيين في جنوب شرق تركيا في العام 1984، بدعم من دمشق وغطاء سوفياتي، واستمرَّت حتى العام 1998، إذ اضطرت دمشق إلى التخلي عن دعمها للمقاتلين الكرد، تحت ضغط تهديدات اجتياح الجيش التركي للشمال السوري من جهة، وغياب الاتحاد السوفياتي، الذي انهار أمام المشروع الأميركي، من جهة ثانية، وهو ما تسبّب باعتقال الزعيم الروحي والعقائدي للكرد الأوجلانيين عبد الله أوجلان، من خلال التواطؤ بين الاستخبارات الإسرائيلية والاستخبارات التركية، ومعرفة الاستخبارات الأميركية، وهو ما ترك آثاره السلبية في العلاقة بين الطرفين، وخصوصاً بعد أن شهدت العلاقات السورية التركية انفراجاً كبيراً استمر حتى العام 2011، إثر بدء الحرب في سوريا بأشكالها المختلفة.
تغيّر الموقف بين دمشق وكردها بعد اندلاع الحرب في سوريا، فشهدت العلاقات في البداية تعاوناً كبيراً في الشمال السوري، وصل إلى حد انسحاب الجيش السوري من مناطق واسعة، لجمع قواته في المناطق الأكثر حساسية، وترك الفراغ لتملأه وحدات حماية الشعب بالسلاح السوري.
لكنَّ المشهد تغير بين الطرفين بعد العام 2014، وبعد دخول تنظيم “داعش” في الحرب، ما شكَّل ذريعة لدخول الجيش الأميركي، بحجة مكافحة الإرهاب، ليتقدم بعدها الطرح السياسي لحزب الاتحاد الديمقراطي “الأوجلانيين”، وتحين “الفرصة التي لا تعوض، بضعف الدولة السورية، وتعزيز فكرة الإدارة الذاتية، ومحاولة تعميمها كحلٍّ سياسي على مستوى سوريا بأكملها”، وهو ما رفضته دمشق بشكل قاطع، على الرغم من كل الحوارات التي دارت بين الطرفين، بمساعدة روسية في أكثر الأحيان.
واستثمر قادة حزب الاتحاد الديمقراطي الاحتلال الأميركي، وتوسعت مجالات سيطرتهم على كامل الجزيرة السورية، وصولاً إلى منطقة البوكمال على الحدود العراقية السورية، بغطاء جوي أميركي، ووضع اليد على حقول النفط والغاز ومنشآت حقل غاز الطابية كونيكو، إضافة إلى القيمة الزراعية الضخمة للمنطقة، التي تُعتبر السلة الغذائية لكلِّ سوريا.
وقد ترافق ذلك مع دعم ماليٍّ كبير من الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، ودعم سياسي مصري، بعد السماح لهم بافتتاح مكتب تمثيلي في القاهرة، وهو ما أتاح لهم نقاط قوة في التعاطي مع دمشق. ومع ذلك، لم تنقطع العلاقة معها، رغم تدني مستواها إلى الحدود، وانحصارها بعلاقات اقتصادية تتيح لدمشق تجاوز بعض العقوبات، وذلك بالحصول على 30% فقط من نفطها المُنتج، وفق ما حدده الأميركيون، كغضِّ نظر، والتصرف بباقي النفط وفق حصص موزعة بين أطراف متعددة، ليُحرم السوريون جميعاً من نفطهم، بمن فيهم أولئك الذين يعيشون في منطقة الجزيرة.
ولكنَّ أوراق القوة بدأت بفقدان ميزاتها، وخصوصاً بعد الانسحاب الأميركي المُذل من أفغانستان، بموازاة هاجس فقدان الثقة بالأميركيين، الذين سمحوا للجيش التركي بالتوغل في منطقة جرابلس، ومن بعدها احتلال عفرين وطرد أهلها، في عهدي الرئيسين المتناقضين الديمقراطي باراك أوباما والجمهوري دونالد ترامب، عدا عن المحاولات الأميركية لجمع “جبهة تحرير الشام” (جبهة النصرة التابعة للقاعدة سابقا) “والائتلاف” في حكومة واحدة، بديلاً عن “حكومة الإنقاذ” و”الحكومة المؤقتة”، ثم الذهاب نحو الكرد، وإيجاد صيغة مشتركة مع حزب الاتحاد الديمقراطي، إثر الفشل في إيجاد قاسم مشترك بين المجلس الوطني الكردي، الذي يُعتبر امتداداً لأربيل، وأنقرة، وبينهما “ما صنع الحداد”، وهو مشروع غير قابل للتحقيق، لاستحالة الجمع بين المتناقضات ورفض قادة جبل قنديل.
إضافة إلى كلِّ ذلك، أدرك القادة الكرد أن “نتائج الحرب الأوكرانية ستترك آثارها في العالم أجمع”، وأيقنوا أن “روسيا لا يمكنها أن تخسر الحرب، وليس أمامها سوى الانتصار، حتى لو اضطرت إلى استخدام السلاح النووي، ما يدفع إلى إنتاج نظام عالمي جديد، عماده الصين وروسيا والهند وإيران”، كما يعبر عن ذلك ألكسندر دوغين، المعروف “بعقل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين”، وأن محاولات الولايات المتحدة استغلال انشغال روسيا بالحرب الأوكرانية لجمع قوى الشمال السوري وترتيب المنطقة لن يكون قابلاً للحياة فيما بعد.
وربما ازدادت قتامة المشهد الإقليمي بالنسبة إلى الكرد بعد انفتاح دولة الإمارات العربية المتحدة على دمشق، وقرب انفتاح المملكة العربية السعودية ومصر عليها أيضاً، إضافة إلى القلق المتزايد، بعد الأنباء المتداولة عن لقاءات سورية تركية، رغم نفي مصدر من الخارجية السورية ذلك، وهو ما يؤكد لهم أنّ هناك محاولات عربية متعددة لإجراء مصالحة بين الرئيس السوري بشار الأسد والرئيس التركي رجب طيب إردوغان. وقد تنجح هذه المحاولات، ما يحوّل تجربة الإدارة الذاتية إلى كبش فداء بين حوافر القوى الإقليميّة والدوليّة.
بدورها، إن دمشق لا تستطيع الانتظار أكثر، وقد زادت الضغوط الاقتصادية على السوريين في مناطق سيطرتها، وضاقت سُبل الحل، “رغم الوعود الإماراتية بالدعم الاقتصادي في الأشهر القادمة”، لأن “طبيعة الوعود هي أقرب إلى الاختبار كتجربة أولى، لمعرفة إلى أيِّ حدٍ تستطيع دمشق تلبية رغبات أبو ظبي والرياض بتقليص علاقاتها مع إيران”. وقد ترافق ذلك مع “العجز عن إطلاق اقتصاد إنتاجي بديل من الاقتصاد الموازي” الذي عززته الحرب، والذي قد يكون مسؤولاً عن كثير من الإشكاليات في العلاقات الاقتصادية بين مناطق الجزيرة السورية وبقية سوريا.
في ظلِّ هذه الأجواء الملبّدة داخلياً وإقليمياً ودولياً، تجري المفاوضات بين دمشق والقامشلي، ويتم فيها “استخدام الضغوط المتبادلة بين أحياء الأشرفية والشيخ مقصود ومنطقة الشهباء في حلب (يقطنها قرابة 3 مائة ألف من كرد وعرب)، ومناطق وجود الحكومة السورية في مدينة القامشلي”، وهي مفاوضات كسابقاتها، لم ترتقِ إلى المستوى الاستراتيجي لإيجاد حلٍ نهائي “للانفصال الواقع بين ضفتي نهر الفرات”، وما زالت محصورة في المسائل الحياتية اليومية، لتيسير سبل التبادل التجاري والمسائل العالقة التي تسمح بحرية أكبر للانتقال وتوفر أجواء آمنة لحركة الأشخاص.
على الرغم من كلِّ ذلك، فإن دمشق وكردها لم يذهبوا نحو “المواجهة العسكرية”؛ فالطرفان حريصان على عدم استخدام السلاح بينهما، لإدراكهما بأن لا مفر في النهاية من الاجتماع تحت سقف الوطن السوري، مهما طال الزمن، ولكن بروحية جديدة مختلفة لا تتيح إنتاج دورات العنف والتدخل الخارجي، كما في كل الدورات السابقة، وهذا رهن بمدى قدرتهما على تحرير إراداتهما وإداراتهما.
الميادين -احمد الدرزي
اقرأ ايضاً:هجمات مجهولة تودي بمجموعة من المسلحين الموالين للجيش الأمريكي شرقي سوريا