عبد الباري عطوان: لماذا انفجر الغضب الرسمي السوري على أردوغان فجأةً؟
عبد الباري عطوان
خرجت وزارة الخارجيّة السوريّة عن صمتها وأصدرت بيانًا شديد اللّهجة، نفت فيه وجود أيّ اتّصالات مع تركيا “كما يزعم بعض المسؤولين فيها” مُؤكّدةً “أنه لا يُمكن أن يكون هُناك تعاون في مجال مُكافحة الإرهاب مع نظام إرهابي يدعم الإرهاب ويُدرّبه، وينشره في المنطقة والعالم”، وأضاف “أن آفة الكذب والتّلفيق لم تعد تقتصر على أردوغان بل انتشرت هذه العدوى لمسؤولين آخرين في نظامه”.
هذا الغضب الرسمي السوري الذي نقلته وكالة “سانا” الرسميّة يأتي ردًّا قويًّا على ما ذكره السيّد مولود جاويش أوغلو وزير الخارجيّة التركي “عن إمكانيّة التّعاون مع سورية في مُكافحة الإرهاب”، ولم يكن من قبيل الصّدفة أن يتطابق هذا النّفي السوري مع آخَر عِراقي على “ادّعاءات” للرئيس أردوغان تقول إن الغارات الجويّة التي تشنّها القوّات والطائرات التركيّة في شِمال العِراق تحظى بدعم الحُكومة العِراقيّة.
الرئيس التركي يُواجه أزمات اقتصاديّة وأمنيّة مُتفاقمة هذه الأيّام، حيث استَأنفت جماعات المُعارضة الكرديّة المُسلّحة المُقرّبة من حزب العمّال الكردستاني، حسب الرواية الرسميّة، هجماتها في إسطنبول وبعض المُدن التركيّة الأخرى، خاصَّةً “بورصة” السّياحة الشّهيرة، ولذلك لا يُريد إقناع الشعب التركي الذي بات “يتململ” قطاع عريض منه من سياسات حزب العدالة والتنمية مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة العام المُقبل، وباتت استِطلاعات للرأي تُرَجِّح ارتفاع حُظوظ أحزاب المُعارضة.
***
الادّعاء بدعم حُكومي عِراقي للهجمات الأخيرة في الأراضي العِراقيّة، ومُوافقة ضمنيّة سوريّة لأخرى في الحسكة في الشّمال، الهدف منه مُحاولة “إضفاء” نوع من الشرعيّة على هذه الهجمات التي تُشَكِّل انتهاكًا لسِيادة البلدين لامتِصاص الغضب في بعض أوساط الرأي العام التركي تُجاهها، خاصَّةً مع ارتِفاع عدد القتلى في صُفوف القوّات التركيّة إلى أربعة جُنود.
حُكومة الرئيس أردوغان وقوّاتها احتلّت أراضي عراقيّة في حجم لبنان أو أكبر، وأقامت عليها قواعد عسكريّة بالقُوّة يتواجد فيها آلاف الجُنود الأتراك ومعدّاتهم الثّقيلة، كما تفعل الشّيء نفسه في شِمال وشِمال غرب سورية، والذّريعة التصدّي للجماعات الإرهابيّة وهجماتها، في إشارةٍ مُباشرةٍ لحزب العمّال الكردستاني المُصَنَّف إرهابيًّا، والجماعات التركيّة السوريّة والعِراقيّة المُتحالفة معه.
هذه العمليّات العسكريّة التركيّة في البلدين الجارين (سورية والعِراق) ستُوحّدهما في جبهةٍ واحدةٍ ضدّ أنقرة، وربّما يتطوّر التّنسيق بينهما إلى دعمٍ “غير مُعلن” للجماعات الكرديّة المُناهضة للحُكومة التركيّة الحاليّة، لأنّه لا يُوجد الكثير الذي يُمكن أن تخسره حُكومتا البلدين في ظِل هذه السّياسات العُدوانيّة التركيّة.
تعاطي الرئيس أردوغان مع الحُكومتين السوريّة والعِراقيّة الذي يتّسم بالكثير من الغطرسة والفوقيّة سيُعطي نتائج عكسيّة سلبيّة على الأمن الداخلي التركي، أبرز أوجهه نقل العنف المُضاد إلى الداخل التركي مما يعني عدم الاستقرار وضرب القطاع السياحي الذي يعود على الخزانة التركيّة بما يقرب من الخمسين مِليار دولار، وتركيا قارّة من حيث المساحة، وهُناك أقليّات غير راضية عن حُكم حزب العدالة والتنمية، وسياساته سواءً الداخليّة أو المُتعلّقة بدول الجِوار، وخاصَّةً سورية، وهذه الأقليّات تُمثّل ما يَقرُب 40 بالمِئة من مجموع سُكّان تركيا إن لم يكن أكثر.
تصريحات وزير الخارجيّة التركي التي أوحى فيها أن سورية تُريد التعاون مع تركيا في الحرب ضدّ وحدات حماية الشعب الكرديّة في الشّمال والغرب السّوري هي التي أغضبت القِيادة السوريّة التي ترفض أيّ حِوار سياسي إلا بعد انسِحاب جميع القوّات التركيّة من الأراضي السوريّة دُونَ شُروط.
الرئيس أردوغان يعيش مأزقًا داخليًّا وخارجيًّا شائكًا، بعد إدراكه أن سياسة اللّعب على جميع الحِبال، وخاصَّةً في الأزمة الأوكرانيّة باتت تُعطي نتائج عكسيّة، وترتدّ سلبًا على تركيا وأمنها واستقرارها، فروسيا لا يُمكن أن تنسى له بيعه طائرات البيرقدار المُسيّرة لأوكرانيا التي ساهمت في قتل المِئات من جُنودها، وأن سِياسة الحِياد والرّغبة في الوساطة التي تُخفي خلفها خدعة لن تنطلي عليها، والشّيء نفسه يُقال عن كُل الدّول التي حاول أن يُصفّر مشاكله معها، وخاصَّةً مِصر والمملكة العربيّة السعوديّة، فثقة هؤلاء جميعًا به شِبه معدومة نظرًا لتقلّباته السياسيّة.
***
الرئيس بوتين قدّم للرئيس أردوغان سُلَّمّا طويلًا وصُلبًا للنّزول عن الشّجرة في الأزمة السوريّة، عندما عرض عليه في قمّة سوتشي الثنائيّة إحياء اتّفاق أضنة عام 1998 بين البلدين الذي يُكرّس التّعاون الجدّي بينهما للتصدّي للإرهاب ويُحقّق أمنهما، وكان صفحة جديدة في العُلاقات حقّقت ازدهارهما، ولكنّ الرئيس أردوغان رفض هذه المُبادرة وتهرّب منها، لأنّه لا يُريد إغضاب حُلفائه الإسلاميين الذين تخلّى عن مُعظمهم لاحقًا، والانسِحاب بالتّالي من الأراضي السوريّة، وعودة سيادة الدّولة إليها، ونقولها بكُل أسف.
مُشكلة الرئيس أردوغان الكُبرى أنه يُقدّم مصلحته الشخصيّة على مصلحة تركيا وأمنها واستِقرارها، ولهذا مُستَعِدٌّ أن يُقدّم تنازلات خياليّة لكُلّ خُصومه في “إسرائيل” ومِصر والسعوديّة والإمارات واليونان وقبرص وروسيا، ولكن عندما يتعلّق الأمر بسورية هو الاعتِراف بالهزيمة ولن يهدأ له بال طالما الرئيس الأسد في السّلطة حتى لو تدمّرت تركيا وتحوّلت إلى دولةٍ فاشلةٍ تعمّها الفوضى وانعِدام الأمن والاستِقرار.. واللُه أعلم
رأي اليوم