نشرت مجلة «ذا نيو ستيتسمان» مقابلة أجراها جورج إيتون، كبير المحررين في المجلة البريطانية، مع نعوم تشومسكي، المؤرخ والفيلسوف الأمريكي وأستاذ اللغويات، تحدث فيه عن المنعطف الخَطِر الذي تمر به البشرية اليوم ومحفزات الأمل في المستقبل.
معارض منذ الصغر
يقول الكاتب في مستهل المقابلة: كان نعوم تشومسكي في العاشرة من عمره عندما تصدى لأول مرة لمخاطر العدوان الأجنبي، ويتذكر تشومسكي ذلك عندما تحدثنا مؤخرًا في مكالمة عبر الفيديو قائلًا: «أول مقال كتبته كان لصحيفة المدرسة الابتدائية إبان سقوط برشلونة عام 1939». وأوضح تشومسكي أن مقاله ذلك كان يتحدث عن تقدُّم «السحابة القاتمة للفاشية» عبر العالم. وبطريقة ساخرة قال: «لم أغيِّر رأيي منذ ذلك الحين، فقط ازداد الأمر سوءًا»، وأخبرني تشومسكي أنه بسبب أزمة المناخ وخطر الحرب النووية «نحن نقترب من أخطر مرحلة في تاريخ البشرية، نحن نواجه الآن احتمال تدمير الحياة البشرية المنظمة على الأرض».
ولكونه في سن الـ93، وربما يكون هو أكبر العلماء الموجودين اليوم سنًّا، يمكننا أن نسامح تشومسكي على انسحابه من مجال العمل العام. ولكن في عصر الأزمات الدائمة، ما زال يحتفظ بالحماسة الأخلاقية لراديكالي شاب، وهو أكثر انشغالًا بفناء العالم من فنائه الشخصي. وكأنه إعلان يمشي على الأرض لوصية الشاعر الويلزي ديلان توماس في قصيدته الأشهر التي جاءت بعنوان: «لا تمضِ طائعًا في ذلك الليل العَذْب»، أو ما يسميها تشومسكي «نظرية الدراجة: إذا واصلت السير بسرعة، فلن تسقط».
كانت مناسبة حديثنا هي نشر كتاب سجلات المعارضة (Chronicles of Dissent)، الذي هو عبارة عن مجموعة من المقابلات بين تشومسكي والصحفي الراديكالي ديفيد بارساميان من 1984 إلى 1996. ولكن الخلفية هي الحرب في أوكرانيا، وهو موضوع يتحدث به تشومسكي بطلاقة ولا عجب.
طريقتان للنظر في غزو أوكرانيا
ينقل الكاتب عن تشومسكي قوله: «إنه لأمر شنيع لأوكرانيا». ويشترك تشومسكي مع عديد من اليهود في ارتباطه بِصلات عائلية في المنطقة، إذ وُلد والده في أوكرانيا الحالية، وهاجر إلى الولايات المتحدة عام 1913 لتجنب الخدمة في الجيش القيصري، ووالدته وُلدت في بيلاروسيا. وتشومسكي، الذي غالبًا ما يتهمه النقاد برفض إدانة أي حكومة معادية للغرب، ندد دون تردد بـ«العدوان الإجرامي» لفلاديمير بوتين.
ولكنه أضاف: «لماذا فعل بوتين ذلك؟ هناك طريقتان للنظر إلى هذا السؤال. إحدى هذه الطرق، هي الطريقة العصرية في الغرب، وتنطوي على سبر أعماق عقل بوتين الملتوي ومحاولة تحديد ما يحدث في قرارة نفسه. «والطريقة الأخرى هي النظر إلى الحقائق: فمثلًا، أصدرت الولايات المتحدة في سبتمبر (أيلول) 2021 بيانًا سياسيًّا قويًّا يدعو إلى تعزيز التعاون العسكري مع أوكرانيا، وإرسال مزيد من الأسلحة العسكرية المتقدمة، وكل ذلك كان جزءًا من برنامج تعزيز انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو. ويمكنك أن تختار أيًّا من الطريقتين؛ إذ لا نعرف حقًّا أيهما الخيار الصائب. وما نعرفه حقًّا الآن هو أن أوكرانيا ستتعرض لمزيد من الدمار. وربما ننتقل إلى حرب نووية نهائية إذا لم نقتنص الفرص الموجودة حاليًا للتوصُّل إلى تسوية تفاوضية».
هل أمريكا حقًّا راعية الديمقراطية في العالم؟
ولكن كيف يرد تشومسكي على الحجة القائلة إن خوف بوتين الأكبر ليس هو تطويق الناتو، بل انتشار الديمقراطية الليبرالية في أوكرانيا و«الخارج القريب» من روسيا؟
أجاب تشومسكي: «بوتين مهتم بالديمقراطية مثلنا، إذا كان بإمكانه الخروج من فقاعة الدعاية لبضع دقائق، وللولايات المتحدة تاريخ طويل في تقويض الديمقراطية وتدميرها، هل هناك حاجة لذكر هذه الوقائع؟ إيران عام 1953، وجواتيمالا عام 1954، وتشيلي في عام 1973.. إلخ. والآن من المفترض بنا أن نحترم التزام واشنطن الهائل بالسيادة والديمقراطية ونعجب به. وما حدث في التاريخ لا يهم، فذلك حدث لأشخاص آخرين».
«ماذا عن توسُّع الناتو؟ كان هناك تعهد صريح لا لبس فيه أطلقه وزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر والرئيس الأمريكي جورج بوش الأب لميخائيل جورباتشوف، رئيس الاتحاد السوفيتي، بأنه إذا وافق على انضمام ألمانيا الموحَّدة إلى حلف الناتو، فإن الولايات المتحدة ستضمن أنه لن يكون هناك تحرك قَيْد أُنمُلة واحدة باتجاه الشرق، وهناك قدر كبير من الحديث حول هذا الأمر يجري الآن».
وتشومسكي الذي لاحظ عام 1990 أنه «إذا طُبِّقت قوانين نورمبرج، وهي سلسلة من القوانين العنصرية صدرت عام 1935 وكانت من معالم السياسة التشريعية المناهضة لليهود في ألمانيا، فإن كل رئيس أمريكي شغل المنصب بعد الحرب كان من المفترض أن يُعدم، وتحدث بازدراء عن جو بايدن.
ملاحظات نعوم تشومسكي حول النفاق الغربي
ويشير الكاتب إلى تعليق تشومسكي على تصريح بايدن الأخير الذي قال فيه إن الرئيس الروسي «لا يمكن أن يظل في السلطة» قائلًا: «بالتأكيد هو أمر صائب أن يكون هناك غضبة أخلاقية من تصرفات بوتين تجاه أوكرانيا، ولكن سيكون هذا الفعل تقدميًّا أكثر إذا كان هناك غضب أخلاقي حول الفظائع الأخرى، ففي أفغانستان، يواجه الملايين حرفيًّا مجاعة وشيكة. لماذا؟ هناك طعام في الأسواق. صحيح، ولكن الأشخاص الذين يملكون قليلًا من المال عليهم أن يشاهدوا أطفالهم وهم يتضورون جوعًا لأنه لا يمكنهم الذهاب إلى الأسواق وشراء الطعام. لماذا؟ لأن الولايات المتحدة، وبدعم من بريطانيا، تحفظت على أموال أفغانستان في بنوك نيويورك ولم تفرج عنها».
يقول الكاتب: إن ازدراء تشومسكي لنفاق السياسة الخارجية الأمريكية وتناقضها مألوف لأي شخص قرأ أحد كتبه ونشراته (تنبأ أول عمل سياسي له «القوة الأمريكية والمندرين الجدد»، الذي نُشر عام 1969 بهزيمة الولايات المتحدة في فيتنام). إلا أنه ربما يكون حادًّا جدًّا الآن عند مناقشة عودة دونالد ترامب المحتملة وأزمة المناخ.
هتلر وترامب
وقال تشومسكي: «أنا متقدم في العمر بما يكفي لأتذكر أوائل الثلاثينيات، وهناك ذكريات تمر في عقلي. وأستطيع أن أتذكر الاستماع لخطب هتلر عبر الراديو، لم أفهم كلماته في ذلك الوقت؛ إذ كنتُ في السادسة من عمري، لكنني أدركتُ المزاج العام، وكان الأمر مخيفًا ومرعبًا، وعندما ترى أحد اجتماعات ترامب يصعب ألا تأتي هذه الذكرى إلى مخيلتك، هذا ما نواجهه اليوم».
يقول الكاتب: وعلى الرغم من أنه يُعرِّف نفسه على أنه لا سلطوي – نقابي أو اشتراكي تحرري، كشف تشومسكي لي بأنه صوَّت للجمهوريين في الماضي، (سواء أحببتهم أم لا، فإنهم كانوا حزبًا حقيقيًّا). ولكنه قال الآن بأنهم كانوا تمردًا خطيرًا حقًّا.
«وبسبب رجعية ترامب، فإن القاعدة الدينية للحزب الجمهوري بالكاد تَعُدُّ التغيُّر المناخي مشكلة حقيقية. وهذه مذكرة تنبيه بالموت لجميع الأنواع».
وفي مواجهة هذه التحديات الوجودية، ربما ليس من المستغرب أن يظل تشومسكي مثقفًا منشقًّا، على غرار أحد أبطاله، برتراند راسل (الذي عاش حتى عمر 97 واشتغل بالسياسة والفلسفة أيضًا). ولكنه لا يزال يقضي عددًا من الساعات يوميًّا في الرد على رسائل البريد الإلكتروني التي تصله من المعجبين والنقاد على حد سواء، ويدرِّس اللغويات في جامعة أريزونا، الولاية التي يعيش فيها مع زوجته الثانية، فاليريا واسرمان، وهي مترجمة برازيلية.
البريكست.. خطأ بريطانيا الذي سيجعلها رهينة لدى الولايات المتحدة
يلفت الكاتب إلى أن تشوسكي لا يزال منشغلًا بالسياسة البريطانية، وقال لي: «كان خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي خطأً كبيرًا جدًّا، وهو يعني أن بريطانيا ستضطر أكثر للانجراف نحو الخضوع للولايات المتحدة، وأعتقد أنها كارثة، وماذا يعني هذا لحزب المحافظين؟ أتخيل أنهم يستطيعون التنصل من ذلك من خلال الكذب، فهم بارعون في الكذب في كثير من الأمور ويفلتون به من العقاب».
وحول كير ستارمر، زعيم حزب العمال البريطاني، قال تشومسكي باستهزاء: «إنه يُعيد حزب العمال ليصبح خاضعًا للسلطة خضوعًا موثوقًا، وسيكون هذا خضوعًا للتاتشرية (كانت مارجريت تاتشر رئيسة وزراء المملكة المتحدة من 1979 إلى 1990، وزعيمة حزب المحافظين من 1975 إلى 1990) على طريقة توني بلير (كان رئيس وزراء المملكة المتحدة من عام 1997 إلى عام 2007 لثلاث فترات رئاسية متتالية، كما رأس حزب العمال منذ عام 1994 حتى 2007)، ولن يزعج هذا الولايات المتحدة أو أي شخص مهم في بريطانيا».
الأمل في المستقبل
ونصح الماركسي الإيطالي أنطونيو جرامشي الراديكاليين بالحفاظ على «تشاؤم الفكر وتفاؤل الإرادة». يقول الكاتب: سألت تشومسكي في ختام حديثنا، ما الذي يمنحه الأمل؟
قال: «كثير من الشباب، وحركة التمرد ضد الانقراض في بريطانيا، ومحاولات الشباب الصغار لمحاولة وضع نهاية للكارثة. والعصيان المدني، هذه ليست مزحة، لقد كنتُ منخرطًا في ذلك معظم حياتي، ولكني كبير في السن لأفعل ذلك الآن (قُبض على تشومسكي لأول مرة عام 1967 لاحتجاجه على حرب فيتنام وتشارك زنزانة مع الروائي نورمان ميلر). وليس من اللطيف بالطبع أن يُلقى المحتجون في السجن ويُضربون، ولكنهم على استعداد لفعل ذلك».
«هناك كثير من الشباب مرعوبون من الجيل الأكبر سنًّا، وهم محقِّون في ذلك، وهم منقطعون لإيقاف هذا الجنون قبل أن يبتلعنا جميعًا. حسنًا، هذا هو الأمل في المستقبل».
ساسة بوست
اقرأ أيضا: عبد الباري عطوان: لماذا انفجر الغضب الرسمي السوري على أردوغان فجأةً؟