ومن منا لا يعرف عن سحر مدينة البندقية وزارها أو يخطط لذلك يوماً، لكن هناك من يدفع ثمن التمتع بهذا السحر؛ إذ تشهد المدينة الإيطالية تناقصاً كبيراً في أعداد السكان، ورغم استفادتها اقتصادياً من السياحة، لكنها خسرت الكثير من سكانها الذين هاجروا نحو مناطق أقل ازدحاماً وضوضاءً، خاصة في ظل معاناة المدينة العائمة من تأثيرات ظاهرة الاحتباس الحراري.
ففي خمسينات القرن الماضي، كان عدد سكان مدينة البندقية يقدر بحوالي 175 ألف نسمة، لكن وبحسب صحيفة Courrier International الفرنسية، فإنّ الإحصائيات الرسمية تشير إلى أنّ العدد أصبح في الوقت الحالي 50.288 نسمة، وبحكم أنّ المدينة تفقد نحو 700 فرد في كل سنة، فمن المنتظر أن ينزل الرقم تحت حاجز الـ 50 ألفاً خلال العام الجاري 2022.
هذا الانخفاض اللافت للانتباه يرجع إلى سببين رئيسيين هما التحول التجاري للمدينة وارتفاع منسوب المياه، وفق مجلة Specchio الإيطالية.
مدينة البندقية وتاريخها
تقع مدينة البندقية، التي تسمى باللغة الإيطالية، “فينيسيا”، في شمال شرق إيطاليا، على ضفاف البحر الأدرياتيكي، وهي عبارة عن 121 جزيرة صغيرة، تفصل بينها مجموعة من القنوات المائية، وترتبط مع بعضها بـ 435 جسراً، وقد تأسست المدينة في العام 568 ميلادي، من طرف اللاجئين الذين فروا من البر الإيطالي بعد الهجوم الذي تعرضت له روما من طرف “اللومبارديين”، في السنة نفسها.
هجرة سكان مدينة البندقية.. السياحة وارتفاع أسعار العقارات
أدت السياحة التي تعرفها المدينة العائمة منذ سنوات عديدة، إلى ارتفاع أسعار العقار والمنازل، ما جعل الطبقة الوسطى وأصحاب الدخل المنخفض يبحثون عن أماكن أخرى للعيش بالبر الإيطالي بأقل كلفة.
كما أنّ معظم البيوت والمحلات الواقعة على ضفاف البحر الأدرياتيكي ومختلف القنوات المائية الفاصلة بين الجزر الصغيرة للمدينة، أصبحت غير صالحة للسكن بسبب تعرضها باستمرار للفيضانات وارتفاع منسوب المياه، ما تسبب في هجرة ساكنيها، باستثناء الأغنياء منهم، القادرين على تمويل تكاليف استمرار العيش في هذه الأماكن الخطرة، كالصيانة والتأمين والضرائب المتعلقة بالوقاية من الفيضانات.
وقد طالب السكان الصامدون بوقف التدفق الهائل للسياح الذي بات يزعجهم ويؤثر على نمطهم المعيشي وحياتهم اليومية فانتهى الأمر أخيراً، بسماع غضبهم من طرف السلطات المحلية، بفرض بعض القيود على السائحين.
قيود على السائحين في البندقية للحد من تزايدهم المستمر
في كل سنة تستقبل البندقية حوالي 30 مليون سائح، يزورون مركزها التاريخي وقنواتها التي صنفتها منظمة اليونيسكو كتراث عالمي.
ولكن منذ شهر أغسطس/آب 2021، بات ممنوعاً على البواخر السياحية التي تفوق حمولتها 25 ألف طن، عبور قناة Giudecca، أحد الممرات الرئيسية للمدينة، كما سيكون على كل زائر، بدايةً من الصيف القادم ، الحجز عبر بوابة إلكترونية، للموافقة على دخوله المدينة، كمرحلة أولى، ثم دفع مبلغ يتراوح ما بين 3 و10 يوروهات، حسب الموسم السياحي، بداية من شهر يناير/كانون الثاني، للعام القادم 2023، وفق ما ذكرته صحيفة La Repubblica الإيطالية.
كما أوضح عضو مجلس مدينة البندقية، المسؤول عن السياحة، سيمون فينتوريني، في تصريح لذات الصحيفة الإيطالية، أنّه سيتم تحديد سقف 40 : 50 ألف زائر في اليوم الواحد، مع إمكانية وضع حواجز في المداخل الرئيسية للمدينة.
جاء الكشف عن هذا الإجراء الجديد، متزامناً مع نهاية عطلة عيد الفصح، التي شهدت اجتياح 120 ألف سائح لمدينة البندقية، يوم السبت 16 أبريل/نيسان 2022، ثم ارتفاع العدد إلى 158 ألفاً في اليوم التالي.
إجراءات أخرى لـ”مكافحة السياحة”
كما تستعد البندقية للمصادقة قريباً على قانون يحظر فتح أي نشاط تجاري جديد منخفض التكلفة في بعض المناطق التاريخية لوسط المدينة، حيث تكثر حركة المشاة وتوجد مبانٍ محمية.
وذكرت صحيفة Le Figaro الفرنسية، يوم 18 أبريل/نيسان 2022، نقلاً عن جريدة Corriere della Sera الإيطالية، “سيُمنع فتح نقاط بيع جديدة للأقنعة والهدايا التذكارية غير الحرفية وآلات البيع الذاتي والمغاسل وحتى محلات البقالة التي تبيع المشروبات والوجبات الخفيفة. يُسمح فقط للجزارين وبائعي الأسماك ومحلات الفاكهة والخضروات”.
وعلى الرغم من أنّ هذه اللوائح قد لا تكون كافية لمكافحة السياحة المفرطة، فإنّها تعتبر “قراراً شجاعاً لم يسبق له مثيل بإيطاليا “، بحسب ما صرح به عمدة المدينة، لويجي بروجنارو لصحيفة La Repubblica .
كما كتب بروجنارو على حسابه الرسمي بموقع تويتر: “السياحة بفينيسيا تبدأ من جديد. نسمة من الهواء النقي للوكالات السياحية. لقد أدرك الكثيرون اليوم أنّ نظام الحجز بالمدينة هو الطريقة الصحيحة من أجل إدارة أكثر توازناً للسياحة. سنكون الأوائل في العالم في هذه التجربة الصعبة”.
لا تُعد البندقية المدينة الوحيدة، في العالم، التي اتخذت، في الفترة الأخيرة، تدابير للحفاظ على تراثها وبيئتها، ففي ظل التأثير المزدوج للأزمة الصحية ( بسبب جائحة كورونا) والمخاوف البيئية؛ إذ أصبحت الكثير من الوجهات السياحية تفرض قيوداً على زائريها، كضريبة السياحة وزيادة أسعار مواقف السيارات وتحديد مدة الإقامة، على غرار مدينة “ماتشو بيتشو” الأثرية بدولة ألبيرو، مثلاً التي تُحدد مدة الإقامة بها لمدة 4 ساعات فقط كحد أقصى، أو جزيرة “الفصح” بالمحيط الهادي، التابعة لدولة تشيلي، والتي لا تتعدى مدة الإقامة بها أكثر من 30 يوماً.
اقرأ أيضا: من معبد لإله الشمس إلى كنيسة رومانية فمسجد.. تاريخ بناء جامع النوري الكبير في حمص